السيطرة على معدلات الخصوبة في البلدان الفقيرة، كانت هدفًا رئيسيًا للدول الشرق آسيوية مثل الصين وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة، ضمن استراتيجيتها التي بدأت في العقود الأخيرة من القرن الماضي للتحول إلى دول غنية ومتقدمة ذات قوة مالية وتصنيعية مؤثرة.
نجحت هذه الدول بالفعل في ضبط معدلات المواليد لديها وتمكنت من رفع مستويات الدخل، لكنها الآن تسارع إلى عكس هذا التوجه وتشجع الزواج والإنجاب، في ظل الخوف من نقص الأيدي العاملة اللازمة وارتفاع أعمار المجتمعات، الذي بات معضلة رئيسية للعديد من البلدان وربما العالم أجمع.
في الصين، صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، تراجع عدد المواليد الجدد في العام الماضي بنسبة 15%، وهو تراجع محبط جاء بعدما انخفض العدد بالفعل في عام 2019 إلى أدنى مستوياته منذ 70 عامًا، وذلك رغم إنهاء سياسة "الطفل الواحد".
جارتها اليابان، صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في العالم، انخفض عدد المواليد الجدد بها دون مستوى 900 ألف في عام 2019 لأول مرة منذ بدء الإحصاءات، لكن الأسوأ كان يتعلق بمعدل الوفيات الذي سجل تقريبًا 1.4 مليون حالة وفاة في نفس العام، وهذا يعني أن تعداد السكان تناقص بأكثر من 500 ألف شخص.
هذا يجعل البلاد– التي تحاول بجهد أكبر من الصين تشجيع التزاوج والإنجاب – في منتصف أزمة ديموغرافية جامحة، حيث يرتفع عدد السكان في مرحلة الشيخوخة، في ظل الإحجام عن التزاوج والإنجاب، ما يشكل تهديدًا خطيرًا للنشاط الاقتصادي، خاصة في مجتمع منغلق مثل اليابان، والذي بدا مضطراً للانفتاح على استقبال العمالة الأجنبية لمواجهة أزماته الخاصة.
وعلى مسافة ليست بالبعيدة، ارتفع عدد الوفيات متجاوزًا المواليد الجدد في كوريا الجنوبية، لأول مرة على الإطلاق، خلال العام الماضي، فيما قد يكون انقلابًا مبكرًا لمنحنى النمو السكاني في البلد الذي توقع وصول إجمالي عدد السكان إلى مستوى الذروة في عام 2028.
الأزمة عالمية
- ربما كانت السياسات المتبعة في هذه الدول سببًا وراء إعراض المواطنين عن الإنجاب، أيضًا وفرة فرص العمل (خاصة للنساء) تعني أن الأشخاص يضعون خيار "مسؤولية الطفل" في مرتبة متأخرة، ويساعد تقدم الخدمات الصحية في زيادة متوسط عمر الإنسان.
- الأزمة ليست مقتصرة على بلدان شرق آسيا، والمخاوف المرتبطة بها تتردد في بلدان متقدمة غربية، ومع ذلك، يحذر العلماء من أنها ستغدو أكثر عالمية ولن تكون مقترنة برغبة الأشخاص أنفسهم أو سياسات الحكومات.
- القدرة على التزاوج والإنجاب أمر أساسي للمستقبل القابل للازدهار لأي كائن حي، لكن إذا كانت بعض المواد الكيميائية تضر بخصوبة البشر على المدى الطويل، فقد ينتهي الأمر بالبشر كأنواع مهددة بالانقراض.
- حذرت "شانا سوان" عالمة الأوبئة البيئية والتناسلية في كلية الطب في ماونت سيناي في نيويورك، من أن المواد الكيميائية كانت سببًا على مدى عقود في انخفاض معدلات الخصوبة في الرجال، نظرًا لأنها تعطل النظام الهرموني للجسم.
- خلصت دراسة شاركت فيها "سوان" إلى أن الخصوبة لدى الرجال في العالم الغربي انخفضت بنسبة 59% بين عامي 1973 و2011، ومع انخفاض مستويات هرمون التستوستيرون والانتشار المتزايد للأمراض التناسيلة بما في ذلك سرطان الخصية، ارتفعت "التغيرات التناسلية السلبية للرجال" بنسبة 1% سنويًا، بحسب العالمة.
- تقول "سوان" إن مضي المنحنى بنفس الوتيرة يعني أنه سيصل إلى الصفر في عام 2045، وبقول آخر إن الرجال في المتوسط لن يكون لديهم في الأساس القدرة على الإنجاب.
- انخفض معدل الخصوبة العالمي (عدد المواليد لكل امرأة) من 5.06 في عام 1964 إلى 2.4 في عام 2018، واليوم ما يقرب من نصف دول العالم لديها معدلات خصوبة أقل من مستوى الاستبدال (الذي يحافظ على تعداد السكان بلا تناقص) البالغ 2.1 مولود، وبحلول عام 2050، سترتفع هذه النسبة إلى ثلثي الدول.
معنى ذلك: الكثير من الأخطار
- في عام 2020، أدى النقص البالغ 20% في الخصوبة إلى ما دون معدل الاستبدال في الولايات المتحدة، مع تراجع صافي الهجرة، إلى أدنى نمو سكاني على الإطلاق بلغ 0.35%، أي أقل من جائحة الإنفلونزا في عام 1918.
- من المتوقع أن تشهد العديد من البلدان، بما في ذلك إيطاليا وكوريا الجنوبية واليابان، انخفاضًا في عدد سكانها بأكثر من النصف بحلول نهاية هذا القرن، علمًا بأن لوباء فيروس كورونا تأثيرًا متزايدًا عميقًا، مع انخفاضات مؤقتة في الخصوبة بنسبة 5-15 في المائة في معظم البلدان المتقدمة.
- يؤدي انخفاض النمو السكاني مباشرة إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، كما يؤدي انخفاض معدل الخصوبة إلى زيادة نسبة كبار السن بين السكان. في الصين مثلًا، ارتفعت نسبة الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 60 عامًا فأكثر من 6% عام 1970 إلى 17%، ومن المتوقع وصولها 35% خلال 30 عامًا.
- سيؤدي هذا الاتجاه إلى زيادة العبء بشكل كبير على أنظمة معاشات التقاعد والأنظمة الطبية حيث يكافح عدد أقل من العمال لرعاية عدد متزايد من المتقاعدين، ومع استنزاف كبار السن للمزيد من الموارد، ونقص العمال الشباب الذين يحتاجون إنفاقًا رأسماليًا أكبر للحفاظ على الإنتاجية، من المرجح أن ينتهي العصر الحالي من المدخرات الزائدة.
- من المرجح أن يؤدي هذا أيضًا إلى ارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة الحقيقية كالتي كانت سائدة في حقبة ما قبل عام 2000، وسيكون مصحوبًا ذلك بالعودة نحو المستويات المتوسطة الأدنى لأسعار الأصول التي ميزت القرن العشرين.
هل من حل؟
- بالنسبة لبعض الدول المنغلقة مثل الصين واليابان، يمكن أن تتصدى لتحديات النمو التي تفرضها شيخوخة السكان من خلال تخفيف سياسة الهجرة، وتمديد سن التقاعد، والاستثمار أكثر لجعل العمال الأكبر سنًا أكثر إنتاجية.
- كما يجب إنشاء أنظمة رعاية صحية ومعاشات تقاعدية شاملة تدعم صحة وإنتاجية أفضل للجميع على مدى دورة الحياة، إلى جانب الاستثمار في البنية التحتية والابتكار والتعليم التي ستدعم النمو المطرد في الإنتاجية.
- إلى جانب القضايا الاجتماعية والسياسات الحكومية التي تحتاج إلى إعادة نظر، فإن عشرات الآلاف من المركبات الكيميائية العضوية الاصطناعية التي يستخدمها البشر في الحياة اليومية تساهم في هذه التأثيرات، مثل "بيسفينول أ"والفثالات والمركبات المشبعة بالفلور، وهناك حاجة إلى مزيد من البحث لاكتشاف المذنبين الآخرين.
- بينما حظرت الولايات المتحدة 11 مادة فقط في مستحضرات التجميل، يحظر الاتحاد الأوروبي أكثر من ألف مادة، وهو نهج يحتاج إلى تعميم وتعميق في أنحاء العالم، كما يجب حظر المواد المسببة لاضطرابات الغدد الصماء تمامًا، ووضع لوائح أكثر صرامة للإشراف لإثبات سلامة المواد الكيميائية الجديدة قبل طرحها في الأسواق.
- بغض النظر عن التوازنات الغربية والشرقية، ومن أجل الحفاظ على سلامة الجنس البشري واقتصاده وإنتاجيته، وما دام ذلك مترابطًا في عالم واحد، يجب أن تكون هناك جهود متناغمة للحد من الخطر الذي يواجه سكان الأرض.
المصادر: أرقام- أكسيوس- فايننشال تايمز- بارونز- بلومبيرغ
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}