يبدأ المستثمر في تحليل بيانات السوق والأسهم، وتقوده قراءته للسوق إلى أن الشركة "أ" والشركة "ب" بمثابة صفقتين جيدتين للغاية؛ لأنهما مقدرتان بأقل من قيمتهما الحقيقية بهامش كبير، ما يجعلهما فرصتين حقيقيتين وسانحتين من أجل تحقيق مكاسب كبيرة في المستقبل.
وعلى الرغم من ذلك لا يقوم المستثمر بشراء أسهم في الشركتين، ويظل يترقب سعرها وهي ترتفع بعد ذلك، ليظل شعور "الندم" يلاحقه باستمرار بأنه "كان عليه" شراء أسهم الشركتين لكنه لم يفعل، وفي الكثير من الأحيان يكون سبب عدم التحرك هو ما يعرف بـ"متلازمة المحتال".
نقص ثقة رغم الكفاءة
وتعني متلازمة المحتال أن يمتلك الشخص الأدوات اللازمة للقيام بعمله خير قيام، وأن يحظى حتى أحيانًا باعتراف واسع بقدراته، وعلى الرغم من ذلك يظل يشعر في قرارة نفسه بأنه غير كفء وغير قادر على القيام بعمله بالشكل الأمثل، حتى وإن لم يدعم شعوره هذا أي دليل لكنه يظل طيلة الوقت يشعر كما لو كان "محتالًا".
وتشير دراسة إنجليزية إلى أن 85% من العاملين في مختلف المجالات يشعرون أو شعروا في مرحلة ما بأنهم غير أكفاء للقيام بمهامهم بشكل كامل على الأقل، وأن 70% من العاملين بمختلف المجالات يشعرون دائمًا بوجود ما ينقصهم مهنيًا، وإن تظاهروا بعكس ذلك في غالبية الحالات.
وتشير دراسة لجامعة "يل" إلى أن 40% من أسباب تأخر القرارات الإدارية المهمة في الشركات ترجع أول الأمر إلى عدم ثقة بعض المديرين في أنفسهم، حيث يؤجلون اتخاذ القرار إلى اللحظة التي يصبح فيها اتخاذ القرار حتميًا ولازمًا وهنا يتخذون القرار الذي استقروا عليه بعد دراسة ولكن بعد أن يصبح الخيار بين "لا قرار" أو "قرار".
ويشير هذا إلى عدم ثقة بعض المديرين في قراراتهم بالفعل إلى الدرجة التي تدفعهم إلى اتخاذ القرار كما لو كانوا "تحت التهديد" من جانب الفشل الكامل للشركة في حالة عدم اتخاذه، أي أن يصبح القرار الذي يتخذونه في أعينهم إما قرارًا ناجحًا أو "أقل الضررين"، وهذا على الرغم من أن كثيرًا منهم قد يكون مؤهلًا بالفعل لاتخاذ القرار.
في الاستثمار أيضًا
وفي سوق الأسهم كثيرًا ما تظهر "متلازمة المحتال" مع هؤلاء المستثمرين الأكثر خبرة، ولا سيما مع الحاجة لاتخاذ قرارات سريعة في حالات المضاربة أو حتى خارج سوق الأسهم في مجالات استثمار أو مضاربة في أصول متغيرة القيمة مثل العملات الرقمية.
ويشير "ديدي تايهوتو"، وهو مستثمر برتغالي في البيتكوين، إلى أن عائلته خسرت حوالي مليون دولار من قيمة حيازاتها من "بيتكوين" منذ بداية العام الحالي فحسب، مشيرًا إلى أنه كان يعلم أنها ستنخفض مع رفع الفائدة الأمريكية لكنه لم يكن يعلم أن الانخفاض سيكون بهذه الحدة ولأشهر، ولم يكن يثق تمامًا في تقديراته.
وعلى الرغم من توقعه للانخفاض لكن "تايهوتو" لم يبع أغلب حيازاته من "بيتكوين" وأبقى على حيازتها حتى يومنا هذا، حيث يرى أن البيع في هذه المرحلة قد يكون ضارًا لاحتمال حدوث ارتدادة صاعدة لاحقاً للأسعار بما يجعله يخسر مرتين، مرة بالاحتفاظ ومرة بالبيع.
وما ينطبق على "تايهوتو" يسري على مستثمرين كثر في البيتكوين رأوا انخفاضًا مستمرًا في سعرها عن قمته في نوفمبر 2021 حتى فقدت قرابة 65%، وأدركوا أسبابه من تضخم ورفع سعر فائدة ومخاوف ركود، لكن كثيرًا منهم لم يتحركوا لبيع حيازاتهم ليبدو أنهم يقدمون "آمالًا غير مبررة" على "حساباتهم العقلية" التي يشكون بها.
"فرصة" في النفط
وفي المقابل فإن مستثمرًا مثل "وارين بافيت" لاحظ وجود فجوة بين العرض والطلب في سوق النفط، وتابع الارتفاع في سعر النفط وجاءت تقديراته أن شركات النفط الأمريكية ستشهد ارتفاعًا وبناء على ذلك عزز من حصصه فيها.
فخلال شهر مارس الماضي رفع "بافيت" حصته في شركة "أوكسيدنتال بتروليوم" التي تعتبر أكبر منتج للنفط في ولاية "تكساس" وأكبر منتج للغاز في ولاية "كاليفورنيا" إلى 15% بشرائه 118.3 مليون سهم، وحصوله على خيار شراء أكثر من 80 مليون سهم أخرى.
والشاهد أن "بافيت" لم يستثمر في "أوكسيدنتال بتروليوم" فحسب بل قام بالاستثمار في الشركة العملاقة "شيفرون" أيضًا، على الرغم من سابق دعمه للأولى في مواجهة الثانية عام 2019 لدى تنافسهما على ضم "أناداركو بترليوم".
وتشير تقارير أمريكية إلى أن "بافيت" يعتزم زيادة حصصه في العديد من الشركات البترولية في ظل اعتقاده أن الإدارة الأمريكية ستضطر إن عاجلًا أو آجلًا لخفض القيود على استخراج النفط محليًا، خاصة مع استمرار ضغوط التضخم وارتفاع أسعار البنزين والكهرباء، بما سيجعل العديد من هذه الشركات تزدهر.
تردد أو قرار متأخر
وتشير دراسة نفسية أمريكية إلى أن قرابة 40% من هؤلاء الذين يتمتعون بمعارف جيدة عن سوق الأسهم يترددون في اتخاذ قرارات الاستثمارات وقد يحجم بعضهم عن اتخاذ القرار الصحيح ويتخذه البعض الآخر متأخرًا بما لذلك من تأثير سلبي على العائدات بسبب إحساسهم المستمر بأن عليهم أن يكونوا "على حق دائمًا".
فعدم شراء سهم صاعد أو عدم بيع سهم هابط أقل وطأة من المراهنة على هبوط سهم ومن ثم بيعه أو شراء سهم والتعويل على ارتفاعه وحدوث العكس في الحالتين، فهذا يتعارض مع رغبة المستثمر دائمًا في "التحقق" وأن يكون "دائمًا على حق".
ولهذا العديد من الأسباب منها النفسي المتعلق بنظرة المستثمر لنفسه ونظرة الآخرين إليه وترتبط هذه الجزئية بمتلازمة المحتال إلى حد بعيد، ومنها العملي في ظل توظيف العديد من المستثمرين لأموال الغير بما يجعله راغبًا في تجنب أي فشل "واضح".
جراهام: سد الثغرات وتحرك
وبشكل عام فإن قرابة 70% من المستثمرين الكبار في سوق الأسهم خسروا أموالًا مرة واحدة على الأقل بسبب عدم ثقتهم الكافية بتقديراتهم، على الرغم من صحتها وإشادة الكثيرين بها، إلا أن وقوعهم في براثن "متلازمة المحتال" أفقدهم فرصًا سانحة للاستثمار وتنمية الموارد.
ويقول "بنيامين جراهام" الذي يعتبر الأب الروحي للكثير من مستثمري اليوم: "الأفراد الذين لا يستطيعون السيطرة على عواطفهم هم غير مناسبين للاستفادة من عملية الاستثمار"، مشيرًا إلى أن الفارق بينه وبين غالبية من عرفهم أنه كان يقوم بما وصفها بـ"عملية متكاملة" تبدأ بالتحليل وتنتهي باتخاذ القرار وتنفيذه، بينما يقف كثيرون عند التحليل فحسب دون التحرك للأمام.
ويقول "جراهام" إن الحل لمثل هذا التردد هو التأكد من "سد الثغرات" في التحليل وفور التأكد من تماسكه وصحته يقوم المستثمر بالتنفيذ فورًا، متيقنًا أنه لن يستطيع السيطرة على كل المتغيرات في السوق وأن كل ما يمكنه التحسب لها، وأن "التحكم الكامل" وهم لا يمكن إدراكه في الأسواق أبدًا حتى لكبار المستثمرين.
وختامًا فإنه كثيرًا ما يكون على المستثمر في الأسواق أن يبذل ما عليه من البحث والتقصي والدراسة والتحليل ثم يستلهم قول الشاعر"إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة.. فإن فساد الرأي أن تتردا"، بدلا من الندم على فرص فقدها.
المصادر: أرقام - كتاب المستثمر الذكي لبنيامين جراهام - الجمعية الأمريكية لعلم النفس - بيهيفريال ايكونوميكس - تايم - سي.إن.بي.سي
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}