في الحادية عشرة وثماني وثلاثين دقيقة من صباح الثامن والعشرين من يناير 1986 انطلق مكوك الفضاء الأمريكي "تشالنجر" من منصة إطلاق الصواريخ في قاعدة كيبك انافيرال للقوات الجوية الواقعة في ولاية فلوريدا، جنوب شرق الولايات المتحدة، وذلك قبل أن ينفجر بعدها بنحو 74 ثانية بينما كان على ارتفاع 10 أميال.
بعد ثماني دقائق فقط من الانفجار، وصلت أصداء الحادث إلى وول ستريت. اندفع المستثمرون إلى التخلص من أسهم الشركات الأربع المشاركة في مشروع "تشالنجر"، وهي "روكويل إنترناشونال" التي بنت المكوك ومحركاته، و"لوكهيد" التي كانت تدير الدعم الأرضي، و"مارتن ماريتا" التي صنعت خزان الوقود الخارجي للمكوك، و"مورتون ثيوكول" التي بنت معززات المكوك الفضائي العاملة بالوقود الصلب.
دون أي دليل
عقب 21 دقيقة من الانفجار انخفض سهم "لوكهيد" بنسبة 5%، وتراجع سهم "مارتن ماريتا" بنسبة 3%، في حين انخفض سهم "روكويل" بنسبة 5%، أما سهم "مورتون ثيوكول" فقد كان الأكثر تضررًا. كان أكثر المستثمرين يحاولون التخلي عن سهم "ثيوكول" في نفس الوقت الذي لا يوجد فيه سوى عدد قليل من المهتمين بشرائه مما دفع الجهات التنظيمية لتعليق التداول على السهم.
عندما بدأ تداول السهم مرة أخرى بعد حوالي ساعة من الانفجار، تراجع سعره بنسبة 6%، وبحلول نهاية اليوم أغلق السهم على تراجع يقترب من 12%. على النقيض من ذلك عوضت أسهم الشركات الثلاث الأخرى جزءًا كبيرًا من خسائرها لتغلق على تراجع لم يزد في المتوسط عن 3%.
كان الانخفاض الحاد الذي شهده سهم "ثيوكول" بالمقارنة مع الانخفاضات الطفيفة التي شهدتها أسعار أسهم الشركات الثلاث علامة لا لبس فيها على ميل جمهور المستثمرين إلى الاعتقاد بأن "ثيوكول" هي المسؤول الرئيسي عن الحادث، وذلك على الرغم من أنه لم يصدر في ذلك اليوم أي تصريحات أو تعليقات تحمل الشركة أي مسؤولية باعتبارها الطرف المذنب.
في المؤتمر الصحفي الذي عقد في نفس اليوم الذي شهد الكارثة، قال المدير العام المساعد لوكالة ناسا "جيسيدبليومور" إنه يرفض التكهن بأسباب الكارثة حتى يتم إجراء تحقيق كامل، ستراجع خلاله كافة البيانات والمعلومات بشكل دقيق.
حتى مقالة نيويورك تايمز التي غطت الحادث في صباح اليوم التالي لوقوعه، وتناولت اثنتين من الشائعات حول أسباب انفجار المكوك، لم يكن فيها أي إشارة لمسؤولية "ثيوكول" بأي شكل عن الحادث، كما ذكرت الصحيفة بشكل حاسم في المقال أنه "لا توجد هناك أي أدلة على سبب الحادث".
رأي الخبراء .. المتسبب الحقيقي
رغم غياب أي أدلة تدعم اعتقاد جمهور المستثمرين بأن "ثيوكول" هي المتسبب الرئيسي في الحادث، اتضح لاحقًا أن السوق كان على حق، فبعد ستة أشهر صدر التقرير الخاص بحادثة انفجار المكوك تشالنجر عن اللجنة الرئاسية المشكلة من قبل إدارة الرئيس الأمريكي "رونالد ريجان" والذي خرج بنتائج صادمة.
كشف التقرير عن أن المادة المستخدمة في صناعة الحلقات المستديرة للمكوك تصبح أقل مرونة في الجو البارد مما خلق ثغرات في خزان الوقود الرئيسي أدت إلى احتراقه، وعلى هذا الأساس استنتجت اللجنة في النهاية أن الكارثة وقعت بشكل أساسي لأن الحلقة المستديرة لمتغلق جيدا في الطقس البارد غير المعتاد لمنطقة رأس كانيرفال التي انطلق منها المكوك.
باعتبارها الجهة المصنعة للحلقات المستديرة تم تحميل "ثيوكول" المسؤولية عن وقوع الانفجار وتبرئة الشركات الأخرى. هذا معناه أن سوق الأسهم عرف في نصف ساعة من انفجار المكوك المتسبب الحقيقي في الكارثة، في حين احتاجت جهات التحقيق لنحو 6 أشهر للوصول إلى نفس الاستنتاج.
رد فعل السوق السريع تجاه سهم "ثيوكول" والذي لا يزال يشكل لغزاً إلى اليوم، يثير التساؤل المنطقي التالي: كيف عرف جمهور المستثمرين من البداية أن "ثيوكول" هي المسؤولة عن الحادث؟ هذا السؤال حير الاقتصاديين قبل العامة، وهو ما دفع بعضهم إلى محاولة النظر عن قرب إلى تفاصيل ذلك اليوم.
هل فعلها مطلعون من الداخل؟
في سبتمبر من عام 2003 صدرت دراسة تحت عنوان "تعقيد عملية اكتشاف السعر في السوق الفعالة: رد فعل السوق تجاه تحطم تشالنجر" حاول الاقتصاديان "مايكلمالوني" و"هارولدموليرين" الوقوف من خلالها على أسباب التحركات السريعة والدقيقة من جانب السوق تجاه سهم "ثيوكول" في الدقائق التالية لانفجار المكوك.
حاول الاقتصاديان في البداية التأكد من صحة الاحتمال الأبرز في ذلك الوقت وهو قيام مطلعين من داخل "ثيوكول" نفسها ببيع حيازاتهم من السهم، لمعرفتهم المسبقة أن شركتهم هي المسؤولة عن الحادث، وعلى هذا الأساس قاما بفحص سجلات الصفقات الداخلية لمعرفة ما إذا كان المدراء التنفيذيون لـ"ثيوكول" متورطين في الأمر.
ولكن الدراسة انتهت إلى عدم دقة هذا الادعاء بعدما اكتشفت أنه لم يتم أي معاملات في ذلك الوقت من جانب المديرين التنفيذيين للشركة، كما أشارت كذلك إلى أن المديرين التنفيذيين للشركات الثلاث الأخرى والذين ربما سمعوا عن قصة الحلقات المستديرة لم يحاولوا بيع سهم ثيوكول على المكشوف.
وباستبعاد تورط المطلعين من الداخل في تحريك سعر سهم "ثيوكول" بهذا الشكل، لم يبق هناك سوى احتمال واحد، وهو أن جمهور المستثمرين – ومعظمه غير مطلع نسبيًا على أي معلومات داخلية – هم الذين رفضوا ببساطة شراء ذلك السهم، ولكن السؤال مرة أخرى: لماذا لا يريدون سهم "ثيوكول" تحديدًا رغم أنها حتى تلك اللحظة كانت مجرد واحدة من 4 شركات تشارك في المشروع، ولم يكن هناك ما يدل على أنها المسؤولة؟
في نهاية الدراسة اعترف الاقتصاديان بعجزهما عن تفسير تصرف السوق بطريقة توحي أنه يعرف من أول لحظة من المتسبب بالحادث، وهو ما ثبتت صحته لاحقًا. أما الأكثر إثارة للدهشة برأيهما فهو حقيقة أن الخسارة التي شهدتها القيمة السوقية للشركة في ذلك اليوم – 200 مليون دولار تقريبًا – كانت متساوية تقريبًا مع قيمة الأضرار والخسائر التي تكبدتها الشركة لاحقًا نتيجة للكارثة.
في كتابه الصادر في عام 2017 تحت عنوان "الأسواق التكيفية" يعيد أستاذ المالية في كلية سلوان للإدارة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا "أندرو لو" طرح نفس التساؤل مرة أخرى بعد مرور ما يقرب من 31 عامًا على الحادث باحثًا عن إجابة له قائلًا: "كيف تمكن سوق الأسهم في بضع ساعات من التوصل إلى حقيقة احتاج مجموعة من أفضل العقول على كوكب الأرض في اللجنة الرئاسية إلى أشهر للتوصل إليها؟
المصادر: أرقام – نيويورك تايمز
كتاب: Adaptive markets : financial evolution at thespeed of thought
كتاب: The Wisdom of Crowds
دراسة: The complexity of price discovery in an efficient market: The stock market reaction to the Challenger cras
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}