"لن نشارك في دعم حرب بوتين على أوكرانيا، ولذلك السبب سنستهدف الشريان الرئيسي للاقتصاد الروسي: النفط" هذا ما أعلنه الرئيس الأمريكي "جو بايدن" على "تويتر" قبل أسبوع عندما قررت بلاده حظر النفط والغاز والفحم الروسيين، ليخرجهما من دائرة "عدم الاستهداف" بالعقوبات.
وجاءت تلك الخطوة الأمريكية، والتي تلتها خطوة بريطانية مماثلة بوقف الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية بنهاية 2022، وإقرار الاتحاد الأوروبي لخطة طموحة لوقف الاعتماد على النفط والغاز الروسي قبل "2030 بكثير" لتثير التساؤل عما إذا كان هناك خريطة طاقة جديدة تتشكل عالميا بوجه عام وأوروبياً بوجه خاص.
لماذا تختلف أوروبا؟
في خلال عام 2020 لم تتجاوز واردات أمريكا من النفط الروسي 3% من إجمالي استهلاكها، ولم تتخط هذه النسبة أبدا 8%، بينما لا تستهلك الولايات المتحدة الغاز ولا الفحم الروسي، بما جعل اتخاذ القرار الأمريكي أسهل نسبيا.
بل إن الولايات المتحدة بدأت فور قرارها التباحث مع فنزويلا حول كيفية رفع العقوبات النفطية عليها، في مسعى لتعويض صادراتها النفطية من روسيا وطمأنة الأسواق أيضا.
أما في أوروبا فيبدو الوضع مختلفا إلى حد بعيد، حيث يذهب أكثر من نصف براميل النفط الخام التي تصدرها يوميا، وعددها 5 ملايين برميل، إلى أوروبا، وبشكل عام فقرابة 25% من النفط المستهلك في أوروبا يأتي من روسيا، سواء مكررا أو خاما.
كما يشكل الغاز الروسي حوالي 40-45٪ من واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي، ومن ثم فإن عدم وصوله إلى هناك سيضر بعدة دول أهمها إيطاليا وألمانيا.
تأثير مدمر
ولذلك تشير دراسة نشرت في الحادي عشر من مارس الحالي لـ"جولدمان ساكس" إلى أن تأثير استمرار ارتفاع الأسعار الحالي على المحروقات بشكل عام سيجعل النمو الاقتصادي لمنطقة اليورو سالب 0.6%، وستصل هذه النسبة إلى -0.9% في ألمانيا على سبيل المثال.
أما إذا أوقفت روسيا صادراتها من النفط والغاز تماما لأوروبا فلن تقل نسبة الانكماش عن 2.2% عن التوقعات الاقتصادية، وستصل هذه النسبة إلى 3.4% في ألمانيا على سبيل المثال، ويعتقد كثيرون أن هذه نسب متفائلة للغاية مقارنة بما سيحدث على أرض الواقع. (مع ملاحظة أن تأثير الانكماش يكون مضاعفا مع التضخم).
ولذلك فعلى الرغم من الترحيب الأوروبي بوقف "بايدن" استيراد النفط من روسيا، إلا أن حديث وزيرة الخارجية الألمانية "انالينا بيربوك" مع صحيفة "بيلد" المحلية جاء صريحا للغاية عندما قالت: ثلث وارداتنا من النفط يأتي من روسيا، وإذا أوقفنا هذه الواردات فورا، فإننا لن نتمكن من التحرك في ألمانيا في الأيام التالية".
بل حذر وزير الاقتصاد الألماني "روبرت هابيك" من انهيار اقتصادي حاد في حال فرض حظر على واردات النفط والغاز من روسيا.
وقال "هابيك" في تصريحات لمحطة "آر تي إل" التليفزيونية الألمانية : "لن نتحدث حينها عن قفزات في الأسعار، ولكن عن ارتفاع دائم لأسعار الوقود الأحفوري"، مضيفا أن "الأمر لن يتعلق بإطفاء الأنوار في وقت مبكر من الليل بل سيدور حول انهيارات في الشركات وبطالة".
النفط والغاز أيضا
الشاهد أن الإنتاج الروسي من النفط لا يمكن تعويضه بسهولة، أو حتى بتكلفة مقبولة على المدى القصير والمتوسط، وأوروبا ستكون في صدارة من يعاني حال استبعاده من السوق وهو الحاصل حاليا بالفعل مع عجز 70% من النفط الروسي الموجه لأوروبا عن الوصول لجهات استهلاكه. وذلك رغم محاولات فنزويلا تقديم نفسها كبديل.
فالدولة اللاتينية تمتلك أكثر من 18% من احتياطيات النفط المؤكدة وفقا للكثير من الدراسات، بقرابة 300 مليار برميل، ولكن قدرتها على تقديم المزيد من "الإنتاج الآني" أو حتى خلال 3 أشهر تبقى محدودة للغاية.
أما في ملف الغاز فيمكن لأوروبا –نظريا- أن تلجأ إلى مصدري الغاز الحاليين مثل قطر أو الجزائر ونيجيريا، لكن هناك عقبات عملية أمام توسع هذه البلدان في إنتاجها بشكل سريع، ولذلك يتوقع كثيرون أنه إذا أوقفت روسيا إمدادات الغاز إلى أوروبا، فمن المحتمل لجوء بروكسل إلى استيراد المزيد من الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة، كما يمكن أن تلجأ أوروبا إلى تكثيف استخدام مصادر الطاقة الأخرى.
وعلى الرغم من توقعات بأن تصبح الولايات المتحدة المنتج الأكبر للغاز المسال عالميا خلال العام الحالي بواقع 11.4 مليار قدم مكعب يوميا (حوالي 117 مليار متر مكعب سنويا) إلا أن الإنتاج الأمريكي لن يكون كافيا لسد الاحتياجات الأوروبية على المدى المنظور (خاصة مع احتياجات السوق المحلي الكبيرة)، وإن كان بديلاً ممكناً على المدى الطويل.
ويلاحظ هنا أن العقبات ليست فقط لوجستية على المدى القصير والمتوسط ولكنها أيضا عقوبات اقتصادية على المدى الطويل في ظل ارتفاع سعر الغاز المسال بشكل عام عن المنقول بخطوط الأنابيب، وأن الغاز الأمريكي في هذه الحالة سيحتل موقع الروسي بوصفه "بلا بديل جيد".
حذر أمريكي
وبشكل عام أبدى منتجو النفط والغاز الأمريكيون حذرا بشأن زيادة الاستثمار ردا على ارتفاع أسعار النفط والغاز، لأسباب منها تشكيك وول ستريت إزاء خطط حفر كبيرة.
كما حولت الشركات جزءا من أموالها الإضافية من الأرباح المرتفعة، إلى توزيع عائدات الأرباح على المساهمين وإعادة شراء الأسهم، وذلك بعدما تكبد الكثير من تلك الشركات خسائر خلال 2020 بما دفعها لمحاولة استعادة موقعها الجيد في الأسواق.
كما يخشى المنتجون الأمريكيون من احتمال الإنفاق للتوسع في الإنتاج قبل استقرار الأوضاع الجيوسياسية في روسيا وفنزويلا وإيران، بما سيجعل الإنتاج الأمريكي في هذه الحالة "فائضا عن الحاجة" ولن يحقق الوفورات المنتظرة ولذا يحجمون -حتى الآن- عن إقرار أي خطط للتوسع.
محاولات أوروبية رغم العقبات
وفيما يتعلق باستبدال أوروبا للطاقة الأحفورية بتلك المتجددة بشكل عام فإن الخبراء يؤكدون أن الأمر لن يكون سريعًا أو سهلًا، حيث قال محلل الأبحاث "سيمون تاغليابييترا" في تصريحات لهيئة الإذاعة البريطانية: "تستغرق مصادر الطاقة المتجددة وقتًا في طرحها، لذا فإن هذا ليس حلاً على المدى القصير ولا المتوسط".
وعلى الرغم من ذلك أقرت المفوضية الأوروبية تنويع مصادر إمدادات الغاز للاتحاد الأوروبي، علاوة على زيادة استخدام الهيدروجين والميثان الحيوي، من خلال تكثيف المحادثات الجارية بالفعل مع أبرز الدول المنتجة (النرويج والولايات المتحدة وقطر والجزائر).
كما دعت المفوضية الاتحاد الأوروبي أيضًا إلى تسريع جهود إزالة الكربون في المباني (عزل أفضل، وأساليب التدفئة) وفي الصناعة، كما ورد في خطته المناخية لعام 2030 "سيؤدي تنفيذها الكامل إلى خفض معدل استهلاك الغاز الأوروبي السنوي بنسبة 30%"، بحسب بروكسل.
والتدابير المقدمة "من شأنها تخفيض الطلب الأوروبي على الغاز الروسي بمقدار الثلثين بحلول نهاية العام" و"ستجعل الاتحاد الأوروبي لا يعتمد على المحروقات الروسية قبل عام 2030".
الصين "الجائعة باستمرار"
وعلى الجانب الآخر، يشير تقرير لـ"بلومبرغ" إلى أن الصين بدأت بالفعل في مفاوضات مع الشركات الروسية من أجل الدخول في سوق النفط والغاز وشركات التعدين الروسية مكان الشركات الغربية المنسحبة، بوصف ذلك "فرصة" للصين "الجائعة باستمرار" للمواد الأولية (خاصة لو جاءت بأسعار أرخص).
ويتفق ذلك مع إقرار الصين مؤخرا لإقامة خط بينها وبين روسيا لنقل 10 مليارات متر مكعب من الغاز الروسي سنويا إلى بكين، ومن المنتظر الانتهاء من هذا الخط خلال عامين إلى 3 أعوام وفقا للصعوبات اللوجستية.
ولكن هذا لا يشكل بديلا مرضيا لموسكو، فصحيح أن أوروبا –حاليا- لا تستطيع الاستغناء عن الغاز الروسي، إلا أن روسيا لن تجد مشتريا أفضل من أوروبا أيضا، خاصة إذا قارنا سعة الخط الروسي الصيني بسعة "نورد ستريم" والتي تصل إلى 55 مليار متر مكب من الغاز الذي يتم نقله إلى أوروبا (غالبا ما يتم تصدير 40 مليار متر باستخدامه فحسب في المتوسط).
وكان من المنتظر أن تتضاعف تلك السعة إلى 110 مليارات متر مكعب مع إنشاء خط "نورد ستريم 2" ولكن الحرب الروسية على أوكرانيا أوقفت المحادثات حول الغاز الروسي.
إذن يبدو أن أوروبا وروسيا غير مستعدتين بأي حال للاستغناء عن بعضهما البعض في الوقت الحالي وعلى المدى المنظور، ولكن كليهما يبحث –سريعا- عن بدائل، بدأت بعضها في البروز بالفعل، قد تغير ممارسات "ثابتة" بما يعيد تشكيل خريطة الطاقة في أوروبا بالكامل، وربما العالم أجمع.
المصادر: أرقام - وكالة الأنباء الفرنسية - بلومبرغ- بي بي سي - سي إن بي سي
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}