تثير الأرباح الوفيرة للشركات في المعتاد وقراراتها الناشئة عن ذلك بشراء أسهم خزينة دوما فورة من الجدل ما بين مرحب ومنتقد للقرار، ولكل دوافعه وفقا لوجهة النظر التي يتبناها.
المرحبون بتلك القرارات عادة ما يعددون منافع من بينها تقليص عدد الأسهم المتداولة في السوق مما يفضي إلى خفض المعروض في مقابل زيادة الطلب أحيانا بينما يجادل المنتقدون بأن ذلك نوع من مراكمة الثروة لا يفيد الاقتصاد بوجه عام.
اتجاه عالمي
يشير الخبراء إلى أن اتجاه شراء أسهم الخزينة توجه عالمي وتاريخي.
أنفقت 465 شركة مدرجة في مؤشر "إس آند بي 500" في يناير 2019، والتي تم إدراجها بين عامي 2009 و2018 على مدار هذا العقد 4.3 تريليون دولار على عمليات إعادة الشراء أي ما يعادل 52% من صافي دخلها.
حتى في أوروبا التي لا تحظى فيها عمليات إعادة الشراء بشهرة كبيرة أصبح صافي عائد إعادة الشراء، أي إعادة شراء صافي إصدارات الأسهم، إيجابيا للمرة الأولى في التاريخ وفقا لأبحاث "بنك أوف أمريكا"، ليماثل المؤشر "ستوكس 600" الأوروبي نظيره الأمريكي "إس آند بي 500" حيث فاقت عمليات إعادة الشراء الإصدار لبضع سنوات.
من المرجح ألا يستمر ذلك الاتجاه. ففي حين أن عمليات إصدار الأسهم الأوروبية منخفضة، إلا أن عمليات إعادة شراء أسهم الخزينة تضخمت بسبب المكاسب غير المتوقعة من ارتفاع أسعار الطاقة ومعدلات الفائدة معا.
يحصي "بنك أوف أمريكا" 52 برنامجا لإعادة الشراء أعلنتها الشركات الأوروبية الكبيرة منذ بداية العام وحتى مارس، 17 منها بنوك و8 شركات طاقة.
وفي العام الماضي، كانت الشركات الأوروبية تشتري الأسهم بوتيرة أسرع من نظيراتها في الولايات المتحدة للمرة الأولى منذ 20 عاما. الآفاق في 2023 تبدو مشابهة.
على الجانب الآخر من الأطلسي، تنفق الشركات الكثير من الأموال على عمليات إعادة الشراء وخاصة شركات التكنولوجيا.
أعلنت الشركات الأمريكية خططاً لشراء ما يعادل 1.2 تريليون دولار من أسهمها العام الماضي ويمكن أن تقترب أو تتجاوز هذا الرقم في العام الجاري.
وتأتي شركات التكنولوجيا العملاقة عادة على قمة هذا الهرم، فقد توصلت دراسة أجرتها جامعة "ماساتشوستس أمهيرست" إلى أن كبرى شركات التكنولوجيا مثل "إنتل" و"آي.بي.إم"، و"كوالكوم"، و"تكساس إنسترومنت" و"بروادكوم" أنفقت 71 بالمئة من دخلها الصافي على عمليات إعادة شراء أسهم في الفترة من 2011 إلى 2020.
يقول الخبراء إنه كان ثمة حماس لطفرة إعادة الشراء في النصف الأخير من العقد الحالي، على الرغم من أن ذلك كان يمثل ببساطة مؤشرا على أن الأرباح تمر بحالة ذروة دورية وأن الشركات توزع النقد الفائض بطريقة تفيد مديري الشركات أكثر من غيرهم.
منافع
يعتقد المستثمرون أن عمليات إعادة الشراء تشكل بديلا عن توزيعات الأرباح.
عندما تقوم شركة ما بشراء أسهمها، فإن الطلب المتزايد عادة ما يرفع أسعار الأسهم. لا تنطوي عمليات إعادة الشراء على ضرائب إضافية على المستثمرين الخاضعين للضريبة حتى يبيعوا الأسهم ويحققوا مكاسب رأسمالية، على عكس توزيعات الأرباح التي تخضع للضريبة كدخل.
فضلا عن هذا فإن قلة عدد الأسهم القائمة في السوق نتيجة لعمليات إعادة الشراء لها تأثير في رفع معامل أرباح الشركة لكل سهم. مع تقلص هوامش الربح، يتوقع بعض المستثمرين أن تواصل الشركات القيام بعمليات إعادة الشراء في محاولة للحفاظ على نمو ربحية السهم.
تتسم أيضا عمليات الشراء بجاذبية خاصة ألا وهي المرونة، إذ يمكن للشركات أن تعدل عمليات إعادة شراء الأسهم بسهولة أكبر للاستجابة للعثرات في الأسواق والاقتصاد مقارنة بتوزيعات الأرباح والنفقات الرأسمالية، والتي تتسم بصعوبة التعديل على نحو أكبر بمجرد البدء فيها وفقا للمستثمرين والمحللين.
وقال "ديفيد وادل" الرئيس التنفيذي لشركة "وادل آند أسوسيتس" إن "عائد توزيعات الأرباح أكثر قدسية في ذهن المستثمرين" مضيفا أنه أكثر ميلا لعمليات إعادة الشراء بسبب كفاءتها الضريبية.
خلاف في الرأي
يقول محللون إن عمليات إعادة الشراء مفيدة للمستثمرين لأنها تجعل أسعار الأسهم ترتفع، لكن الاقتصاديين منقسمون حول ما إذا كانت العمليات مؤشرا إيجابيا من الشركات على نموها المستقبلي.
يقول الخبراء إن عمليات الشراء لها تأثير محفز للأسهم على المدى القصير. على سبيل المثال، في أول فبراير، أعلنت "ميتا" المالكة لموقع "فيسبوك" إعادة شراء أسهم بقيمة 40 مليار دولار. قفزت أسهم "ميتا" عند الإعلان وبعد ذلك ارتفعت تقريبا 25% بنهاية ذلك الأسبوع.
تقول "جينيفير كوسكي" أستاذة المالية بجامعة واشنطن إن عمليات إعادة شراء الأسهم مؤشر إيجابي للمساهمين. وتضيف "حقيقة أنني أدرس... شراء أسهمي تعني عادة أنني، بصفتي الإدارة، أعتقد أن سهمي مُقوم بأقل من قيمته الفعلية".
لكن "سكوت ماكونيل" أستاذ الاقتصاد في جامعة شرق ولاية أوريجون يقول إن هذا ليس الحال دائما. وقال "إعادة شراء الأسهم ليست بالضرورة علامة إيجابية، إذ إن الشركة لا تستغل مواردها للاستثمار والتوسع، لكنها بدلا من ذلك تشتري أسهمها فحسب".
يمكن بالتأكيد أن تؤدي عمليات إعادة شراء الأسهم لزيادة أسعارها، لكن ما إذا كانت تمثل استخداما جيدا لأموال الشركة فهذا يثير الجدل. ويقول "ماكونيل" و"كوكسي" إن إعادة شراء الأسهم تستخدم الأموال التي كان من الممكن إعادة استثمارها لتحسين النشاط.
يحذر البعض أيضا من أن عمليات إعادة الشراء تحرم الشركات من السيولة التي قد تساعدها على التكيف عندما تنخفض المبيعات والأرباح في ظل انكماش اقتصادي.
ويري "ماكونيل" أن عمليات إعادة شراء الأسهم قد تكون مفيدة فحسب لإدارة الشركة. وقال "إنها طريقة لمكافأة كبار المساهمين في الشركة، غالبا المديرين والمسؤولين التنفيذيين أنفسهم".
وقال "ماكونيل" إنها في الواقع "لا تعزز كفاءة أو إنتاجية الشركة بأي حال من الأحوال، بل تركز الملكية على مستثمرين أقل وأكبر".
ومع ذلك، ترى "كوسكي" أن بعض الشركات تعيد شراء أسهمها لأنها لا تستطيع التفكير في أي طريقة جيدة أخرى لإنفاق المال داخليا. وتقول "ربما يحققون الكثير من الأموال إلى حد أنهم لا يريدون استخدام كل الفائض النقدي للاستثمار في أنشطتهم، وهذا ما حدث بالمصادفة للعديد من شركات التكنولوجيا الكبرى".
ديون
ثمة انتقاد بالغ للجوء الشركات إلى إصدارات الدين لتمويل عمليات إعادة الشراء.
فوفقا لبنك "جيه.بي مورجان" بلغت نسبة عمليات إعادة الشراء التي تم تمويلها من سندات الشركات 30% في عامي 2016 و2107.
وفي السابق، أشار صندوق النقد الدولي إلى "المدفوعات الممولة بالديون" كشكل من أشكال المخاطر المالية التي تمارسها الشركات الأمريكية والتي يمكن أن تضعف إلى حد كبير جودة الهيكل الائتماني للشركات.
قد يكون من المنطقي للشركات أن تستغل الشركة الديون لتمويل الاستثمار في القدرات الإنتاجية التي تؤدي في نهاية المطاف إلى إيرادات للمنتجات وأرباح للشركات. لكن الحصول على الدين لتمويل عمليات إعادة الشراء ممارسة لا تحظى بالقبول نظرا لعدم وجود استثمارات مدرة للدخل يمكن أن تسمح للشركة بسداد الديون.
انتقاد من البيت الأبيض
في خطاب حالة الاتحاد لعام 2023، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن إنه يريد مضاعفة الضريبة على عمليات إعادة شراء أسهم الشركات أربعة أمثال لتشجيع الاستثمارات طويلة الأجل بدلا من ذلك.
استحدث قانون خفض التضخم لعام 2022 في الولايات المتحدة ضريبة انتقائية بنسبة 1% على عمليات إعادة شراء الأسهم والتي دخلت حيز التنفيذ في بداية 2023.
وقال بايدن إنه يريد رفع الضريبة إلى 4%. وتوقع مركزان بحثيان هما معهد الضرائب والسياسة الاقتصادية ومؤسسة الضرائب أن تحفز الضريبة الجديدة الشركات على توزيع أرباح الأسهم بدلا من إعادة شراء الأسهم.
يفضل البيت الأبيض وبعض الديمقراطيين أن يستخدم الرؤساء التنفيذيون الأموال لإعادة الاستثمار في أنشطتهم، ويقولون إن هذا من شأنه أن يؤدي إلى شركات أقوى والمزيد من الوظائف وعوائد أفضل للمستثمرين. كما يعتقدون أن عمليات إعادة الشراء تثري المديرين بشكل غير متناسب على حساب الموظفين.
يردد بعض الخبراء وجهة نظر تقول بأن تفسير تفضيل إدارات الشركات لعمليات إعادة الشراء يرجع إلى أن غالبية مكافآت المديرين التنفيذيين للشركات تأتي من خيارات الأسهم وأشباهها، وبالتالي يستخدم كبار المسؤولين التنفيذيين عمليات إعادة الشراء لصالحهم ولصالح الآخرين الذين ينشطون في مجال توقيت بيع وشراء الأسهم المدرجة.
ويقولون إن عمليات إعادة الشراء تثري بائعي الأسهم من المضاربين والعاملين في قطاع المصارف الاستثمارية ومديري صناديق التحوط على حساب الموظفين والمساهمين غير الراغبين في التخلي عن أسهمهم.
على عكس عمليات إعادة الشراء، توفر توزيعات الأرباح عائدا لجميع المساهمين، كما أن إعادة استثمار الشركة للأرباح في استثمارات إنتاجية جيدة الإدارة من شأنه أن يحقق مكاسب رأسمالية للمساهمين إذا قرروا بيع أسهمهم.
في رسالته السنوية إلى المساهمين، قال الملياردير وارن بافيت الرئيس التنفيذي لشركة "بيركشاير هاثاواي" إن من ينتقد عمليات إعادة الشراء إما أنه جاهل اقتصاديا أو سياسي يسعى للتلاعب بمشاعر العامة.
تأثير الفائدة
تقول "كوسكي" أيضا إن الزيادات في أسعار الفائدة يمكن أن يكون لها تأثير سلبي على عمليات إعادة شراء الأسهم. وتضيف "تعمدت بعض الشركات إصدار ديون واستخدام أموالها لإعادة شراء الأسهم".
وأضافت "من المستبعد أن تفعل الشركات ذلك مع ارتفاع أسعار الفائدة أكثر".
وقال "ماكونيل" إن الشركات قد تختار شراء السندات بدلا من الأسهم مع ارتفاع عوائد السندات.
وأشار تقرير صادر عام 2019 عن خدمة أبحاث الكونجرس إلى أن الزيادة في عمليات شراء الأسهم خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين يرجع جزئيا لأسباب من بينها انخفاض أسعار الفائدة، مما يعني أن عمليات إعادة شراء الأسهم قد تكون أقل جاذبية للشركات خلال فترات ارتفاع أسعار الفائدة.
مكافأة المساهمين
تقول "سافيتا سوبرامانيان" رئيسة قسم الأسهم الأمريكية والاستراتيجية الكمية في بنك أوف أمريكا إن عمليات إعادة الشراء مفيدة للمستثمرين، وإن المستثمرين بدورهم يميلون إلى مكافأة الشركات التي تنفذ تلك العمليات عبر شراء المزيد من أسهمها.
وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، ارتفعت أسعار أسهم ما يقرب من 55% من 2997 شركة يتابعها "بنك أوف امريكا" والتي أعادت شراء أسهمها.
يقول "لويس جارسيا فيجو" مدير الأبحاث لدى معهد "سي.إف.إيه" للأبحاث إن إعادة الشراء هي مؤشر لوول ستريت على أن الشركة تتمتع بميزانية قوية وإن ذلك يجذب انتباه المستثمرين.
يميل المستثمرون أيضا للنظر إلى عمليات إعادة الشراء نظرة أفضل من توزيعات الأرباح، إذ إن الأخيرة عادة ما يتم تحميلها بضريبة.
على الرغم من ذلك، فإن إعادة الشراء ليست ممارسة مثالية لكل الشركات، وحتى "بافيت" يعترف بذلك.
يقول الخبراء إن المساهمين يميلون لمعاقبة الشركات التي تعيد شراء أسهم باهظة الثمن بالفعل. تقول "سوبرامانيان" إن أكبر 50 شركة في المؤشر "إس آند بي 500" مبالغ فيها. بالنسبة لتلك الشركات، لا تبدو عمليات إعادة الشراء منطقية.
يعود ذلك إلى أن الشراء في فترات الازدهار والتي ترتفع خلالها الأسعار يجعل الشركات أكثر هشاشة من الناحية المالية في فترات الركود اللاحقة عندما تختفي الأرباح الوفيرة.
ويقول "بارات رامامورتي" نائب مدير المجلس الوطني الاقتصادي إن الشركات تنفق نحو 90% من أرباحها تقريبا على عمليات إعادة الشراء وتوزيعات الأرباح.
يقول بعض المحترفين في السوق إن لديهم أفكارا أخرى. ففي استطلاع أجراه "بنك أوف أمريكا" في ديسمبر لمديري الصناديق العالمية، قال 56% منهم إنهم يفضلون أن يستخدم الرؤساء التنفيذيون للشركات الأموال الزائدة لدعم الميزانية. وقال 16% فقط إنهم يؤيدون المزيد من عمليات إعادة الشراء.
المصادر: أرقام- هارفارد بيزنس رفيو- ناسداك- نيويورك تايمز- وول ستريت جورنال
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}