في الحادي والثلاثين من أغسطس 1954، تفشى مرض الكوليرا في شارع بورد ستريت بالعاصمة البريطانية لندن، وعلى مدار الأيام الثلاثة التالية توفى ما يقرب من 127 مصابًا بالمرض، لفتت هذه الحادثة نظر الطبيب الإنجليزي "جون سنو" والذي بدأ بحثه محاولًا معرفة أسباب تفشي الكوليرا في تلك المنطقة قبل أن يلاحظ وجود شيء مشترك بين الأسر والعائلات التي أصابها المرض وهو حصولها جميعًا على المياه من مضخة مياه معينة.
اكتشف "سنو" من خلال تتبع خريطة الوفيات والإصابات، أن جميع الحالات حصلت على المياه من خلال مضخة تتبع شركة تدعى "ساوثوارك آند فوكسهول ووتروركس"، وأن مصدر مياه هذه الشركة كان المنطقة التي يتم من خلالها تصريف مياه الصرف الصحي في نهر التايمز.
على النقيض من ذلك، كانت معدلات الإصابات لدى الأسر التي حصلت على المياه من مضخة أخرى تتبع شركة "لامبيث ووتروركس" قليلة جدًا، بالنظر إلى أن الشركة حصلت على المياه من منبع النهر، وعلى هذا الأساس أثبت "جون سنو" لأول مرة أنه يمكن منع انتقال الكوليرا إلى حد كبير عن طريق توفير مياه الشرب النظيفة للناس، ولكن ما علاقة هذه الحكاية بجائزة نوبل؟
ماذا فعلوا ليفوزوا بنوبل؟
اكتشاف "سنو" للارتباط الوثيق بين الإصابة بالكوليرا ومياه الشرب الملوثة كان نتاج نوع من التجارب تسمى "التجارب الطبيعية" وهي تجارب رصدية قائمة فقط على الملاحظة ولا يتم التحكم فيها من أي طرف ولا تخضع لسيطرة دارسيها بأي شكل، وذلك على عكس الدراسات التدخلية التجريبية التي يحاول فيها الباحث التأثير على الأطرف المشاركة فيها، كما يحدث مثلًا في التجارب السريرية.
تستطيع التجارب الطبيعية الإجابة عن أسئلة يصعب أو يستحيل الإجابة عنها عبر التجارب التدخلية التجريبية والتي لا يمكن تنفيذها في كثير من الأحيان لأسباب أخلاقية وسياسية، وهذا بالظبط هو المجال الذي برع فيه الفائزون الثلاثة بجائزة نوبل في العلوم الاقتصادية هذا العام، حيث تمكنوا من تقديم رؤى وأفكار جديدة حول سوق العمل وتأثيرات الهجرة بفضل الاستنتاجات التي استخلصوها من عدد من التجارب الطبيعية، ومساهماتهم المنهجية في تحليل العلاقات السببية.
في الحادي عشر من أكتوبر الجاري، أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، منح جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية لعام 2021 لكل من "ديفيد كارد" أستاذ الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا في بركلي، و"جوشوا أنجرست" أستاذ الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، و"جويدو إيمبينس" أستاذ الاقتصاد في جامعة ستانفورد، على أن يحصل الأول على نصف الجائزة النقدية البالغة 1.14 مليون دولار، ويتقاسم الثاني والثالث نصف الجائزة الآخر.
إجابات صعبة لأسئلة سهلة
في البيان الذي أعلن فيه أسماء الفائزين بالجائزة المرموقة، قال "بيتر فريدريكسون" رئيس لجنة جائزة نوبل للعلوم الاقتصادية، إن بحوث العلماء الثلاثة أدت إلى تحسين قدرتنا بشكل كبير على الإجابة عن الأسئلة وأحدثوا ثورة في البحث التجريبي، ولكن ما معنى هذا؟ أو ما الذي يقصده رئيس اللجنة بهذه العبارة؟
في الطب والعلوم الطبيعية، يسعى الباحثون إلى فهم العلاقات السببية من خلال إجراء تجارب إكلينيكية مثل التجارب المنضبطة المعشاة (RCTs)، والتي يتم خلالها تغيير أحد المتغيرات في ظل ثبات المتغيرات الأخرى، كما يحدث مثلاً في الاختبارات السريرية للأدوية التي يتم خلالها إعطاء المتطوعين دواءً معينًا لاختبار مدى فاعليته وأعراضه الجانبية المحتملة.
ولكن في علم الاقتصاد، غالبًا ما يكون هذا النهج التجريبي مستحيلًا أو حتى غير أخلاقي، فعلى سبيل المثال لن يكون من المناسب فرض أجور غير متساوية على مجموعة من الأشخاص لقياس العلاقة بين الدخل والإنتاجية، وهنا لعب الفائزون الثلاثة الجدد بنوبل في العلوم الاقتصادية دورًا حاسمًا في تطوير استراتيجية بديلة.
في مجال العلوم الاجتماعية، وتحديدًا في الاقتصاد تتوقف إجابة العديد من الأسئلة المهمة والكبيرة على العلاقة بين السبب والنتيجة، وهذا ينطبق على أسئلة من نوعية: كيف يؤثر الحد الأدنى للأجور على مستويات التوظيف؟ وكيف تؤثر الهجرة على الأجور ومستويات التوظيف في الدولة المهاجر إليها؟ وكيف يؤثر البقاء في التعليم لفترة أطول على الدخل المستقبلي لشخص ما؟.
للوهلة الأولى تبدو الأسئلة السابقة سهلة، ولكنها في الحقيقة صعبة جدًا لأنه ليس لدينا ما نستخدمه كمقارنة.
على سبيل المثال، لكي نعرف تأثير الهجرة المتزايدة على مستويات الأجور والتوظيف، يجب أن نعرف ما الذي سيحدث لو كان معدل الهجرة أقل، وهذا شيء غير ممكن قياسه لأنه ليس حاصلًا، نفس الأمر بالنسبة للسؤال الخاص بطول فترة التعليم، يجب أن نعرف ما الذي كان سيحدث لو لم يبق هذا الشخص لفترة أطول في التعليم.
ظلت مثل هذه الأسئلة بلا إجابة إلى أن أوضح الفائزون الثلاثة بنوبل هذا العام كيف يمكن لنا الإجابة عن هذه النوعية من الأسئلة باستخدام التجارب الطبيعية، وذلك عبر استغلال مواقف من الحياة الطبيعية تؤدي فيها الصدفة والأحداث العشوائية إلى معاملة مجموعة من الأشخاص بشكل مختلف بدون تدخل أي طرف.
تجارب غير علم الاقتصاد للأبد
في بداية التسعينيات كان هناك اعتقاد سائد بين العامة والساسة والأكاديميين على حد سواء مفاده أن رفع الحد الأدنى للأجور يقلل من مستويات التوظيف؛ حيث تحجم الشركات وأصحاب العمل عن توظيف عمال جدد وربما تتخلى عن عدد من موظفيها الحاليين نظرًا لارتفاع التكاليف، ولكن هل هذا الاعتقاد صحيح فعلًا؟
لم يكن بوسع أحد الإجابة بشكل حاسم عن هذا السؤال إلى أن تمكن "ديفيد كارد" الفائز حديثًا بنوبل، وزميله الراحل "آلان كروجر" من الإجابة عنه بشكل علمي عبر دراسة إحدى التجارب الطبيعية، وذلك في ورقة نشراها في أكتوبر 1993 تحت عنوان "الحد الأدنى لأجور التوظيف: دراسة حالة لصناعة الوجبات السريعة في نيوجيرسي وبنسلفانيا".
في الأول من أبريل 1992، ارتفع الحد الأدنى للأجور في ولاية نيوجيرسي الأمريكية من 4.25 دولار في الساعة إلى 5.05 دولار في الساعة، لتقييم تأثير هذا القانون على مستويات التوظيف، قام الباحثان بدراسة 410 مطاعم للوجبات السريعة في كل من نيوجيرسي وبنسلفانيا التي ظل الحد الأدنى للأجور فيها ثابتًا دون تغيير عند 4.25 دولار في الساعة.
لاحظ "كارد" و"كروجر" أن معدل التوظيف بدوام كامل زاد بشكل طفيف في ولاية نيوجيرسي بعد زيادة الحد الأدنى للأجور، فيما انخفض معدل التوظيف في ولاية بنسلفانيا التي بقي فيها الحد الأدنى للأجور كما هو، وهو ما ينفي العلاقة السببية المتوهمة بين ارتفاع الحد الأدنى للأجور وانخفاض التوظيف، وكان لاستنتاجات هذه الورقة البحثية آثار كبيرة على سياسات الأجور في الولايات المتحدة خلال السنوات اللاحقة.
استخدم الفائز الثاني بنوبل "جوشوا أنجرست" أسلوبًا مشابهًا لدراسة تأثير التعليم على أداء الطالب لاحقًا في سوق العمل، وذلك في بحث أجراه بالتعاون أيضًا مع "آلان كروجر" الذي يرجح كثيرون أنه سيكون من ضمن الفائزين بالجائزة لو كان حيًا.
لمعرفة مدى استفادة الطلاب من سنوات التعليم الإضافية، استغل الرجلان حقيقة أنه في الولايات المتحدة يمكن للطلاب الذين ولدوا في وقت مبكر من العام ترك المدرسة بشكل قانوني في وقت أبكر من زملائهم الذين ولدوا في وقت لاحق من نفس العام.
ولاحظ الباحثان أن أولئك الذين ولدوا في بداية العام يميلون للخروج من التعليم مبكرًا، ويكسبون لاحقًا في سوق العمل دخلًا أقل بنسبة 9% بالمقارنة مع نظرائهم الذين استمروا لسنة إضافية، وهي النتائج التي عززتها لاحقًا دراسة مشتركة بين "أنجرست" والفائز الثالث بجائزة نوبل لهذا العام "جويدو إيمبينس".
في النهاية احتفت الأوساط الأكاديمية بفوز العلماء الثلاثة لأن الطرق الإحصائية التي طوروها أحدثت ثورة كبيرة في مجال البحث التجريبي، حيث جعلت الاستفادة من التجارب الطبيعية والخروج منها باستنتاجات ذات مغزى أمرًا ممكنًا، كما ساهمت جهودهم في الإجابة عن كثير من الأسئلة التي لولاها لظلت بلا إجابة لعقود قادمة.
المصادر: أرقام – الإيكونوميست – نيويورك تايمز
دراسة: Minimum Wages and Employment: A Case Study of the Fast-Food Industry in New Jersey and Pennsylvania
دراسة: Does Compulsory School Attendance Affect Schooling and Earnings?
دراسة: Identification and Estimation of Local Average Treatment Effects
دراسة: Natural "Natural Experiments" in Economics
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}