عندما يبدأ أي مستثمر في البحث عن شركة ليضع فيها أمواله، يكون مطالبًا بتحليل العديد من العناصر، والتي تبدأ من الصورة العامة للاقتصاد، ثم القطاع (أو القطاعات) التي تنشط فيها الشركة، وأخيرًا –وربما الأهم- بيانات الشركة التي يهتم بالاستثمار بها، وبناء على ذلك يتخذ قراره بشراء الأسهم، وبأي مبالغ، أو الإحجام عن الشراء.
ولهذا السبب تحظى البيانات التي تصدرها الشركات، سواء عن نيتها بإجراء توسعات، أو تسريح العمالة، أو بإغلاق فروع باهتمام كبير من المستثمرين في سوق الأسهم، ولكن يأتي الاهتمام بالبيانات المالية في صدارة اهتمام المتداولين، لا سيما أنها قد تكون أكثر أداة مفيدة للمستثمرين والمضاربين على حد سواء (وليست الوحيدة بالطبع).
مكرر ربحية مُضِل
وعادة ما تقوم الشركات بالتلاعب ببياناتها المالية للعديد من الأهداف، من بينها إخفاء الخسائر أو زيادة حجم رأس المال، وغيرهما من العوامل الكفيلة بزيادة جاذبية الشركة في أعين المستثمرين المحتملين، وتحسين صورة مجلس الإدارة أمام المستثمرين الحاليين.
ولكن الأكثر تأثيرًا على المستثمر –والأكثر شيوعًا في التلاعب- هو التلاعب بزيادة الأرباح ويكون انعكاسها على المستثمرين بدفعهم للإقبال على الشركة التي يبدو مضاعف ربحيتها حين ذلك مغريًا بالاستثمار لأنها تبدو حينئذ مقيمة بأقل من قيمتها الحقيقية.
ووصل الأمر إلى حد تقديرات أمريكية بأن 30% من الشركات قد تحظى بمكرر ربحية مضلل بسبب بعض التلاعب المحاسبي، الذي يكون "محدود التأثير" في بعض الحالات، وذا تأثير كبير في حالات أخرى، ولكنه في كل الأحوال يُسهم في تضليل المستثمر.
وفيما يتعلق بالطرق التي تتلاعب بها إدارة الشركات، فوفقًا للدراسات الأمريكية فإن حالات التلاعب المحاسبي في الشركات جاءت كالتالي:
- إنشاء مستندات مالية مزورة: 40% من الحالات.
- تعديل المستندات الورقية: 36%.
- تعديل الملفات والمستندات الإلكترونية: 27%.
- إنشاء ملفات ومستندات إلكترونية مزورة: 26%.
- التستر على جرائم المحاسبة: 12%.
(ملحوظة مجموع النسب أكثر من 100% لأنه في بعض الحالات يتم ارتكاب أكثر من جريمة معًا)
صعوبة اكتشاف التلاعب
وتشير التقديرات إلى أن 70% من حالات التلاعب تمر دون حساب، وأنها تتم بصورة أكبر في الشركات المدرجة في البورصات عنها في الشركات خارجها، وأن بعض الشركات يتم تحويلها من خاسرة لرابحة بترحيل بعض الخسائر لفترات مالية لاحقة أو بالتلاعب بحسابات رأس المال والإهلاك والأرباح الرأسمالية.
والأزمة هنا أنه يصعب بالنسبة للمستثمر العادي أن يكشف وجود تلاعب في غالبية حالات تزوير البيانات المالية للشركة، لأنها تتم بمعرفة محترفين في المحاسبة والاقتصاد، بما يجعلها "تبدو حقيقية" تماما وتدفع المستثمرين في الكثير من الحالات للوقوع في فخ الاستثمار في كيانات ضعيفة.
ولتبيان مدى صعوبة أمر كشف التلاعب المحاسبي، في الوقت المناسب وقبل انهيار الشركات بفعل أوقات طويلة من التلاعب، فإنه يكفي ذكر أنه في 43% من الحالات يتم كشف التلاعب من خلال "بلاغ" من جانب أحد العاملين في الشركة، بينما في 15% من خلال المراجعة الداخلية، و12% عبر الإدارة و5% بالصدفة.
ولعل الوسيلة التي قد تفيد في الكشف عن بعض حالات التلاعب هو الصعود المفاجئ في أرباح الشركة، أو تحقيقها أرباحًا تفوق كثيرًا باقي الشركات العاملة في نفس القطاع دون سبب واضح أي دون تمتعها بميزة نسبية عن باقي الشركات، كما تعين قدرة المستثمر على القراءة التفصيلية للبيانات المالية ودراسته الجيدة لعلم المحاسبة على تجنب الاستثمار في شركات تتلاعب ماليًا (ليس في كل الحالات لكنها مفيدة بالطبع).
ولكن بعض الأساليب الدارجة في التلاعب بالقوائم المالية، مثل تسجيل إيرادات بعض المبيعات التي لم يتم تحصيلها بعد، أو تجنب تسجيل بعض التزامات الشركة بما يجعل وضعها المالي يبدو أشد صلابة يصعب رصدها دون كشفها من الداخل أو انهيار كامل للشركة في مرحلة ما.
"جنرال إلكتريك".. العمالقة أيضا يتلاعبون
وهناك العديد من حالات التلاعب المحاسبي التي تم الكشف عنها خلال السنوات الأخيرة، ومن بينها حالات تسببت في خسارة كبيرة لحملة الأسهم، ومن أبرزها حالة التلاعب في البيانات المالية لشركة "جنرال إلكتريك" الأمريكية العملاقة.
فقد توصل تحقيق أجرته لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية إلى أن شركة "جنرال إلكتريك" ضللت المستثمرين في عامي 2016 و2017 من خلال عدم الكشف عن أن المصدر الحقيقي لكثير من أرباحها المبلغ عنها كان تخفيض تقديرات التكلفة السابقة، وكانت هذه واحدة من عدة فضائح محاسبية لشركة جنرال إلكتريك في السنوات الأخيرة.
فـ"جنرال إلكتريك" هي تكتل متعدد الجنسيات للعديد من الشركات الكبيرة، وتوصل التحقيق الذي أجرته لجنة الأوراق المالية والبورصات إلى أن الشركة لم تكشف للمستثمرين أن 25٪ من أرباح "GE Power" (إحدى شركات المجموعة) في عام 2016 وما يقرب من 50٪ من أرباح القسم في الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2017 كانت بسبب المعاملات الداخلية بينها وبين "جنرال إلكتريك كابيتال" أي أنها معاملات داخلية لا يجوز إبرازها في النتيجة النهائية للشركة الأم.
وصدق الرئيس التنفيذي آنذاك "جيف إيميلت" على التقرير السنوي لشركة "جنرال إلكتريك" لعام 2016، بينما غادر المدير المالي للشركة بعد التصديق على التقرير السنوي وهو ما تم ربطه لاحقًا برفضه التصديق على التقرير بما فيه من تلاعب.
خسائر فادحة
وتضمنت تسوية "جنرال إلكتريك" مع لجنة الأوراق المالية والبورصات غرامة قدرها 200 مليون دولار بعد إدانتها بانتهاك قوانين الأوراق المالية المتعلقة بمكافحة الاحتيال وضوابط الإفصاح وضوابط المحاسبة، وذلك بعد تجنب مسؤوليها الإدانة الجنائية.
وأدى الكشف عن عملية الاحتيال إلى انخفاض سعر سهم الشركة بنحو 75%، وعلى الرغم من الدعاوى القضائية التي تمت إقامتها من جانب بعض حائزي الأسهم ضد إدارتها بتهمة تسببها في خسائر فادحة لحاملي الأسهم فإنها انتهت دون إدانة.
ولعل أبرز فضيحة في تاريخ الولايات المتحدة في مجال التلاعب في البيانات المالية، هي فضيحة شركة "إنرون" التي عملت في مجال الطاقة، حيث وصفت "نيويورك تايمز" ما حدث فيها بأنه "تزوير لغالبية التقارير وليس تعديلا أو تغييرا في بعضها"، وأدى هذا التلاعب إلى إفلاس الشركة حتى توقف التداول على أسهمها وحصل حاملو الأسهم على نسبة من أموالهم فقط مع الدائنين للشركة.
والأزمة الحقيقية التي تعترض المستثمر مع التلاعب في البيانات المالية حقيقة أنه قد يكون مستثمرا "ذكيا" أي أنه قام ببحثه الخاص بما في ذلك دراسة وتحليل الوضع المالي للشركة، وبناء على ذلك قرر الاستثمار في شركة ما دون أن يدري أن هذه الشركة تم التلاعب ببياناتها المالية، ويجعله ضحية لـ"الاحتيال"، مثلما حدث مع من خسروا 75% من رؤوس أموالهم في "جنرال إلكتريك".
المصادر: أرقام- جامعة نيفادا- كوربريت فاينانس إنستيتوت- نيويورك تايمز- تقرير" REPORT TO THE NATIONS 2020 GLOBAL STUDY ON OCCUPATIONAL FRAUD AND ABUSE"
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}