اتفقت 44 دولة في أثناء ذروة الحرب العالمية الثانية عام 1944، على ما أصبح نظامًا ماليًا للعالم أجمع آنذاك وحتى أوائل سبعينيات القرن الماضي، والذي ربط قيمتي الدولار والذهب بعضهما البعض وكان بداية عهد للمكانة المهيمنة للعملة الأمريكية.
رغم أن الاتفاق الذي أطلق عليه اسم "بريتون وودز" هُندس بأيدي الأمريكان وتم تمريره عن طريق ضغوط وألاعيب مارسوها على الآخرين، خاصة الإمبراطورية البريطانية، فإن نهايته كانت أيضًا على أيديهم وباختيارهم الحر والذي تحملت أعباءه دول أخرى.
رغم العيوب التي شابت هذا النظام، خاصة على صعيد الاقتصاد الأمريكي، فإنه كان دافعًا لما عُرف بـ"العصر الذهبي للرأسمالية" وهي فترة ممتدة من النمو المرتفع، ولعل ذلك ما يجعل الإشارة إليه حاضرة في كل حديث عن تجديد النظام المالي العالمي.
عادة ما يتواتر
الحديث عقب الأزمات الكبيرة، عن ضرورة العودة إلى نسخة معدلة من هذا النظام الذي أُعلنت نهايته رسميًا عام 1971، ويأتي ذلك تحت عنوانين مثل "بريتون وودز جديدة" أو "بريتون وودز التقدمية" كما طرحها "بيرني ساندرز".
ماذا أفرزت؟
- نتج عن ثلاثة أسابيع من المفاوضات مؤسستان عالميتان جديدتان هما، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وأيضًا عقلية اقتصادية مختلفة، تقر بالتعاون لضمان إعادة بناء الاقتصادات التي دمرتها الحرب بهدف بلوغ حالة "التوظيف الكامل"، بدلًا من السياسات الفردية الأنانية التي اتسمت بها فترة الثلاثينيات.
- مع ذلك لم تسفر "بريتون وودز" عن النتيجة المثالية، وجادل مندوب المملكة المتحدة، الاقتصادي الشهير "جون ماينارد كينز"، بأنه إذا واجهت دولة ما مشاكل في ميزان المدفوعات، فيجب أن يكون دائنوها ملزمين بالمساعدة من خلال زيادة وارداتهم.
- في المقابل أصرّت الولايات المتحدة (أكبر دولة دائنة في العالم في ذلك الوقت) على أن عبء تصحيح الأوضاع يجب أن يقع على عاتق الدول المدينة، وهو الأمر الذي أثر على الطريقة التي يعمل بها صندوق النقد الدولي منذ ذلك الحين.
- لكن في النهاية كان هناك توافق بين الجميع، وعلق "ماينارد كينز" في الختام بالقول: لو تمكننا من المواصلة، سيعني ذلك أن الأخوة الإنسانية غدت أكثر من مجرد شعار، في إشارة إلى آماله بشأن جهود التعاون الدولي.
مطالب العودة لها
- هناك أمران يعيدان للأذهان ذكرى "بريتون وودز" ويجعلانها أكثر صلة بالعالم اليوم، وهما التصرف السريع والكبير للدول آنذاك، حيث لم تنتظر البلدان انتهاء الحرب قبل طرح خططها لإعادة الإعمار، وأقرت إجراءات جريئة (بغض النظر عن تباين آراء الاقتصاديين فيها).
- كما أنهم لم يعتقدوا أن التكلفة المالية لتحقيق النصر تعني أن عليهم كبح جماح طموحاتهم، وعلى العكس من ذلك، فإن تجربة كل ما حدث في العقد ونصف العقد السابقين للاتفاق (انهيار وول ستريت، والبطالة الجماعية، وصعود الفاشية، والحرب العالمية الثانية) قدمت حجة مقنعة للتحرك، حيث كان الشعور السائد أن النظام معطل ولا بد من إصلاحه.
- الوضع اليوم له نفس أصداء عام 1944، حيث بدأت المشاكل بأزمة مالية عميقة لم تسفرعن نهج جديد بل العودة إلى العمل كالمعتاد، ثم ركود النمو، وتقلص المداخيل الحقيقية، وأصبح الناخبون أكثر غضبًا واضطرابًا، وتفرقت القوى العالمية الكبرى عن بعضها البعض.
- أيضًا ضاعت فرصة ضمان أن تكون النظم الصحية في البلدان الفقيرة أكثر قدرة على الصمود في وجه الوباء، ومر عقد أصبح فيه الكوكب أكثر حرارة ولم يتم فعل الكثير حيال ذلك.
قالت "كريستالينا جورجييفا"، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي في أكتوبر الماضي، إن العالم يواجه "لحظة بريتون وودز جديدة"، حيث كبدت الجائحة العالم خسائر فادحة في الأرواح وتسببت في كارثة اقتصادية، تزامنًا مع حالة من اليأس الإنساني لمواجهة الاضطرابات والفقر.
هل من عودة؟
- في حديثها العام الماضي، شددت "جورجييفا" على ضرورة اقتناص "لحظة بريتون وودز الجديدة" التي أشارت إليها، مؤكدة أن الظروف المحيطة باتفاقية الماضي قائمة الآن، حيث هناك سياسات اقتصادية كلية رشيدة ومؤسسات قوية، ما يشكل أساسًا راسخًا لدفع النمو والوظائف وتحسين مستويات العيش.
- للأسف، كانت معظم الأحداث في السنوات الأخيرة عبارة عن مؤتمرات حوارية وفرص لالتقاط الصور وليس أكثر من ذلك، وهذا غالبًا لأن الحضور لديهم أجندات مختلفة تمامًا أو لا يمكنهم الوقوف على مرأى من بعضهم البعض.
- تستضيف المملكة المتحدة اجتماعين دوليين مهمين في عام 2021؛ قمة مجموعة السبع في كورنوال الشهر المقبل، ومؤتمر تغير المناخ في غلاسكو خلال نوفمبر، وكلاهما يمكن أن يشكل العالم للعقد القادم وما بعده، والخبر السار هذه المرة هو أن هناك اتفاقًا تامًا إلى حد كبير على عدد من القضايا الرئيسية.
-يشمل ذلك التكاتف في تمكين الدول الفقيرة من مواجهة الوباء والتطعيم ضده، والعمل لمعالجة تغير المناخ الذي أصبح أمرًا أساسيًا لإعادة البناء بشكل أفضل، وضرورة زيادة الاستثمار في التكنولوجيا الخضراء بسرعة.
- يوضح تقرير اقتصادي يقُدم لرئيس الوزراء البريطاني "بوريس جونسون" حول اجتماع مجموعة السبع هذه النقاط بوضوح، ويؤكد ضرورة التصرف بحكمة في مواجهة مجموعة متشابكة من التحديات العالمية تشمل الصحة والنمو والوظائف وتغير المناخ والتنوع البيولوجي.
- يحذر التقرير من خطر ضياع فرصة التنمية في البلدان الفقيرة وضعف أو تعثر الانتعاش والنمو للعالم ككل، وبالتالي فإن هذه لحظة خاصة في التاريخ وتشكل فرصة يجب على المجموعة اقتناصها لتحقيق انتعاش منسق عالميًا، مدفوعًا بالاستثمار المستدام والابتكار.
النسخة الرقمية
- دعا بعض أصحاب الرأي والخبراء إلى عقد مؤتمر "بريتون وودز الرقمي" لوضع نظام عالمي جديد للحوكمة للعصر الرقمي، بما في ذلك مناقشة حول حوكمة الذكاء الاصطناعي، والبيانات، والمراجحة الضريبية من قبل الشركات متعددة الجنسيات، والمعايير الدولية لقياس الاقتصاد غير الملموس.
-"جيمس بالسيلي" المؤسس المشارك لمعهد "New Economic Thinking"، دعا صندوق النقد الدولي للدفع نحو "لحظة بريتون وودز الجديدة" لمعالجة هذه الحقائق العالمية الجديدة؛ نتيجة للقوى الرقمية غير المسبوقة التي تشكل العالم اليوم.
- في الجانب الرقمي على وجه التحديد، تشبه المناقشات الحالية حول الحوكمة مناقشات "بريتون وودز"، وقد قطعت الولايات المتحدة باعتبارها رائدة الاقتصاد الرقمي في العالم، شوطًا كبيرًا لإزالة الحواجز التي تواجه التجارة الرقمية من خلال تعزيز أهداف مثل التدفق الحر للبيانات.
- مع ذلك، فإن عددًا من الاقتصادات النامية والناشئة مثل جنوب أفريقيا والهند وإندونيسيا، تقاوم بشدة هذا التوجه، خوفًا من تأثيره على الاقتصادات الوطنية، لذا قد يكون من الأفضل تبني العالم نهجًا يشبه "بريتون وودز" لكن أكثر شمولًا لمعالجة مخاوف الدول الفقيرة وتحقيق المصلحة العامة العالمية.
المصادر: أرقام- الجارديان- ذا كونفرزشن- موقع صندوق النقد الدولي
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}