"لا صوت يعلو فوق صوت التضخم"، هذا هو حال الاقتصادات والحكومات والخبراء والمؤسسات من مختلف دول العالم، أصبحت كلمة "التضخم" تتكرر في كل مكان وتنتشر بشكل متكرر؛ وذلك نتيجة لارتفاعات الطاقة والشحن البحري والغذاء الذي أثر بالتبعية على تغذية معدلات التضخم بشكل غير مسبوق.
ما هو التضخم؟
يعني ببساطة الارتفاع المستمر في أسعار السلع والخدمات في إطار زمني معين على أساس شهري أو سنوي، وعادة ما تصدره الحكومات شهرياً وهو من أهم المؤشرات الاقتصادية التي من الضروري متابعتها من قبل الشركات والمستثمرين والمحللين والمؤسسات والبنوك، والتضخم الجيد هو التضخم التوازني، أما التضخم السيئ فهو الذي يخرج عن السيطرة سواء بالانخفاض أو بالارتفاع.
كيف يكون التضخم جيداً؟
تخيل أن التضخم ينخفض وآخذ في الانخفاض لدرجة أنه أصبح تحت الصفر أي أن الأسعار تتراجع، وتخيل أن ذلك يحدث لفترة طويلة، سوف يقرر المستهلكون تجميد إنفاقهم ومشترياتهم حتى تنخفض الأسعار أكثر على أمل الحصول على سعر أفضل، وبالتالي ينخفض الطلب والاستهلاك فتنخفض الوظائف والإنتاج ويدخل الاقتصاد في دوامة ركود، هذا الرأي يوافق عليه الاقتصادي البريطاني "جون ماينارد كينز".
إذًا انخفاض الأسعار المبالغ فيه لفترة طويلة يؤذي الشركات والتجار ويبطئ عجلة الأقتصاد عن الدوران بالسرعة المناسبة، هؤلاء يمثلون جانب العرض، وتراجع العرض يعني تخفيض الإنتاج وتقليل من استهلاك المواد الخام والتخلص من بعض الوظائف والعمال، وبالتالي يزيد معدل البطالة وتنخفض السيولة في الأسواق ومعها الإنفاق فيصاب الاقتصاد بالشلل والكساد.
من ناحية أخرى، ارتفاع الأسعار المبالغ فيه لفترة طويلة يؤذي جانب الطلب وهم المستهلكون، حين تكون تكلفة السلعة أكبر من قدرتهم على سدادها فإن ذلك يتسبب في تراجع القدرة الشرائية وبالتالي يُحجم هؤلاء المستهلكون عن الشراء أو يشترون بكميات أقل من المعتاد، فتحدث نفس النتائج: ينكمش الناتج وينخفض الإنتاج ويرتفع عدد العاطلين فينخفض الاستهلاك ويصيب الاقتصاد الشلل والكساد.
إذاً الوضع المثالي هو أن يكون التضخم عند النقطة التوازنية، مثله مثل كل مؤشرات العلوم الاقتصادية الحديثة، النمو والبطالة والعجز والدين وكذلك التضخم، الجميع يبحث عن النقطة التوازنية التي عندها يكون كل الأطراف وكل اللاعبين راضين بالإجماع، حيث لا تميل الكفة لصالح طرف على حساب آخر، النقطة التوازنية هي عصب اقتصاد اليوم.
والحالة التي عليها معدل التضخم حالياً ليست توازنية ولا يمكن وصفها بالجيدة على الإطلاق، فهي أبعد ما تكون عن المستوى المثالي الذي يطمح إليه الاقتصاديون في كل دول العالم سواء حكومات أو شركات أو بنوك ومؤسسات دولية، وهو معدل مقلق خوفاً من تطور لمرحلة أشد صعوبة، في الوقت الذي تشير فيه بعض التوقعات إلى أنه غير مستدام وسيتراجع.
معدل التضخم في سبتمبر 2021 لعدد من اقتصادات العالم يصل إلى مستويات قياسية |
|||
الدولة/التكتل |
معدل التضخم |
مستوى التضخم |
المعدل التوازني/المستهدف |
منطقة اليورو |
4.1 % |
أعلى مستوى في 13 عاماً |
2 % |
الولايات المتحدة |
5.4 % |
أعلى مستوى في 13 عاماً |
2 % |
كندا |
4.4 % |
أعلى مستوى في 18 عاماً |
2 % |
المملكة المتحدة |
3.1 % |
أعلى مستوى في 13 عاماً |
2 % |
تاريخ التضخم المفرط
مصطلح التضخم "المفرط" صاغه الاقتصاديان "ستيفن هانكي" و"نيكولاس كروس" من جامعة "جونز هوبكنز" بمعهد الاقتصاد التطبيقي في عام 2012، وهذه أشهر ثلاثة نماذج لحالات التضخم المفرط آخر 100 عام من الإنسانية والاقتصاد الحديث في ثلاث مراحل زمنية مختلفة.
أولاً: ألمانيا – الحرب العالمية الأولى
واحدة من أشهر نماذج التضخم المفرط في المائة عام الأخيرة، في أكتوبر 1922 شهدت ألمانيا تضخماً ناهز 29 ألفاً بالمائة، رغيف الخبز بدايات العام كان سعره يساوي 163 مارك وفي سبتمبر 1923 أصبح 1.5 مليار مارك وفي نوفمبر من نفس العام وصل إلى 200 مليار مارك!، كانت الأسعار تتضاعف مرة كل 3.7 يوم، كان عادياً أن يُشاهد الناس وهم يحملون النقود على عربة بثلاث عجلات من ضخامة كمية النقود المطلوبة، كان أمراً غير منطقي أن تكون هناك قائمة أسعار لأنها تتغير كل ساعة، والدولار الأمريكي الذي كان سعر صرفه 4.2 مارك في1914 أصبح في 1923 بـ 4.2 تريليون مارك!.
ترجع جذور الأزمة إلى نتائج الحرب العالمية الأولى والأعباء الثقيلة لعقوبات وغرامات الحلفاء ضد ألمانيا المهزومة، وبغض النظر عن أن الأزمة الاقتصادية كانت سبباً في صعود الحزب النازي وهتلر الذي وظّف غضب الموظفين والعمال والمتقاعدين الذين خسروا قيمة مدخراتهم ورواتبهم لكي ينتخبوه، لكنها تظل من أسوأ الأزمات الاقتصادية التي شكلت مستقبل أوروبا وألمانيا فيما بعد.
ثانياً: اليونان– الحرب العالمية الثانية
أكتوبر 1944، وصل التضخم في "أثينا" إلى 13 ألفاً بالمائة، الدولار الأمريكي الواحد في ذلك الوقت كان يُعادل 300 مليون دراخما (عملة اليونان وقتها)، العملة الذهبية كانت تتم مبادلتها في عام 1940 بـ 1100 دراخما، بعدها بأربع سنوات فقط قفزت المبادلة إلى 20 تريليون دراخما!.
كل هذا كان سببه تبعات الحرب العالمية الثانية بعد أن تم احتلال اليونان من قبل قوات دول المحور (ألمانيا – إيطاليا) فكانت السياسات الاقتصادية كلها فوضوية وتتجه لدعم إنفاق القوات المسلحة اليونانية، ومع تضاعف حالة عدم اليقين والفشل الاقتصادي انهارت العملة ومعها حلق التضخم في السماء.
ثالثاً: زيمبابوي
صاحبة ثاني أعلى معدل تضخم في القرن الحالي، وفي نوفمبر 2008 سجل معدل التضخم في زيمبابوي حوالي 79 مليوناً بالمائة، وترجع جذور الأزمة إلى تورط حكومة "روبرت موجابي" في حروب عديدة بالخارج مثل حرب الكونغو وفي نفس الوقت عانت البلاد من أزمة جفاف حادة أدت إلى انخفاض الإنتاجية الزراعية بشكل كبير وبالتالي شح في المعروض الزراعي، وندرة في السلع، ومع علاقات دبلوماسية سيئة وعزلة دولية، زاد الطين بلة وتعمقت أزمة زيمبابوي، والاستثمار الأجنبي المباشر هبط من 400 مليون دولار في 1998 إلى 30 مليون دولار في 2007 في دلالة على العزلة الدولية.
رابعاً: فنزويلا – نموذج القرن الـ 21
كانت فنزويلا تُصنف بأنها ضمن الأغنى على الإطلاق في أمريكا الجنوبية بامتلاكها أضخم احتياطي نفطي يتجاوز الـ 300 مليار برميل، البنك المركزي الفنزويلي يقول إن التضخم في أغسطس الماضي قد انخفض إلى 1900% فقط!، وهذا إنجاز لأن المعدل كان قد وصل إلى 35 ألفاً بالمائة في 2019، وتحولت "كاراكاس" العاصمة إلى أكثر مناطق العالم احتضاناً للجريمة وإلى مكان خطير على السياح والمواطنين أنفسهم بمعدل جرائم قتل 91 لكل 100 ألف مواطن.
فقد الناتج الفنزويلي نحو 50% من حجمه في 2014 وتدهورت القيمة الشرائية للعملة ومعها تلاشت مدخرات السكان والمتقاعدين وهوت الأجور لمستويات غير منطقية، كل هذه المصائب ترجع جذورها إلى السياسات الاقتصادية الاشتراكية، مما جعل السوق طارداً للاستثمارات الأجنبية (عدا النفطية) بالتزامن مع ارتهان كامل ببرميل النفط دون أدنى رغبة في بذل جهد إضافي لحماية البلاد من التفكك والانهيار الاقتصادي، فأصبحت فنزويلا بمثابة النموذج الأشهر وقصة مُحزنة عن التضخم المفرط.
المصادر: أرقام –ENDEVR–The Economist–Investopedia–CNBC– أجهزة الإحصاء في كلا من: الولايات المتحدة ومنطقة اليورو وكندا والمملكة المتحدة –Johns Hopkins–London school of economics–Cato institute.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}