بعد عدد من السنوات يختلف وفقًا للجودة وطريقة الاستخدام، تبدأ أي سيارة في مكابدة أعطال متعددة، ويزداد تردد مالكها على مراكز الصيانة، ويحتاج لشراء قطع الغيار بوتيرة أكبر، بما يجعل السيارة مصدرًا للإزعاج بدلًا من العمل على راحته ونقله من مكان لآخر بسلاسة.
وعلى الرغم من هذا إلا أن كثيرين يحتفظون بالسيارة، ليس لعجزهم عن شراء أخرى، ولكن يقول الشخص لنفسه "لقد أنفقت عشرات الآلاف من الريالات لشراء هذه السيارة التي لم يعد يتعدى ثمنها بضعة آلاف ريال الآن وبيعها سيكون صفقة خاسرة" دون أن يضع في حسبانه الخسائر المتتالية التي يتسبب بها احتفاظه بالسيارة.
أمثلة على التكلفة الغارقة
فباستهلاكها وقود أكثر وقطع غيار فضلا عن أجور الإصلاح للفنيين قد يصبح قسط سيارة جديدة أقل أو يساوي أو حتى أكثر قليلًا من الاحتفاظ بهذه السيارة القديمة، مع ملاحظة أن مالك السيارة هنا يوفر الجهد والوقت أيضًا وليس المال فحسب.
والاحتفاظ بالسيارة هنا هو وقوع في فخ يشابه الوقوع في أشياء أخرى في الحياة والاستثمار، ويسمى مغالطة التكلفة الغارقة، وتعني باختصار أن تتسبب التكلفة التي أنفقناها سابقًا في تكبد المزيد من الخسائر (كأن نستمر في مشاهدة فيلم رغم إدراكنا من دقائقه الأولى أنه سيئ، حرصا على ألا نهدر هذه الدقائق سدى).
والأمثلة على التكلفة الغارقة في الاستثمارات كثيرة، فالدعاية والإعلان تكلفة غارقة، فسواء نجح المنتج أو لم يفعل فإن المستثمر ينفقها ولا يستطيع استعادتها، وكذلك ما ينفقه على التطوير والأبحاث، وما ينفقه على تدريب العاملين.
فهل إذا أنفق مدير 10 آلاف ريال على تدريب عامل على مدى فترة زمنية، وتأكد "تمامًا" أن هذا العامل لا يصلح لمهنته، فهل عليه الإبقاء عليه أم فصله؟ الإجابة المثالية هي فصله لوقف مسلسل الخسائر، ولكن ما يحدث على أرض الواقع كثيرًا ما يختلف عما يجب وقوعه.
تجنب الفشل "المؤلم"
وتشير دراسة لـ"كال أركيس" و"كاثرين بلامر"، المتخصصين في الاقتصاد السلوكي، بعنوان "سيكولوجية التكلفة الغارقة" إلى أن قرابة 88% من المستثمرين على الأقل من المستثمرين يقعون في فخ مغالطة التكلفة الغارقة، حيث يستمرون في مواقف تؤثر عليهم بالسلب بسبب ما أنفقوه من تكلفة لا يمكنهم استعادتها.
وتكشف الدراسة أن أكثر من 90% من المستثمرين الذين وقعوا ضحية هذه المغالطة أشاروا إلى أنهم فعلوا ذلك حتى يحاولوا تجنب الخسارة، وأملا في تحول موقف خاسر إلى آخر رابح، وعلى الرغم من تأكد خطأ موقفهم وتحملهم الخسارة إلا أن نصفهم رأوا أن موقفهم كان "مبررًا".
وهنا يجب التنبه إلى أن الأساس الحقيقي وراء إصرار المستثمرين على محاولة الاستفادة من التكلفة الغارقة هو رغبتهم في تجنب "الألم" الناتج عن الشعور بالفشل، وبالتالي يتوقفون عن التفكير المنطقي القائم على الحسابات الواضحة.
اختيارات أقل رشادة
وأجرى الباحثان دراسة عملية، حيث سألا مشاركين في تجربة عن سلوكهم إذا قاموا بشراء تذكرة لرحلة تزلج على الجليد في "ويسكنسون" مقابل 50 دولارا، وتذكرة أخرى لنفس الرحلة في "ميتشجان" بـ100 دولار، والتذكرة شخصية ولا يمكن إرجاعها، واكتشفوا أن موعد التزلج في المناسبتين واحد.
وطالب الباحثان من المشاركين اختيار رحلة يذهبون إليها، مع ملاحظة وجود إجماع بين من خاضوا تجربتي التزلج في أنها أكثر متعة في "ويسكنسون" (الأرخص).
وأجاب 54% من المشاركين بأنهم سيذهبون إلى "ميتشجان" (الأغلى) وبرروا موقفهم بأن هذا هو الموقف "الأكثر رشادة" في ظل إنفاقهم لمال أكبر على هذا الاختيار.
وبالطبع فإن اختيار الأغلى هنا ليس الأكثر رشادة، لأن الهدف من إنفاق المال على كليهما هو الاستمتاع، وإذا لم يمكن استعادته فيجب تعظيم الاستمتاع ما دام بقي المبلغ الذي يتم إنفاقه ثابتًا.
وتشير دراسة أخرى إلى تأثير "التذاكر الموسمية" (أي لكافة مباريات الفريق طيلة الموسم)على حضور مباريات كرة القدم، فعندما حصل المشجعون على تذاكر موسمية عن طريق شرائها منفردة زادت نسبة الحضور بنسبة 25% لنفس المشجعين عن نسبة حضورهم عندما اشتروها مباشرة.
ويرجع هذا لشعور المشجعين بأنه عليهم الحضور بسبب التكلفة التي تكبدوها بالفعل، بما يؤدي لزيادة نسبة حضورهم للمباريات بوصف التذاكر الموسمية "تكلفة غارقة" يسعون للاستفادة منها قدر استطاعتهم لتجنب الشعور بالخسارة أيضا.
وتتوسع فكرة التكلفة الغارقة لتشمل قرارات ذات طابع شخصي مالي، ومن ذلك دراسة أجراها العالم "مارتن كولمان" المتخصص في علم النفس حول تأثير مغالطة التكلفة الغارقة على التعليم.
وقال "كولمان" لمجموعة من الدارسين إن عليهم تلقي "منهج" تعليمي بحوالي 100 دولار في المتوسط، لكي يحصلوا على عمل، وعندما بدأ الدارسون بتلقي المحاضرات أخبروا بعضهم بأن التكلفة 50 دولارًا وأخبروا آخرين بأنها 100 دولار ومجموعة ثالثة بأنها 150 دولارًا وأخبروا الجميع بأن نسبة النجاح في هذا الفصل الدراسي 75%.
وبعدها جاء "كولمان" للطلبة وأخبرهم أن هناك "منهجا" مماثلا تماما لما يحصلون عليه ويؤهل لنفس العمل، وأنه مجاني تماما وأن نسبة النجاح فيه 85% وسألهم إذا ما كانوا يودون الالتحاق بالمجاني على حساب المحاضرات التي ينخرطون فيها.
ولاحظ "كولمان" أنه على الرغم من أن القرار العقلاني هنا كان التوجه للمنهج الذي يتمتع بفرص نجاح أفضل، إلا أن التكلفة الغارقة كان لها عامل حاسم، حيث إن هؤلاء الذين أنفقوا 150 دولارا كانوا الأكثر إصرارًا على استكمال ما بدأوا فيه على الرغم من أن نسب النجاح أقل مما يوفره لهم كورس مجاني بالكامل.
كيفية التخلص من المغالطة
وعلى صعيد إدارة الشركات فإن شركة "نوكيا" الشهيرة لإنتاج الجوالات وقعت فريسة مغالطة التكلفة الغارقة بوضوح، حيث تشير التقارير إلى أن أحد أهم أسباب سقوط الشركة من على قمة عالم الهواتف المحمولة كان رفض إدارتها تغيير مسار أبحاث الشركة بدعوى الإنفاق عليه كثيرًا.
ففي الوقت الذي طرحت "سامسونج" هاتفها الأول الذي يعمل باللمس ومعها عدد من الشركات الأخرى، كانت "نوكيا" بعيدة عن هذا التطور، وعلى الرغم من أنه كان من الواضح أن المستقبل للهواتف التي تعمل باللمس (الذكية لاحقًا) فإن إدارة "نوكيا" أصرت على الاستمرار في دعم الجوالات التي تعمل بالأزرار لأنها أنفقت مبالغ طائلة في البحث والتطوير عليها.
ويحتاج التخلص من مغالطة التكلفة الغارقة بذل جهد عقلي ملموس من أجل الانتباه إلى حقيقة أن التكلفة الغارقة لا يمكن استعادتها، وأنها لا يجب أن تؤثر على قراراتنا الحالية، وتلافي الشعور بمرارة الفشل من خلال التأكد من وجود "احتمال" دائم بفشل القرارات الاستثمارية.
وعلى المستثمر أن يدرك أن فشل قراراته قد لا يرجع إليه منفردًا، لا سيما مع وجود الكثير من المتغيرات التي تؤثر في البيئة الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من المؤثرات التي قد تدعم أو تتسبب في فشل تلك القرارات الاستثمارية أي أن يكون الهدف هو استقاء العبر وليس البكاء على اللبن المسكوب.
المصادر: أرقام- فوربس- دراسة "psychology of sunk cost"- كوربريت فاينانس إنستيتوت- ذا ديسيجن لاب
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}