نبض أرقام
08:16 ص
توقيت مكة المكرمة

2024/12/18
2024/12/17

بسبب طمع الكبار .. كيف أشعل "شبل النمر" شرارة أزمة مالية عالمية جديدة؟

2021/04/02 أرقام - خاص

رجل يعرف عنه الطمع بنى دارًا ورفض أن يسكن فيها إلا شخص صاحب مال وفير يستطيع أن يدفع له الكراء، ووجد بالفعل ذلك الرجل الذي توسم فيه الثراء وسمح له بالسكن في الدار قبل أن يكتشف لاحقًا أن ساكنه الجديد مفلس لا يملك ما يدفعه ككراء. فقالوا عن هذا وذاك في الأمثال العربية: "طمعنجي بنى له بيت فلسنجي سكن له فيه".

 

هذه الحكاية وذلك المثل هما ما يتبادر إلى ذهن أي متابع لما يجري في سوق الأسهم الأمريكي خلال الأيام الأخيرة. قصة ربما تكررت على مسامعكم حدَّ الملل، نفس الأحداث وإن اختلفت بعض التفاصيل. مستثمر مؤسساتي كبير يدخل في رهانات عالية الخطورة بدعم من أكبر المؤسسات المالية في السوق المتعطشة للربح، فتحدث هزة ما وتخرج الأمور عن السيطرة فيهرع الكبار لإنقاذ أنفسهم بأي ثمن على حساب استقرار السوق وصغار المتداولين فيه! هل يذكركم هذا بأي شيء؟

 

 

وهناك سؤال آخر لا يقل أهمية، من يستطيع منكم حل اللغز التالي؟: شركة إعلامية أمريكية كبيرة دخلت عام 2021 بينما يستقر سعر سهمها عند 37 دولارًا تقريبًا، ولكن بشكل ما تمكن سهمها من الارتفاع بنسبة تقترب من 300% ليتجاوز سعره حاجز الـ100 دولار لأول مرة في تاريخه في غضون فترة لا تزيد على 100 يوم، وذلك رغم عدم مرور الشركة بأي أحداث مهمة أو مؤثرة.

 

إلى هذا الحد ربما تكون الأمور مريبة بعض الشيء ولكنها في النهاية قابلة للتفسير بشكل ما، وذلك إلى أن يظهر عنصر آخر يزيد الغموض غموضًا، ففي كل مرة تعثر فيها السوق الأمريكي خلال هذه الفترة حافظ هذا السهم على ارتفاعه بشكل مستمر. فعلى مدار الـ100 يوم الأولى من 2021 تحرك السهم في اتجاه واحد وهو الأعلى.

 

الصعود المريب الذي شهده سعر السهم، لفت نظر صغار المتداولين في السوق، الذين كانت لهم بعض النظريات في تفسير ما يحدث. بعضهم اعتقد أن السهم ربما هدف لعمليات شراء مكثفة من قبل متداولي الإنترنت مثله مثل سهم "جيم ستوب"، فيما اعتقد آخرون أن الشركة ربما هدف لعملية استحواذ! لكن لا هذا ولا ذاك كان صحيحًا، وأكثر من يعرف هذا هم عدد من كبار المديرين التنفيذيين في وول ستريت الذين انكشفت علاقتهم بالأمر في فضيحة هزت أرجاء السوق الأمريكي خلال الأيام الماضية.

 

كيف بدأ كل شيء؟

 

قبل ما يزيد قليلًا على ثماني سنوات وتحديدًا في ديسمبر 2012 أقر المستثمر الكوري الأمريكي الشهير "بيل هوانج" المعروف بـ"شبل النمر" بالذنب بالنيابة عن صندوقه "تايجر آسيا مانجمنت" خلال محاكمته أمام القضاء الأمريكي في تهمة متعلقة بتورط الصندوق في التداول بناءً على معلومات داخلية، قبل أن تحكم المحكمة بتغريمه 44 مليون دولار.

 

في أي سوق بالعالم، من المفترض أن يصبح رجل مدان بالاحتيال مثل "هوانج" شخصًا منبوذًا من قبل المؤسسات المالية الكبيرة الراغبة في الحفاظ على سمعتها وقبل ذلك على أموالها. وفي أغلب الأحوال هذا ما يحدث فعلًا لشخص مثل "هوانج"، ولكن إذا حضرت الأموال وحضر معها الطمع على مائدة المفاوضات، يمكن أن يحصل حتى تاجر المخدرات المكسيكي "إل تشابو" نفسه على استثناءات.

 

 

"هوانج" الذي كان يعد في وقت من الأوقات واحدًا من أنجح مديري صناديق التحوط في وول ستريت، حاول في الفترة ما بين عامي 2016 و2018 التواصل مع بنك "جيه بي مورجان" للحصول على دعم قسم الوساطة لديه في الاستثمارات الخاصة بصندوق التحوط الذي أسسه في عام 2013 تحت اسم "أركيجوس كابيتال مانجمنت"، ولكن البنك الأمريكي رفض التعامل معه. حين رفض "جي بي مورجان" التعامل مع "هوانج" في ذلك الوقت لم يكن البنك يعرف أنه بذلك ينقذ نفسه من خسائر بمليارات الدولارات فضلا عن فضيحة ستهز أركان السوق في 2021.

 

اتجه "هوانج" إلى بنوك أخرى، ربما أهمها "جولدمان ساكس" الذي حاول مديروه التنفيذيون في قسم الوساطة فتح حساب له أكثر من مرة على مدار سنوات، ولكن في كل مرة كان قسم "الامتثال" في البنك يرفض ذلك. ولكن في الأشهر الأخيرة من عام 2020 تمكن "هوانج" أخيرًا من إقناع "جولدمان ساكس" بالتعامل معه، ليبدآ معا رحلة انتهت على نحو سيئ.

 

"جولدمان ساكس" لم يكن سوى واحد من مجموعة بنوك أخرى قررت التعامل مع "هوانج" طمعًا في مكاسبه التي يزعم أن باستطاعته تحقيقها، وضمت القائمة كلًا من البنك الأمريكي "مورجان ستانلي" والألماني "دويتشه بنك" والسويسري "كريدي سويس" والسويدي "يو بي إس" والياباني "نومورا". كل هذه البنوك بدأت في العمل مع "هوانج" كوسطاء لمغامراته الاستثمارية.

 

كيف يعمل "هوانج"؟.. أخطر أداة استثمارية في العالم

 

في العام 2002 وأثناء حديثه أمام مساهمي شركته "بيركشاير هاثاواي" وصف المستثمر الأمريكي الشهير "وارن بافيت" عقود المشتقات المالية باعتبارها "أسلحة الدمار الشامل المالية". وقبل أن تمضي سنوات ست صدق كلام الرجل، حيث تسببت المشتقات المالية في وقوع أزمة الرهون العقارية في الولايات المتحدة، والتي جعلت الأسواق المالية أقرب ما تكون إلى حافة الهاوية.

 

الآن مع "هوانج" يكرر التاريخ نفسه وإن كان على نطاق أصغر. تعتمد استراتيجية صندوق التحوط "أركيجيوس كابيتال مانجمنت" البالغة أصوله نحو 10 مليارات دولار والمدار من قبل "هوانج" على التداول في الشركات المدرجة بالبورصة في أمريكا وأوروبا والصين واليابان باستخدام نوع من عقود المشتقات يطلق عليه اسم "عقود الفروقات" Contracts For Difference (CFDs).

 

 

هذه العقود هي عقود تسمح لـ"هوانج" بالرهان على اتجاه أسعار الأسهم دون أن يبيعها أو يشتريها ومن غير أن تنكشف هويته! ولكن كيف يمكن هذا؟ ببساطة كل ما على "هوانج" فعله هو اختيار أي سهم يعجبه في السوق للمراهنة عليه، وحينها يبدأ دور البنوك التي تعمل كوسيط له، حيث تشتري الأسهم بالنيابة عنه وتحتفظ هي بملكيتها، فيما يتحمل "هوانج" نفسه مخاطرها الاقتصادية.

 

في إطار هذا العقد يلتزم "هوانج" بدفع هامش من قيمة الصفقة في صورة نقدية للبنك، والذي يقوم بدوره بتمويل باقي الصفقة. ونظرًا لأن هذه العقود تتم مقاصتها بشكل يومي لتسوية الأرباح والخسائر، كان على "هوانج" الالتزام بتوفير نوع آخر من الضمانات يعرف باسم "هامش التباين" أو "Variation Margin".

 

"هامش التباين" هو حساب فيه أموال أخرى غير تلك التي دفعها "هوانج" كهامش للصفقة، يفتحه لدى البنك الوسيط بحيث يغطي أي خسائر قد يتكبدها مركزه المفتوح. هذه الأموال بمجرد أن تنخفض دون حد معين يعرف بهامش الصيانة (Maintenance Margin) يجد "هوانج" نفسه في مواجهة ما يسمى بالـ Margin Call أو طلب رفع الرصيد. هذا في حال تكبد المركز خسائر، أما لو كان الحال هو العكس، سيدفع البنك المال لـ"هوانج".

 

 

رغم خطورتها الواضحة إلا أن عقود الفروقات كانت بها ميزة ساهمت في شعور البنوك التي تطوعت للعمل كوسيط لحساب "هوانج" بمزيج من الاطمئنان والثقة، وهي امتلاك الوسيط الحق في تسييل المركز بالإجبار وبيع كل شيء باعتباره المالك الرسمي، وذلك في حال عدم تمكن "هوانج" من تلبية طلب رفع رصيده بحساب هامش التباين.

 

كيف انهار كل شيء؟

 

بدعم من البنوك الكبرى دخل "هوانج" من خلال صندوقه "أركيجيوس كابيتال مانجمنت" في رهانات كبيرة على أسهم شركتي الإعلام الأمريكيتين " فاياكوم سي بي إس" و"ديسكفري كوميونيكيشنز" وشركة البيع بالتجزئة البريطانية "فارفيتش" بالإضافة إلى الشركات الصينية الأربعة "جي إس إكس تيتشيدو" و"تينسنت ميوزك" و"بيدو" و"آي كيو آي واي آي" العاملة في مجالات التعليم والموسيقى والبحث والترفيه على التوالي.

 

في البداية مضت الأمور على نحو ممتاز، وحقق "هوانج" ومعه البنوك التي تدعمه في مغامراته مقابل حصولها على رسوم كبيرة مكاسب ممتازة إلى أن انتهى الأمر على النحو المعتاد، بعد أن جاءت الرياح بما لا تشتهيه سفنهم خلال الأسابيع الأخيرة. أكثر الأسهم التي كان يراهن عليها "هوانج" انخفض سعرها ماضية في اتجاه معاكس لمصلحته مما وضعه في مواجهة ما يسمى بطلب رفع رصيد الهامش من أجل تغطية خسائره المستمرة في الازدياد.

 

في الخامس عشر من فبراير وصل سعر سهم شركة "فارفيتش" إلى 60 يورو وهو أعلى مستوى في تاريخه، ولكن على مدار الأيام اللاحقة أخذ السهم اتجاهاً هبوطياً واضحاً إلى أن فقد ما يقرب من نصف قيمته في السادس والعشرين من مارس. أما سهم شركة خدمات البحث الصينية فهبط من 277 دولارا في 17 مارس إلى 204 دولارات فقط في 25 مارس.

 

 

الضربة الكبرى جاءت من شركة الإعلام الأمريكية "فاياكوم سي بي إس". تسببت رهانات "هوانج" العالية على السهم في تجاوز سعره لحاجز الـ100 دولار لأول مرة في تاريخه، حيث بلغت قيمة مركزه في هذه الشركة نحو 10 مليارات دولار، مما جعل البنوك الوسيطة عنه (بما أنه مجرد مراهن لا يملك شيئًا) أكبر مساهم في الشركة.

 

ولكن في الثاني والعشرين من مارس الماضي أعلنت "فاياكوم" خبرا صدم "هوانج" وحلفاءه، حيث كشفت الشركة عن عزمها بيع ما يوازي 3 مليارات دولار من الأسهم والديون القابلة للتحويل، وهكذا بدأت الحفلة! على مدار اليومين التاليين لذلك الإعلان تراجع سهم "فاياكوم" بأكثر من 30% مما تسبب في حصار "هوانج" في الزاوية، بعد أن سارعت إليه البنوك طالبة منه رفع رصيد حساب هامش التباين.

 

في هذه المرحلة كانت الصورة شبه واضحة، الموج أعلى من "هوانج" ولن يستطيع تغطية الهامش، ورغم ذلك كانت البنوك مترددة في التخلي عنه، لدرجة أن بعضهم ترجاه أن يبدأ في تقليص حجم مراكزه ليضع حدًا لخسائره ولكنه رفض وصمم على موقفه، فيما لم تنبس البنوك ببنت شفة أمامه لأن هذا النوع من العملاء نادرًا ما يرغب أحد في مضايقته.

 

الجمعة الدامية!.. الكل يقفز!

 

في ظل ضخامة قيمة مراكز "هوانج" التي تشير بعض التقديرات إلى أنها تقترب من 100 مليار دولار كان على البنوك التفكير في القفز من السفينة قبل فوات الأوان. وفي الخامس والعشرين من مارس اجتمع ممثلون عن البنوك المتورطة مع "هوانج" وصندوقه بواسطة من "كريدي سويس" على أمل أن يتمكنوا من التوصل لتفاهم يمكنهم من تنظيم عملية التخارج بأقل قدر من الخسائر، ولكن فشل الاجتماع وقرر كل واحد منهم النجاة بنفسه.

 

وهنا بدأت الفوضى في السوق. في نهاية الأسبوع الماضي وشاهدنا مجموعة من أكبر البنوك في العالم قررت فجأة بيع حيازات ضخمة تقترب قيمتها من 30 مليار دولار إجمالًا في شركات كبيرة ووازنة في السوق دون أي تنسيق فيما بينها، ليصاب الجميع بالذعر ويبدأ الكل في التساؤل ما الذي يحدث بالظبط؟

 

الجمعة الموافق السادس والعشرين من مارس كان يومًا لا ينسى! في صباح ذلك اليوم اتصل "جولدمان ساكس" بعدد من صناديق التحوط التي يتعامل معها عارضًا عليها شراء حيازاته من الأسهم التي يمتلكها بالنيابة عن "هوانج" منوهًا إلى أنه سيعطي الأولوية لمن يطلب أكبر كمية.

 

وفي نفس اليوم باع البنك جزءًا من حيازاته من بينها على سبيل المثال 100 مليون سهم من "تينسنت ميوزك" الصينية مقابل 1.8 مليار دولار. وفي وقت لاحق من نفس اليوم باع "مورجان ستانلي" 36 مليون سهم آخر من نفس الشركة مقابل 600 مليون دولار.

 

وفي ألمانيا تمكن "دويتشه بنك" يوم الجمعة أيضًا من بيع ما قيمته 4 مليارات دولار من حيازاته التي اشتراها لحساب الصندوق المتعثر. وهو نفس ما فعله كل من "كريدي سويس" و"نومورا" اللذين كشفا مؤخرًا عن أن خسائرهما المرتبطة بهذه الفوضى تقترب من 4 مليارات دولار للبنك السويسري وملياري دولار للبنك الياباني.

 

هذا ببساطة ما حدث.. وفي النهاية كل يغني على ليلاه! الجهات التنظيمية في الولايات المتحدة تقول إنها تراقب الوضع باهتمام بالغ، فيما تحسب البنوك الكبرى خسائرها وتحاول تضميد جراحها، أما وسائل الإعلام فوجدت لنفسها قصة تتحدث فيها.

 

ولكن كالعادة في مثل هذه الأزمات هناك منسيون تدوسهم أقدام كبار اللاعبين في السوق ولا ينتبه إليهم أحد رغم أنهم الضحية الأبرز وربما الوحيدة، والحديث هنا عن صغار المتدوالين الذين خسروا أموالهم وربما صحتهم النفسية بسبب التقلبات غير المبررة للأسهم محل المراهنة. ويبقى السؤال، هل سيبقى هؤلاء دائمًا بلا بواكٍ لهم؟

 

المصادر: أرقام – بلومبرج – فايناشيال تايمز – وول ستريت جورنال – نيويورك تايمز – ذي إيكونومست

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.