صغارًا اعتدنا سماع سؤال أخطأ أغلبنا في إجابته، وربما أكثر من مرة، "أيهما أثقل كيلو من الحديد أم كيلو من القطن أو الريش؟"... ليرد الصغير مباشرة ودون تفكير "كيلو الحديد".
وبعد أعوام يظن الشخص في نفسه الرشادة إلا أنه يعود ويقع في نفس "الفخ" بالاعتقاد بأن كيلو الحديد أثقل من كيلو القطن، ولكن بصورة مختلفة.
وأبرز مثال على ذلك هو تعامل الشخص مع أي دخل إضافي يحصل عليه، مثل علاوة استثائية في العمل، ودخله "المتوقع"، مثل الراتب؛ فالأخير يتم التعامل معه بحرص أما العلاوة فيتم –غالبًا- تبديدها في شراء شيء بشكل سريع ودون تفكير كاف، رغم أن كليهما "مال".
المحاسبة العقلية
ويعرف هذا المفهوم باسم "المحاسبة العقلية"، والتي نتعامل فيها مع ما نمتلك بشكل مختلف، وفقًا لكيفية اكتساب المال ومدى "توقعنا" للحصول عليه.
وتؤثر هذه الظاهرة على كيفية إنفاق وادخار الناس لأموالهم، وأيضاً على كيفية تعاملهم مع الخسائر غير المتوقعة، وتوضح كيف يتخذ الناس قراراتهم المالية عبر إنشاء حسابات نفسية منفصلة في أذهانهم لنفس النوع من الموارد، وكيف يمنعهم شعورهم النفسي تجاه ذلك المورد من التركيز على المحصلة النهائية لقراراتهم.
ويعد أبرز من تناولوا هذا المفهوم "ريتشارد ثالر" والذي حصل على نوبل في الاقتصاد عام 2017 عن مساهمته في هذا المجال.
ولضرب مثال علينا العودة لاثنين من علماء النفس الأمريكيين عام 1984، سألا المشاركين في تجربة "ماذا ستفعل إذا قررت الذهاب إلى مشاهدة فيلم في السينما، واشتريت التذكرة في وقت سابق مقابل 10 دولارات وذهبت للسينما لتكتشف ضياع التذكرة؟".
أجاب 46% من المشاركين فقط بأنهم سيشترون تذكرة جديدة، بينما قال 54% من المشاركين بأنهم لن يشتروا تذكرة جديدة وسيعودون لمنازلهم دون مشاهدة الفيلم.
وعندما طالب العالمان المشاركين بتخيل سيناريو مختلف "ماذا لو ذهبت لشراء تذكرة الفيلم في وقت عرضه، وأثناء وقوفك بطابور التذاكر اكتشفت ضياع 10 دولارات ثمن التذكرة ماذا ستفعل حينها؟".
وجاءت الإجابة مختلفة، حيث قال 88% من المشاركين إنهم سيشترون التذكرة على أي حال، بينما لن يقوم 12% فحسب بشرائها.. فلماذا الاختلاف رغم أن "الخسارة" في الحالتين واحدة وهي 10 دولارات؟
ويقول "ثالر" في أطروحته الحاصلة على "نوبل" أن هذا يرجع لأنه إذا ضاعت التذكرة بعد شرائها فإن العقل يقوم بحساب سعر التذكرة بـ20 دولارًا إذا اشترى تذكرة ثانية، وذلك لأنه تم تخصيص الدولارات العشر المفقودة بالفعل لشراء التذكرة، وبالتالي يرى سعرها مبالغ فيه فترفض الغالبية (54%) شراء تذاكر جديدة.
أما إذا ضاعت 10 دولارات، وهي غير مخصصة بعد لشراء التذكرة (نظريًا)، فإن العقل لم يضعها بعد في حساب التذاكر، فتقبل الغالبية (88%) على شراء تذكرة ودخول السينما لمشاهدة الفيلم، أي أن الأمر كله يتعلق بـ"حسابات عقلية".
التأثيرات على المستثمرين
الوضع السابق توضيحه كمستهلك، فهل تؤثر المحاسبة العقلية علينا كمستثمرين؟..
نعم، فكثيرًا ما تقود "المحاسبة العقلية" إلى التعامل مع المكاسب التي يحققها الشخص في البورصة على أنها "نقود السوق" (أي أن ملكيتها تعود للسوق وليس للمتعامل الذي ربحها).
فلو أن شخصًا دخل السوق للاستثمار أو المضاربة على سهم قيمته 100 ريال، وشهد السهم الذي اشتراه ارتفاعًا فأصبح سعره 110 ريالات، فسيظل الشخص مستعدًا للمغامرة بعشرة ريالات "المكسسب" في استثمار عالي المخاطرة.
بل قد يقوم المتعامل بـ"الصبر" على السهم إذا انخفضت قيمته من 110 إلى 108 مثلا حتى لو كانت المؤشرات تؤدي للمزيد من الانخفاض حيث يرى أنه مازال رابحًا، رغم خسارته واقعيًا لريالين، بينما قد يفكر في البيع تحت مستوى الـ100 ريال لأنه "بدأ يشعر بالخسارة".
ولا شك أن التعامل بمنطق "أموالي" في مقابل "أموال السوق" لم يكم في حسبان أي من كبار المتداولين في السوق والذين حققوا ثروات، سواء بالاستثمار أو المضاربة.
"تأثير الثلاثة"
لذا فكثيرًا ما يحذر المتعاملون من تأثير "الثلاثة"، والمقصود هنا المكسب "الجيد" لثلاث جلسات أو الخسارة "الكبيرة" لثلاث جلسات، فهذا من أكثر ما يؤثر على رجاحة عقل المتعامل ويدفعه لاتخاذ قرارات غير محسوبة، أو بالأحرى تقوده من عقلية المستثمر إلى عقلية المقامر.
فكافة المقامرين يبدأون "مغامراتهم" وهم يصرون على أنهم سـ"يقامرون قليلا" حتى يربحوا مبلغًا محددًا أو نسبة معينة من رؤوس أموالهم ثم يتوقفون، لكن هذا لا يحدث عند التطبيق.
فمع المكسب المتتالي يميل المقامر إلى الاستمرار في اللعب سعيًا لتحقيق المزيد من المكاسب، بينما في حالة الخسارة المتتالية يميل أيضا إلى الاستمرار سعيًا لتعويض خسارته.
لذا يبدو السوق (ككيان اعتباري أو بالأحرى المستثمرين الكبار فيه) في موضع أماكن المراهنة التي دائمًا ما تتمتع بميزة نسبية على المتعاملين "العاديين" تجعلها "رابحة بالنهاية" بسبب تأثير الربح أو الخسارة النفسي على المراهنين.
وبتطبيق هذا الأمر على سوق الأسهم يتأكد أن 90% من المتعاملين يخسرون أموالهم في الأسهم، بينما يربح 10% فحسب، وفقا للكثير من الاستطلاعات، وذلك بسبب قدرة البعض على التعامل بعقلية المستثمر وليس المقامر وعجز الغالبية عن ذلك.
النكزة
ولا تقتصر تطبيقات "الاقتصاد السلوكي" على المحاسبة العقلية، لكنها تمتد إلى ما يعرف بـ"الدفعة" أو "النكزة" (nudge).
ويقصد بـ"النكزة" "اقتراح" تعزيزات إيجابية في السلوك، بحيث لا يتصرف الشخص بدافع الإجبار أو الإلزام ولكن "الرغبة الحرة" في ذلك.
وعلى سبيل المثال، فقد قامت المملكة المتحدة بتجربة إرسال مطالبات الضرائب وفيها عبارة "9 أشخاص من كل 10 في منطقتك ملتزمون بدفع الضرائب في موعدها" لبعض المواطنين وإرسال المطالبات بدون هذه العبارة للآخرين.
واتضح أن هؤلاء الذين تلقوا الخطابات وفيها تلك العبارة التزموا بدفع ضرائبهم كاملة وفي موعدها بنسبة أكبر 15% من هؤلاء الذين خلت خطاباتهم من تلك العبارة، وحتى من بعض متلقي الخطابات التي حملت تحذيرات من عواقب عدم السداد قانونًا.
ويمكن القول بأن التحفيز يأتي هنا على هيئة ترغيب في اتباع "القواعد المجتمعية"، حتى لا يشعر الشخص بأنه "منبوذ" أو خارج عن السياق.
هذا عن استخدام "النكزة" بشكل إيجابي، ولكن هناك أيضًا "النكز" في التسويق، وعلى سبيل المثال ما تفعله مطاعم بيع الوجبات السريعة في إعلاناتها وعروضها الترويجية، بتقديم "الساندوتش" مقترنًا بالبطاطس والمياه الغازية باستمرار.
وحتى إذا اتصلت هاتفيًا لطلب ساندوتش من مطعم وجبات سريعة، غالبًا ما يسأل مقدم الخدمة "هل تريد بطاطس ومياه غازية مع طلبك؟"، وقد يلفت إلى أنهما مع الساندوتش كـ"كومبو" أوفر من سعرهما منفصلين، فيقبل الناس على شرائهما بدعوى أنها "صفقة جيدة".
ولتبيان الأثر، قام مطعم صيني قبل عامين بتجربة عكسية، من خلال سؤال الناس عما إذا كانوا يريدون ساندوتش فقط، وذلك بعد طلبهما لوجبة (كومبو).
وكان لافتًا تراجع مبيعات المياه الغازية والبطاطس بفعل ذلك بنسبة 30% وذلك لأن "النكزة" جاءت عكسية، واعتبرت الدراسة أن المستهلكين في المتوسط وفروا 200 سعر حراري لم يكونوا بحاجة إليها.
ولهذا السبب تحديدًا كثيرًا ما يثار التساؤل حول ما إذا كان أسلوب "النكز" مبررًا أخلاقيًا، لأنه إذا كان يمكن استخدامه لدفع الناس لعمل أشياء جيدة يمكن استغلاله كذلك لدفعهم نحو السلبي أو السيئ.
وهناك تأثير "عقلي" اقتصادي آخر يعرف باسم "الشرك الخداعي" أو (DECOY EFFECT) ويقصد به لفت الانتباه في ناحية من أجل التوجه لناحية أخرى.
وأبرز مثال على ذلك يكون في قوائم الطعام، حيث كثيرًا ما يتم وضع طبق غالي الثمن بوضوح، وغير مجد من حيث تقدير القيمة مقابل السعر، حتى يبدو الطبق الذي يليه سعريًا "صفقة جيدة" أيضًا.
ما الحل؟
إذا كان العقل يعمل بهذه الطريقة سواء في الاستهلاك أو الاستثمار، أي أنه كثيرًا ما يعمل "ضدنا"، فكيف نجعله يعمل "لصالحنا"؟
دكتور "دان باليسون" وهو محاضر نفسي، ومستشار لمجموعة "كي ستون ويلس بارتنرز"، وهي مجموعة استثمارية تدير أصولًا تتجاوز 600 مليون دولار، يؤكد أن الأساس يكمن في أن تتخذ قرارات واضحة حول أصولك وأموالك سواء كنت مستهلكًا أو مستثمرًا.
فكمستهلك يمكنك تخصيص 80% من دخلك مثلًا للاستهلاك، فإن كان دخلك ألف دولار شهريًا تنفق 800 دولار منه خلال الشهر وتدخر 200 دولار.
وتظل هذه المعادلة سارية على كافة أشكال الدخل التي تحصل عليها، فإن حصلت على علاوة استثنائية في شهر ما بقيمة 500 دولار، تخصص 400 للاستهلاك و100 للادخار ولا تنفقها كلها، وإن انخفض الدخل تبقي على المعادلة قائمة أيضًا.
أما كمستثمر، فإذا استثمرت (أو ضاربت) في سهم، أو في أصل آخر، بعد بذل الجهد في استبيان جدارته واحتمالية ارتفاع سعره، فعليك تقسيم الاستثمار وفقًا لمعدلات المخاطرة التي قررتها قبل الاستثمار بالفعل وليس بشكل آني مع التقلبات.
فإذا اشتريت 100 سهم بسعر 100 ريال للسهم الواحد، وقررت أن تجعل نصفهم استثمارًا آمنًا بالبيع بعد حد معين، وليكن 105 ريالات، فعليك بالبيع حتى لو وصلت لهذا السعر سريعًا.
وإذا قررت جعل 30% كاستثمار "متوسط الخطورة" بانتظار سعر 108 ريالات مثلا، فعليك بيع الـ30% فور وصوله لـ 108 ريالات، مع ترك الـ20% الباقين لمستوى 112 ريالًا مثلا والالتزام بنفس الشكل السابق.
فهذا وحده الكفيل بالحد من تأثير "الهرمونات" التي تفرز مع الشعور بالمكاسب، مثل الدوبامين والأدرينالين، فضلًا عما يعرف في علم النفس وينطبق في الاقتصاد بنظرية "اليد الفعالة (الساخنة)".
ونظرية "اليد الساخنة" جاءت من رياضة كرة السلة، فإذا تمكن لاعب من إحراز أكثر من رمية ثلاثية بشكل متتالٍ يعتقد كثيرون بأن رميته المقبلة ستكون ناجحة أيضًا.
وبالمثل ففي سوق الأسهم يعتقد كثير من المتعاملين أن سهمًا بعينه لن ينخفض لأنه يواصل الصعود منذ فترة.
وفي النهاية تبقى العودة للمنطق والهدوء والتفكير المتأني هي الضمانة الوحيدة لئلا تخدعنا عقولنا كبارًا، بعدما أيقنا أن كيلو الحديد يساوي فعلاً كيلو القطن.
المصادر: أرقام- بيهيفريال أيكونوميكس- انفستبيديا- ساينس دايريكت- تايم- ساينتيفيك أمريكان- وايرد
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}