يذهب المرء إلى المتجر ليتبضع، تغريه عروض الأسعار الكثيرة فيقف يفكر ويقيم ويراجع، بغرض تحقيق التوازن بين التكلفة والجودة أو التكلفة والكمية التي سيتلقاها، وفي النهاية يحسم قراره لصالح أحد العروض السعرية.
من منا لا يصادفه هذا الموقف؟ تقريبًا لا أحد خاصة فيما يتعلق بالمنتجات الاستهلاكية التي لا يحتاج شراؤها لاستشارة فنية (عكس العقارات أو السيارات)، وغالبًا ما يكون الخيار لصالح المنتج الذي يحقق الفائدة الأكبر التي تشكل مزيجًا بين الكفاءة والثمن المدفوع مقابلها.
لا شك طبعًا أن الإنسان يتمتع بإرادة كاملة حرة لشراء ما يحتاجه، لكن عندما يتطلب الأمر المقارنة بين أكثر من عرض، فإن ذلك يستدعي الانتباه لواحدة من أشهر الحيل التسويقية التي تحث الناس على شراء منتج بعينه يحقق الفائدة الأكبر للمنتج وليس المستهلك.
تأثير الشرَك
- تعمد العلامات التجارية في مجالات مختلفة، منها السلع التقنية والمنتجات الغذائية، إلى هذه الاستراتيجية لحث المستهلكين على دفع أكثر مقابل النسخة الأغلى من منتجاتها بنفس راضية وشعور زائف بحرية الاختيار بين بدائل متعددة.
- في هذه الاستراتيجية، بدلاً من أن تطرح الشركة نسختين من نفس المنتج مع اختلافات في الحجم والسعر (كبير أغلى، وصغير أرخص)، فإنها تطرح بديلاً ثالثاً بتكلفة أكبر من النسخة الغالية أو قريبة منها مع حجم متوسط (لا كبير ولا صغير).
- في هذه الحالة، يستبعد المستهلك هذا المنتج المتوسط الحجم، لأن عند مقارنته، يبدو أن الكبير أفضل قيمة، لأنه يعطي حجمًا أكبر (قدرة استهلاكية أعظم) بنفس السعر تقريبًا أو أقل في بعض الحالات، تحفز هذه الاستراتيجية بيع المنتجات الأعلى تسعيرًا للعلامات التجارية.
- على سبيل المثال، إذا طرحت شركة للجوالات الذكية نسختين (س، ص) من أحد هواتفها بسعة تخزينية 128 جيجابايت و512 جيجابايت، مع سعر 1000 و1500 دولار على الترتيب، تقريبًا ستكون المنافسة على طلب النسختين متقاربة، وسيكون المعيار هو الأقل تكلفة أو الأكثر سعة.
- لكن لتغيير أساس المقارنة وتحفيز المستهلك لدفع المزيد، قد تعمد الشركة لطرح نسخة ثالثة (ع) متوسطة السعة (256 جيجا على سبيل المثال) وبسعر 1450 دولارًا وربما حتى سعر أعلى (1550 مثلًا)، وهو طرح غير منطقي ولن يحظى بقبول المستهلك.
- مع ذلك، فإنه يعطي أرضية جديدة للمقارنة، ويضمن بيع المزيد من النسخة (ص) الأغلى بين النسخ الثلاث، لأنها تعطي قيمة سعرية أفضل من (ع)، وفي ذات الوقت تمثل قيمة استهلاكية أفضل من (س).. وفي النهاية سيبدو الأمر كما لو أن الشركة منحت المستهلك خيارات وفيرة للمقارنة.
- لهذه الاستراتيجية استخدامات متعددة، وليس بالضرورة أنها تستخدم لتحفيز بيع المنتج الأغلى دائمًا، فقد تكون النسخ الأصغر أو المتوسطة هي الأفضل من حيث القيمة المطلقة التي تمزج بين التكلفة والفائدة الاستهلاكية (أفضل سعر لأفضل عائد استهلاك).
هل يقع المستثمرون في الفخ؟
- يقول المستثمر والملياردير الأمريكي "تشارلي مونجر"، نائب رئيس مجلس الإدارة في شركة "بيركشاير هاثاواي" واليد اليمنى للملياردير والمدير التنفيذي للشركة "وارين بافيت"، إن المستثمرين يخضعون باستمرار لأنواع عديدة من التحيزات السلوكية.
- حتى لو كانوا مقتنعين بشدة بأنهم يتصرفون على أساس عقلاني وبحرية كاملة، فإن الحقيقة هي أنهم يتحيزون لشيء ما بدافع ما، وقليل من الناس فقط يعرفون كيفية عزل أنفسهم عن العديد من التأثيرات التي تقودهم باستمرار إلى ارتكاب أخطاء مكلفة.
- يقول "دان أريلي"، أستاذ علم النفس والاقتصاد السلوكي بجامعة ديوك والذي يعكف طوال حياته على دراسة الأسباب التي تجعل البشر غير عقلانيين: نادرًا ما يختار الناس الأشياء من حيث القيمة المطلقة، ليس لدينا مقياس قيمة داخلي يخبرنا بقيمة الأشياء، بدلاً من ذلك، نركز على الميزة النسبية لشيء على آخر، ونقدر القيمة وفقًا لذلك.
- يرى البعض أن "تأثير الشرك" أو "تأثير ديكوى" والذي يعرف بأسماء أخرى مثل "تأثير سعر الإغراء" أو "تأثير الهيمنة غير المتماثلة"، ما هو إلا امتداد أو أحد طرق تطبيق "نظرية التحفيز"، التي تنص على إمكانية دفع الناس إلى اتخاذ قرارات يعتقدونها صحيحة دون أن يشعروا بأنهم واقعون تحت تأثير خارجي، وذلك عبر تغيير البيئة حولهم بشكل مناسب.
- أجرى باحثون تجارب على طلاب جامعات لمراقبة سلوكهم البشري عند تطبيق هذه الاستراتيجية، وسجلوا نجاحًا كبيرًا في توجيه المشاركين إلى أحد البدائل بعينه، بفضل الاستعانة بمنتج الشرك.
- منذ مدة، يُعتقد أن "تأثير الشرك" قد يكون لاعبًا أساسيًا في المجال السياسي وتوجيه الأصوات الانتخابية، لكنه أيضًا قد يؤثر على تحركات رؤوس الأموال وقرارات المستثمرين، الذين عادة ما يجمعون (أو يعتقدون أنهم يفعلون) الأدلة العقلية لتوجيه قراراتهم.
التحيز وقرارات الاستثمار
- حتى إذا كانت الطريقة تهدف إلى تحويل انتباه العملاء من الخيار الأكثر ملاءمة إلى الخيار الأكثر ربحًا، عن طريق إنشاء خيار سهل ونسبي، فإن "تأثير الشرك" يستخدم على نطاق واسع أيضًا في نسخته ثنائية الخيارات.
- يعني ذلك أن الناس لا يحتاجون بالضرورة إلى الكثير من الخيارات إذا كانوا يريدون خداع شخص ما للقيام بشيء من شأنه أن يفيدهم، ويمكنهم الحصول على نفس التأثير من خلال خيارين فقط، خاصة إذا كان بإمكانهم تجنب تقديم الخيار الأكثر ملاءمة للعميل.
- من أجل القيام بذلك يمكنهم العمل على نوع آخر من محركات الدماغ وهو "التحيز للفعل أو العمل" والذي يمكن تعريفه على أنه ميل البشر إلى تفضيل الفعل على التقاعس، يعد هذا تحيزًا قويًا للغاية، ويستخدم على نطاق واسع في مجال الاستثمار لإجبار الأشخاص على أداء أي نوع من الخيارات (باستثناء تلك التي تفيد العميل نفسه).
- إذا تم دمج خيار ثنائي يحتوي على شرك مع تأثير تحيز الفعل، فإن النتيجة هي أن الشخص سيشعر بالحاجة الملحة للتصرف دون أن يكون لديه سبب منطقي للقيام بذلك.
- أحد أمثلة ذلك، هو مقال بعنوان "السهم س مقابل السهم ص.. أيهما أشتري؟"، والذي يوحي بأن إحدى الشركتين لديها فرص أفضل لتحقيق نتائج مرضية مثل ربحية أفضل أو ديون أقل، مع تجاهل هامش الأمان لأسعار السوق الحالية.
- الحيلة هنا هي جذب القارئ لزيادة المشاهدات أو للترويج لسهم معين، وبناء على الرغبة الطبيعية للإنسان في التصرف، ومع شعوره بأن لديه خياراً، أو لحقيقة أنه قد لا يكون أي منهما خيارًا جيدًا على الإطلاق، أو أن خصائص الشركتين ليست متقاربة وإحداهما تمتلك أساسيات قوية جدًا بالفعل.
- مثال آخر؛ عندما يرتفع سهم بشدة ينتظر المستثمرون انخفاضه لاعتقادهم بأنه أصبح مكلفًا الآن، وفي حال انخفاضه 20% إلى 30% مثلًا، يشعرون بالرغبة الملحة في شرائه، لأنه مقارنة بسعر الذروة يبدو أرخص بكثير ويعتقدون أنهم يحصلون على خصم.
- نظرًا لعدم وجود فكرة واضحة عن قيمة الشركة، يتصرف الناس بشكل تلقائي لإجراء مقارنات سهلة وتحديد كيف ومتى يتصرفون، مثلما فعل الكثيرون مع سهم "جيم ستوب" الذي اشتروه بأسعار مرتفعة للغاية في شهري يناير ومارس.
- لا أحد يريد أن يفوته الركب (التحيز للفعل) وفي نفس الوقت يشعرون بأن أمامهم خيارات محدودة، لكن لا حاجة إلى تفكير فالسعر أقل بكثير مما كان عليه في ذروته.. بالطبع، لا يرى معظم الناس أن الخيار الأفضل هو عدم الاختيار.
- يمكن أن تطول القائمة، لكن الآلية متشابهة إلى حد كبير، تفضل الأغلبية اتخاذ خيارات نسبية وسهلة، وتتوق الأدمغة إلى العمل في هذا الاتجاه، لهذا السبب، لا مفاجأة في أن بعض أفضل المستثمرين أدركوا ذلك وحاولوا مبكرًا خلق بيئة تحميهم من مثيرات التحيز، وبعيدًا عن إغراءات السوق.
المصادر: أرقام- gurufocus- فوربس- كونفرزش
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}