ربما لا يعلم الكثيرون أن "أدولف هتلر" زعيم ألمانيا النازية هو السبب الرئيسي وراء تحول روسيا إلى أكبر مُصدر للغاز الطبيعي في العالم، وأن ألمانيا التى كانت فى ذلك الوقت على عداء مع أغلب القوى الأوروبية والولايات المتحدة، قد بدأت قبل 70 عاما وضع اللبنة الأولى فى رحلة سيطرة موسكو على طاقة ألمانيا وكل أوروبا الغربية وما تلى ذلك من معاناة وصلف ونزاع كبير دفعت ثمنه كل أوروبا الغربية بما فيها ألمانيا.
في يونيو 1941 أعلن "هلتر" عن عملية "بارباروسا" وأطلق الحرب على روسيا بحملة هى الأضخم في التاريخ مكونة من 3 ملايين جندي و3 آلاف دبابة و2500 طائرة مقاتلة و7 آلاف مدفع من عتاد وقدرات الجيش النازي، هذا الغزو الذي بدأ بمناطق الغرب الروسي الملاصقة للحديقة الخلفية النازية التي توسعت في شرق أوروبا بين 1938 و1941 بشكل مذهل وخاطف، وكان من نتائجه الاستيلاء على مناجم الفحم الروسية، مما دفع القيادة الستالينية في ذلك الوقت للبحث عن مورد طاقة بديل.
بدأت الدراسات عام 1941 على يد المهندس والمسؤول الأول عن الطاقة في الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت وهو "إيفان سيدين" ونائبه "نيكولاي بايباكوف"، وتم تنفيذ المشروع بالفعل وبدأت عمليات الضخ الأولية من روسيا إلى أوكرانيا عام 1948 بعد انتهاء الحرب بثلاث سنوات، ورغم عودة السيطرة الروسية على مناجم الفحم إلا أن "ستالين" قرر المضي قدماً فى اكتشافات وتنمية هذا المورد الجديد والمبهر.
العام |
الحدث |
1956 |
تأسيس أول هيئة حكومية للغاز الطبيعي برئاسة "أليكسي كورتونوف".
|
1957 |
إنتاج الغاز الروسي يصل إلى 20 مليار متر مكعب بمعدل نمو مذهل قدره 47% على أساس سنوي.
نجاح إطلاق القمر الصناعي "سبوتنك"، كان سبباً في إلهام "كورتونوف" لمزيد من التفوق والهيمنة الروسية وهزيمة الولايات المتحدة في الغاز كما هزمها السوفييت فى الفضاء.
|
1960 |
إنتاج الغاز الروسي يصل إلى 50 مليار متر مكعب.
أول أنابيب غاز روسية تصل إلى أوروبا في هولندا وإيطاليا.
|
1965 |
مستمراً في تحقيق نمو قياسي... إنتاج الغاز الروسي يصل إلى 150 مليار متر مكعب.
|
1970 |
الأنابيب الروسية الغازية تصل إلى ألمانيا.
|
1991 |
انهيار الاتحاد السوفيتي.
هيئة الغاز تتحول إلى شركة "جاز بروم" والتى تم لاحقا خصخصتها.
|
2000 |
مع وصول "بوتين" للحكم، تعود "جاز بروم" لسيطرة الدولة.
|
2020 |
23 دولة أوروبية ترتبط بالغاز الروسي.
|
روسيا وأوكرانيا.. علاقة مشوهة
في 2013 عرض الاتحاد الأوروبي على أوكرانيا – بإيعاز ودعم من واشنطن – قروضا وتسهيلات ائتمانية سخية بشروط مخففة تُقدم لـ "كييف" تحت مظلة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، مع ضرورة موافقة الحكومة الأوكرانية على الانضمام لاتفاقية التجارة الحرة الأوروبية.
موسكو هددت أوكرانيا لو وقعت على العرض الأوروبي، وطرحت على الطاولة عرضا مناظرا بخصم 33% من مصاريف إمدادات الغاز الروسي لمصانع ومنازل كييف، إضافة إلى منح ومساعدات بـ 15 مليار دولار لو رفضت عرض الغرب واصطفت بجانب موسكو، لكن أوكرانيا رفضت وبدأ تدخل عسكري روسي في "شبه جزيرة القرم" الملاصقة لأوكرانيا 2014 والتهبت الأجواء في البحر الأسود وشرق أوروبا، الشاهد هنا هو الغاز الطبيعي وإلى أي مدى هذه العلاقة معقدة ومشوهة، بدأت بالغاز ولا تزال يحركها هذا المورد الطاقاوي العجيب.
الانكشاف الأوروبي على الغاز الروسي
كان الزعيم السوفيتي البارز وقائد ثورة أكتوبر 1917 "لينين" يرى أن الغاز الطبيعي هو طاقة المستقبل ومورد نظيف سوف يحمي صحة العمال ويرفع مستويات الدخل ويعزز الصناعات الثقيلة وأفضل من الفحم المدمر لصحة وحياة العمال.
لكن لم يكن يتخيل "لينين" أنه بعد أكثر من 100 عام من ثورته وحديثه عن الغاز أن أوروبا سوف تكون بهذه الدرجة المخيفة من الانكشاف على الغاز الروسي للدرجة التى جعلت حوالي 23 اقتصاداً أوروبياً يعتمد اعتماداً كبيراً يصل في المتوسط إلى 35% من إجمالي مصادر طاقتها لصالح الغاز الروسي.
الأنابيب أو الإسالة
هناك طريقتان لنقل الغاز من بلد لآخر، الطريقة الأرخص: الأنابيب وتُستخدم في حال كان المستورد قريباً من المصدر، أما الطريقة الباهظة: السفن، وتُستخدم فى حال كان المستورد بعيداً عن المصدر، وتستلزم خطوات للإسالة وهذه تكلف كثيراً، الطريقة الأولى لا تحتاج إلى شاحنات ولا سفن ولا مقطورات ولا معالجة، فقط من مكان الاستخراج مباشرة إلى مكان الاستهلاك.
الطريقة الأخرى للغاز يطلق عليها تسييل الغاز الطبيعي أو LNG، ومقصود منها تحويله من صفته الغازية إلى السائلة عبر معالجته في مصانع مخصصة لذلك تعمل على تخفيض حرارته إلى 162 درجة تحت الصفر، عند هذه الدرجة يمكن تخزينه ثم تحميله على سفن مخصصة لنقل الغاز المُسال عبر البحار إلى الدول المستوردة اياً كان موقعها، وتقوم الدولة المستوردة برفع درجة حرارته أو إعادته لصفته الغازية مرة أخرى أو Re-gasification ثم تضخه على شبكة أنابيبها المحلية وتمت المهمة.
الطريقة "التسييلية - Liquefaction" أغلى بنحو 50% إلى 70% من الطريقة "الأنبوبية - Pipelining"، لذلك تلجأ دولة شرهة الاستهلاك للغاز مثل ألمانيا إلى الطريقة الأخيرة لأنها الأرخص، من أقرب مورد لها جغرافياً وهو روسيا، حتى لو كان ذلك على حساب استقلال قرارها السياسي وسيادتها وتآكل قدرتها على تحقيق مصالحها.
لكن القرب الجغرافي والثمن الرخيص لن يكون كافياً لإقناع الرأي العام والإعلام والأحزاب والحكومة وكل الأطراف داخل المجتمع الألماني بأن يرهنوا إرادتهم لدولة خصم وعدو تاريخي مثل روسيا، لذلك كان هناك جهد روسي تحت عنوان التسويق وخلق شبكة علاقات عامة داعمة لخطوط الأنابيب بشكل فائق المستوى ويتجاوز خيال أي متابع.
رجل موسكو المخلص فى برلين
المستشار الألماني السابق "جيرهارد شرودر" والزعيم السابق للحزب الديمقراطي الاجتماعي (1998 – 2005) اعتزل العمل السياسي فى 2005، ومنذ ذلك الحين أصبح بمثابة "حصان طروادة" لمصلحة "فلاديمير بوتين" وروسيا بداخل أوروبا، أو بمعنى أصح: رجل موسكو فى برلين ومنطقة اليورو.
"شرودر" تم تعيينه رئيسا تنفيذيا لتحالف الشركات المنوط بها تنفيذ خط نورد ستريم إضافة إلى توليه منصب المدير الإداري للشركة النفطية الروسية "روسنفت" المملوكة للدولة منذ 2017، يقول "بينجامين شميت" الباحث فى "هارفارد" إن "شرودر" يتلقى راتباً سنوياً يُقدر بـ 600 ألف دولار من هذه المناصب الروسية.
الدور الذي يلعبه "شرودر" فى تمرير وإقناع وترويج خط الأنابيب الروسي "نورد ستريم2" يشبه الدور الذي لعبه "توني بلير" رئيس الوزراء البريطاني الأسبق (1997 – 2007)، والذي اعتزل العمل السياسي فى 2007، وترويجه لمشروع أنابيب الغاز القادم إلى إيطاليا من دولة تصنفها أوروبا أنها غير ديمقراطية وهى أذربيجان.
وفي 2014 تم تعيين "بلير" مستشاراً لتحالف تقوده شركة "بي بي" البريطانية من بحر قزوين ناحية منطقة "شاه دينيز" فى أذربيجان وينطلق عبر ممر الغاز الجنوبي الشرقي لأوروبا وصولاً إلى إيطاليا، وفى ديسمبر الماضي وصلت أولى تدفقات الغاز الأذري إلى روما بالفعل ونجحت جهود شركة "بلير" للعلاقات العامة فى المهمة التى عينت لأجلها.
أوكرانيا مرة أخرى
بالعودة لانهيار العلاقات بين موسكو وكييف، اختارت الأخيرة صف أوروبا والولايات المتحدة فقررت روسيا أن تعاقبها، وهذا ينقلنا إلى محورين:
1- رفع سعر الغاز الروسي المتدفق إلى أوكرانيا.
2- رفع رسوم الغاز الروسي المتدفق إلى أوروبا عبر أنابيب داخل أوكرانيا.
وبالفعل فى ثلاث فترات مختلفة حدث ابتزاز وحرب تكسير عظام روسية – أوكرانية متبادلة في أعوام 2006 و2009 و2014 والسنة الأخيرة كانت السنة الأكثر سخونة وتوتراً، رضخت أوكرانيا ودفعت سعرا مضاعفا للغاز الروسي لكي تحمي مواطنيها من الموت متجمدين فى منازلهم، لأن إيجاد مورد بديل في غضون شهور أو حتى سنوات قليلة، ليس بالأمر القابل للتطبيق على أرض الواقع بعد عقود من العمل مع مورد كبير وإمدادات مستقرة مثل إمدادات روسيا.
وفى المقابل قررت الحكومة الأوكرانية المدعومة من أوروبا الغربية وواشنطن أن تبتز روسيا هى الأخرى وفرضت عليها رسوما مضاعفة لعبور الغاز الروسي إلى الدول الأوروبية عبر أراضيها، وهنا تحولت أوكرانيا إلى الرجل الذي يطلق نيراناً صديقة على حلفائه فى فورة غضب وفقدان ضبط النفس، فقامت أوروبا بفرض عقوبات على "موسكو" بالتزامن مع محاولة تهدئة فورة الغضب الأوكرانية التى ترتد شظاياها على باقي أوروبا.
هنا يظهر الدور المحوري والخفي لشخص مثل "جيرهارد شرودور" الذي أقنع الألمان والأوروبيين بأن الحل ليس عبر معاقبة روسيا ولا تهدئة أوكرانيا، وإنما فك الحبل السري الرابط بين دول أوروبا وأوكرانيا، بمعنى آخر يجب علينا بناء خط أنابيب جديد يتفادى المرور بأراضي كييف، وهو "نورد ستريم2".
ما هو الحل؟
فريق "شرودر" يرى أنه لا ضير من الاعتماد والارتهان بالغاز الروسي مدى الحياة، لكن هناك فريقا آخر داخل أوروبا يرى ضرورة وحتمية تنويع وتعدد المصادر والموردين للغاز، وهو ما يترك أوروبا أمام حلول محدودة:
1- الربط بأنابيب مع دول أخرى قريبة جغرافياً وغنية بالغاز بخلاف روسيا.
2- عقد صفقات ضخمة لشراء الغاز المسال من موردين غير قريبين جغرافياً.
3- دعم الدول الأوروبية القليلة المنتجة للغاز وتنمية حقولها والربط بأنابيب معها.
الحل |
أنابيب مع دول قريبة نسبياً بخلاف روسيا |
عقد صفقات للغاز المُسال |
دعم الدول الأوروبية الغازية |
الدول المعنية |
الجزائر أذربيجان مصر نيجيريا |
قطر الولايات المتحدة أستراليا ماليزيا عمان
|
النرويج هولندا المملكة المتحدة رومانيا |
الملاحظات |
تم البدء فيه منذ سنوات قليلة ويحتاج إلى صبر واتباع سياسة النفس الطويل لإنجازه.
|
أغلب صفقات الغاز المسال محجوزة لعقود قادمة لصالح اقتصادات آسيا: اليابان وكوريا الجنوبية. |
إنتاجها هزيل مقارنة باحتياجات أوروبا بجانب مواجهة دعوات لإغلاقها لمكافحة التغير المناخي. |
الخلاصة أن النظرة الواقعية والعملية للمشكلة، تقول إنه لا بديل عن الاعتماد على الحل الناجز والسريع والعملي الذي تتسم به الأنابيب الروسية بما فيها "نورد ستريم2" حتى انتهاء حلول التنويع الثلاثة التى تحتاج إلى سنوات كثيرة وعمل مضنٍ وجهد متراكم للوصول إلى نسبة تنويع معقولة تُخفض من الاعتمادية الأوروبية على الغاز الروسي.
المصادر: أرقام – Nature – DW – worldometers – statista.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}