تزايدت التكهنات مؤخرا حول احتمالات استمرار ارتفاع أسعار النفط لتصل إلى مستويات قياسية جديدة، بفعل تزايد الطلب من جهة والاضطرابات في العرض من جهة أخرى، وسط مخاوف من ألا يكون التوسع في الإنتاج المضاف إلى ما هو قائم من النفط قادرًا على تلبية الاحتياجات المستقبلية منه.
وعادة ما تشهد أسعار النفط ارتفاعا في ذروة موسم الشتاء بسبب البرودة وزيادة الطلب على الكهرباء لدواعي التدفئة، وأيضا مع دخول فصل الصيف مع زيادة الأنشطة واستخدام وسائل النقل بوتيرة أعلى، ولا سيما مشتقاته مثل البنزين في الدول الغربية.
قصور حالي ومستقبلي في العرض
وعاد الحديث في الغرب مؤخرًا إلى احتمال وصول النفط إلى مستويات 2008 القياسية وتحديدا الحادي عشر من يوليو ببلوغه أعلى سعر تاريخي له عند 147 دولاراً وهو ما يعتبره الكثيرون في الغرب بمثابة إذكاء للتضخم المتفاقم بالفعل في الولايات المتحدة وأوروبا.
وتشير دراسة للوكالة الدولية للطاقة إلى أنه على الرغم من أن مجموع "الفاقد" من إنتاج النفط عالميا، بفعل العقوبات على روسيا والرفض "الشعبي" الأوروبي لنفطها، لا يتجاوز 3.5 مليون برميل أي ما يشكل قرابة 4.5% من إجمالي الإنتاج العالمي والمقدر بـ 77 مليون برميل يوميا في الربع الأخير من 2021 إلا أن التأثير يبدو أعمق من ذلك.
بل تشير تقديرات غير رسمية إلى أن ما يحد بشكل ما من تأثير غياب هذه النسبة من الإنتاج الروسي حقيقة أن قرابة مليوني برميل روسي "تتسرب" إلى الأسواق الصينية والهندية في ظل تغاضي البلدين عن ذلك لأنه يأتي بأسعار أقل كثيرا من السوق، فضلا عن استمرار تسرب نسبة غير محددة بدقة من الإنتاج الروسي إلى أوروبا نفسها.
ولا تقتصر المخاوف فقط على احتمال القصور الحالي في العرض من النفط ولكن تمتد لاحتمال استمرار هذا القصور مستقبلا مع توقعات وكالة الطاقة الدولية باستمرار نمو الطلب على النفط خلال السنوات العشر أو العشرين المقبلة على الأقل وعدم التوسع في إنتاجه بشكل مكافئ.
"موسم ذروة الطلب"
هذا من جانب العرض أما على صعيد الطلب فتوقع بنك "جي. بي. مورجان" أن يصل سعر البنزين في الولايات المتحدة إلى 6 دولارات للجالون في الصيف، ليتخطى مستوياته القياسية في الفترة الحالية والتي لم تتعد 4.5 دولار وذلك بسبب "الإقبال" على الوقود بمناسبة بدء ما يعرف بموسم "ميموريال داي" والذي يبدأ معه الكثير من الأمريكيين بالسفر برًا لمسافات كبيرة للغاية عبر الدولة مترامية الأطراف.
وتعرف هذه المرحلة في الولايات المتحدة بأنها "موسم ذروة الطلب" وفي ظل أن الولايات المتحدة تستهلك ربع الإنتاج العالمي بقرابة 19.77 مليون برميل متوسط يوميا خلال عام 2021 فإن الزيادة في الطلب المتوقع بأن تكون 10%-15% خلال الشهرين المقبلين تحديدا قد تعني الحاجة لأكثر من مليوني برميل يوميا بما يزيد من الضغوط السعرية على النفط.
كما أن الولايات المتحدة تواجه أزمة كبيرة متعلقة باضطرارها لتشغيل المصافي بنسبة تقارب 95% وهو ما يشير إلى الطلب المتنامي من جانب، فضلا عن مخاوف متعلقة بـ"انهيار النظام" إذا ما أدى الضغط الكبير على المصافي إلى تعطل بعضها.
وعلى الرغم من أن هذا الأمر يبدو مأزقًا أمريكيًا محليًا إلا أن تأثيره سيكون عالميًا بفعل درجة كبيرة من الاتصال في سوق النفط العالمي من جهة، فضلا عن تأثير الاقتصاد الأمريكي وما يشهده من تضخم على الاقتصاد العالمي من جهة أخرى.
المأزق الأوروبي
كما أن العجز الأوروبي عن التوصل لاتفاق واضح في شأن حظر النفط الروسي بشكل تام أو جزئي واستثناء بعض الدول، مثل المجر منه، يبقي أسعار النفط في مستويات مرتفعة، ولذلك تذبذبت أسعار النفط بين مستوى 100-120 دولار خلال الشهرين الماضيين مع تأرجح المواقف الأوروبية من النفط الروسي.
ويشير محللون إلى أن ما سيطر نسبيًا على ارتفاع أسعار النفط هو الإغلاقات في الصين وما تبعها من مخاوف متفاقمة متعلقة باحتمالات الركود في الولايات المتحدة سواء في نهاية العام الحالي أو في بداية العام المقبل مثلما يتوقع الكثير من الخبراء.
ويشير تقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي إلى أنه لولا وجود هذين العاملين (الإغلاقات ومخاوف الركود) لتجاوز سعر البرميل 150 دولارا بل وربما وصل لـ200 دولار في بعض التقديرات، على الرغم من أن هذه المستويات تبدو "نظريا على الأقل" غير قابلة للاستمرار لفترات طويلة، بفعل تأثيرها المفترض على الحد من الطلب (يرى البعض أن الطلب لن يتراجع كثيرا بسبب الأهمية الكبيرة للنفط وصعوبة الاستغناء عنه).
ويرى التقرير أن الارتفاع الحالي في الأسعار مدفوع بـ"الخوف" أكثر من كونه مدفوعا بحقائق العرض والطلب، والشاهد أن النفط من أكثر السلع تأثرًا بالتطورات الجيوسياسية والاقتصادية وأسرعها تقلبا، ولذا فإن الخوف من تعطل أو تهديد الإمدادات يدفع الأسعار يقينًا للارتفاع.
ومع التطورات السياسية المهددة لإمدادات النفط، بسبب النزاع بين الغرب وروسيا، والنمو المتصاعد في الطلب على النفط، والمخاوف المتعلقة بعدم وجود آفاق جديدة لتوسيع الإنتاج فإنه يبدو أن سعر النفط سيستمر في الارتفاع حتى ربما يصل إلى مستويات قياسية جديدة.
وما قد يحد -ولو مرحليا- من الصعود المنتظر للأسعار هو الوصول لتفاهمات أوروبية تتيح استمرار استخدام النفط الروسي، وتفاهمات أمريكية داخلية لزيادة الإنتاج، وربما إعادة دمج دول "مهمشة" مثل فنزويلا في منظومة الإنتاج العالمي، لتبقى تلك كلها بمثابة مسكنات مؤقتة في انتظار توسيع الاستثمار في النفط بما يتلاءم مع استخداماته، بعيدا عن النظرة "الحالمة" لاستخدام الطاقة المتجددة.
المصادر: أرقام- المنتدى الاقتصادي العالمي- وكالة الطاقة الدولية- أويل برايس- رويترز
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}