لعب النقد "الكاش" دورا مهما في أزمة البنوك الأمريكية الأخيرة والتي ما زال العالم يتابع تداعياتها بمنتهى الاهتمام خوفا من تكرار أزمة اقتصادية عالمية جديدة على غرار ما حدث في عام 2008.
وأشارت تقارير إلى أن أكبر البنوك المحلية في الولايات المتحدة بدأت العام الجاري بسيولة نقدية أقل من أي وقت مضى منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، مما جعلها غير مستعدة لمواجهة نزوح تدفقات من عمليات سحب الوداع والتي أدت إلى انهيار "سيليكون فالي بنك" و"سيجنتشر بنك".
خفض كبير
يقول الخبراء إنه في ظل ارتفاع أسعار الفائدة، قام 30 بنكا يملك أصولا تتراوح بين 50 و250 مليار دولار بخفض النسبة المئوية لأصولها المحتفظ بها نقدا إلى متوسط قدره 7 بالمئة في بداية 2023 من 13% في العام السابق وفقا لبيانات المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع.
وهذا أقل من نصف السيولة النقدية التي تحتفظ بها أكبر البنوك في البلاد والأكثر خضوعا للقواعد التنظيمية مثل "سيتي جروب" و"جيه.بي مورجان تشيس" والتي تحتفظ في المتوسط بنسبة 15% من أصولها على صورة نقد.
تسبب قلة حجم السيولة لدى البنوك المحلية بما في ذلك "سيليكون فالي بنك" وسيجنتشر بنك" في انكشافها على مخاطر سحب الودائع وعدم الاستقرار بسبب الخسائر الناجمة عن البيع القسري للأوراق المالية التي يمتلكها البنكان لكي يتمكنا من تلبية طلب العملاء على مدخراتهم.
وقال "جوش روزنر" المحلل المصرفي المستقل والعضو المنتدب لدى "جراهام فيشر آند كو" إن حجم السيولة المتوافرة لدى البنك أمر يهتم المستثمرون بفحصه، وأضاف " أدى ذلك بالتأكيد إلى تفاقم حالة الذعر التي عانت منها أسهم البنوك".
ومثلت المستويات المنخفضة من السيولة تراجعا حادا مقارنة مع العام الأول من وباء كورونا، عندما أدت المساعدات الحكومية الأمريكية للبنوك والشركات وانخفاض الإنفاق الاستهلاكي إلى قفزة في الودائع النقدية على مستوى البلاد. وسحبت البنوك المحلية في العام الماضي السيولة لتقديم قروض واستثمارها في السندات وغيرها من الأوراق المالية.
مستوى سيولة ينذر بالخطر
على سبيل المثال، انخفضت حيازة "سيليكون فالي بنك" من النقد كحصة من إجمالي الأصول من 22 مليار دولار أو ما يعادل 14% في منتصف عام 2021 إلى مستوى ينذر بالخطر عند 12 مليار دولار أو ما يعادل 6% فقط في أوائل 2023. وخلال الفترة نفسها، ارتفعت قيمة محفظة البنك من السندات من 83 مليار دولار إلى 117 مليار دولار وارتفعت محفظة قروضه من 50 مليار دولار إلى 72 مليار دولار.
وقال "سكوت هيلدنبراند" كبير استراتيجي الميزانيات لدى شركة الاستشارات المصرفية "بيبر ساندلر" إنه في الوقت الذي بدأ فيه (مجلس الاحتياطي الاتحادي) في محاربة التضخم، بات من الصعب على البنوك الأصغر حجما أن تحقق أرباحا.
وقال إن الحل بالنسبة للكثير من البنوك الصغيرة كان تحويل الأصول التي تحتفظ بها إلى سيولة، دون أن تربح شيئا، وشراء سندات تدر دخلا متواضعا من الفوائد. لكن هذا شكل مخاطرة في حال إذا ما احتاج البنك بالفعل إلى تلك السيولة لسداد أموال المودعين، وهو ما لم يكن محل قلق لسنوات، حتى حدث فجأة.
وعندما بدأ المزيد من مودعي "سيليكون فالي بنك" في طلب استرداد أموالهم العام الماضي، وجد البنك نفسه يعاني من نقص السيولة اللازمة لتلبية طلباتهم. لذلك قرر وقتها "سيليكون فالي بنك" بيع بعض السندات بخسارة 1.8 مليار دولار. بالطبع أرعبت تلك الخسائر المستثمرين وسرعان ما انهار البنك.
يشير المحللون ومستشارو القطاع المصرفي إلى عدد من الأسباب الكامنة وراء انخفاض السيولة. الأول هو مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأمريكي).
ويقول الخبراء إن البنوك الصغيرة تجني معظم أرباحها من الفارق بين أسعار الفائدة قصيرة الأجل وطويلة الأجل، بينما تحصل على إيرادات أقل من الرسوم مقارنة بالبنوك الكبيرة وذلك من الخدمات المصرفية الاستثمارية أو إدارة الأصول أو بطاقات الائتمان.
وأدت الزيادات في سعر الفائدة الاتحادية إلى تقليص ما يسمى بالدخل الموزع، وهو الفارق بين الدخل والتكلفة، في العام الماضي مما أجبر البنوك المحلية وغيرها من البنوك الصغيرة على تخصيص المزيد من السيولة لعملياتها من أجل تحقيق نفس المستوى من الأرباح. وإجمالا، خفضت البنوك المحلية الكبيرة بشكل إجمالي من حيازاتها النقدية بمقدار النصف في العام الماضي.
يقول الخبراء إن القواعد التنظيمية كان لها دور أيضا في تراجع مستويات النقد. إذ إنه في أعقاب الأزمة المالية العالمية، طلبت الجهات التنظيمية من البنوك الاحتفاظ بالمزيد من أصولها نقدا. وأجبرت قواعد السيولة الجديدة بشكل فعال معظم البنوك الكبيرة والمتوسطة الحجم في البلاد، تلك التي تزيد قيمة أصولها على 50 مليار دولار، على الاحتفاظ بأكثر من 10% من أصولها وودائعها نقدا، أي أكثر من ضعف ما احتفظت به معظم البنوك خلال الأزمة المالية.
وظلت مستويات السيولة عند هذا الحد حتى صوت المشرعون في عام 2018 على تخفيف اللوائح الخاصة بالبنوك التي تقل أصولها عن 250 مليار دولار. وبعد ذلك، بدأت مستويات السيولة لدى البنوك المحلية التي تتراوح أصولها بين 50 و250 مليار دولار في الانخفاض.
اتساع الأزمة
أصبح نقص السيولة الآن مشكلة رئيسية للبنوك المحلية بما يتجاوز "سيليكون فالي بنك"، و"سيجنتشر بنك".
وشهد "فيرست ريبابليك بنك"، والذي بدأ عام 2023 بسيولة نقدية تعادل 2% فقط من أصوله، نزوح تدفقات كبيرة من الودائع بعد انهيار "سيليكون فالي" وهوت أسهمه بنسبة 90%. وفي النهاية، وافق 11 بنكا من أكبر البنوك في البلاد على إيداع 30 مليار دولار نقدا في البنك الذي يتخذ من كاليفورنيا مقرا له مما أدى إلى استقرار سعر سهمه.
بنوك أخرى أيضا ما زالت تعاني، إذ تظهر البيانات أن بنك "ويسترن آلاينس" كان يمتلك مليار دولار فحسب نقدا في بداية العام الجاري، أي ما لا يزيد على 1.5% من إجمالي ودائعه البالغة 67 مليار دولار. وتراجعت أسهم البنك بمقدار النصف الشهر الماضي.
كما انخفضت أسهم بنك "كي كورب" بنسبة 30% في أبريل، والذي بلغت السيولة النقدية لديه ما يزيد قليلا على 3 مليارات دولار في مطلع العام الجاري أو ما يقل عن 2% من إجمالي الودائع لديه البالغة 188 مليار دولار.
على الجانب الآخر، بلغت نسبة السيولة لدى "سيتي جروب" نحو 25% من قيمة الودائع في نهاية العام الماضي، وهي أكبر نسبة بين أي من البنوك الكبيرة في الولايات المتحدة. وتراجع سعر السهم بوتيرة متواضعة نسبيا بلغت 10% في مارس.
وقال "هيلدنبراند" إن الكثير من البنوك تبذل ما في وسعها للتأكد من أن مراكزها النقدية كافية عند نشر نتائجها المالية في نهاية الربع الجاري". وأضاف "إنهم يقاومون تصورا، لا أحد يريد أن يكون البنك الذي يقلق بشأنه الناس".
استقرار في نزوح الودائع
كشفت بيانات من مجلس الاحتياطي الاتحادي أن البنوك الأمريكية الأصغر حجما، التي تعرف بأنها أي بنك ليس من بين أكبر 25 بنكا أمريكيا من حيث حجم الأصول، شهدت استقرارا في الودائع في الأسبوع المنتهي في 22 مارس، حيث انخفضت الودائع 1.1 مليار دولار فقط عن الأسبوع السابق على أساس غير مُعدل في ضوء العوامل الموسمية.
يأتي ذلك مقارنة مع 185 مليار دولار من الودائع التي جرى سحبها من البنوك الصغيرة على يد العملاء المذعورين خلال الأسبوع المنتهي في 15 مارس، بعد انهيار "سيليكون فالي بنك". على الرغم من ذلك، فإن الودائع في البنوك ما زالت أقل بنحو 216 مليار دولار خلال الأسبوع المنتهي في 22 مارس عن أعلى مستوى لها في ديسمبر.
وقالت مجموعة "إندبندنت كوميونيتي بانكرز أوف أمريكا" وهي مجموعة معنية بالقطاع إن بعض أعضائها حصلوا على ودائع في الأسابيع الأخيرة حيث سعى العملاء والشركات الصغيرة للبحث عن بنوك لها علاقات قوية مع أسواقها المحلية.
وقالت "آن بالسر" النائبة الأولى للرئيس التنفيذي ورئيسة العلاقات الحكومية والسياسات العامة لدى المجموعة إن ما يسمى "بالبنوك المجتمعية" لم تعلن عن عمليات سحب واسعة النطاق كرد فعل على انهيار "سيليكون فالي بنك" مشيرة إلى أن البنوك المجتمعية الرئيسية ما زالت موجودة في السوق حتى في أوقات عدم الاستقرار. وقالت "أثبتت (تلك البنوك) قدرتها على الصمود خلال الدورات الاقتصادية".
في الوقت نفسه، كشفت بيانات مجلس الاحتياطي الاتحادي أن البنوك الأمريكية الكبيرة خسرت 96.2 مليار دولار من الودائع في الأسبوع المنتهي في 22 مارس. وعزا العديد من المحللين التراجع إلى قيام المودعين بتحويل أموالهم إلى صناديق أسواق المال ذات العوائد المرتفعة.
وانخفضت الودائع في البنوك الكبرى بنحو 519 مليار دولار في فبراير من العام الماضي.
وتقوم البنوك بدور الوسيط في الاقتصاد عن طريق تلقي الودائع وتقديم القروض. وحتى الآن، لم تظهر مؤشرات على أن انخفاض الودائع جعل البنوك تحجم عن تقديم الائتمان للأسر والشركات.
وقال محللون في وكالة "موديز إنفستورز سيرفيس" في مذكرة إن أوضاع التمويل الأكثر تشديدا في البنوك لم تُترجم إلى أي تباطؤ ملحوظ في نمو إجمالي قروض القطاع المصرفي الأمريكي مقارنة مع مستويات فبراير.
مساع لجذب الودائع
يقول المحللون إنه على مدى شهور كان العملاء يطالبون البنوك بأن تدفع المزيد من الفائدة مقابل الودائع مع رفع البنك المركزي الأمريكي لأسعار الفائدة الاتحادية، لكن بعد أن هزت الأزمة المصرفية الأسواق، يبدو أن البنوك هي من تعيد تنظيم أوراقها وتقدم عروضا للعملاء في محاولة منها للإبقاء على أموالهم في الحسابات لفترات أطول.
وتسعى البنوك الأمريكية لاستمالة المودعين من خلال تقديم مكافآت توقيع لفتح حسابات جديدة أو إيداع الأموال بشكل منتظم. بالطبع العروض جاءت بعد أن أدى انهيار "سيليكون فالي بنك" و"سيجنتشر بنك" إلى دفع العملاء لنقل 119 مليار دولار من البنوك المحلية.
وأعلن بنك "كابيتال وان فايننشال كورب" عن مكافأة قدرها 100 دولار لفتح حساب توفير جديد والاحتفاظ فيه بأكثر من 10000 دولار لمدة 90 يوما. ويصل العرض إلى مكافأة قدرها 1000 دولار للودائع التي تزيد على 100 ألف دولار. بينما أعلن بنكا "ديسكفر فايننشال سيرفيزيس" وبنك "ليندينج كلوب" عن مكافآت مماثلة والتي كانت سارية قبل بدء انهيار البنكين الأخيرين.
هذا بينما يقدم بنك "سيتيزين فايننشال جروب" مكافأة قدرها 25 دولارا للعملاء الذين يودعون 100 دولار شهريا لمدة ثلاثة أشهر ويبقون على حد أدنى للحساب وفقا لرسائل بريد إلكتروني أُرسلت للعملاء بعد العاشر من مارس. لكن المتحدثة باسم البنك "إيليني جاربيس" قالت في بيان إن العرض جزء من حملة ترويجية مخطط لها مسبقا لتعزيز عادات الادخار السلمية ولم يكن رد فعل على أحداث معينة.
ويقول محللون إن دفع المزيد مقابل الودائع هو تحرك فعال من البنوك للحفاظ على ولاء العملاء.
وقال "أندرو ديفيدسون" م "ماينتل" وهي وكالة معنية بجمع معلومات السوق إنه "في ظل ارتفاع أسعار الفائدة، فإن حسابات الادخار مرتفعة العائد أصبحت سمة للعصر فيما تتنافس بعض البنوك بقوة للبقاء في صدارة جداول الفائدة التي يعول عليها المستهلكون لأغراض المقارنة".
وأضاف "لقد زاد التنافس الشديد بسبب الانخفاض العام في الودائع فيما تتواصل المزيد من البنوك مع العملاء على مدى الأسابيع القليلة الماضية".
تحاول البنوك أيضا الاحتفاظ بالعملاء من خلال استخدام تكنيكات أخرى مثل شرح القواعد المتعلقة بتأمين ودائع العملاء أو تقديم منتجات مختلفة أو التأكيد على الروابط مع المجتمعات المحلية.
ويقول الخبراء إن البنوك الأصغر حجما والتي كانت الأكثر توترا خلال الأزمة الأخيرة، استطاعت وقف النزوح الجماعي للودائع في الوقت الحالي وفقا لبيانات من مجلس الاحتياطي الاتحادي، لكن هذا لا يمنع أن الأنظار ما زالت تراقب عن كثب التطورات خاصة فيما يتعلق بعمليات السحب.
المصادر: أرقام- رويترز- فايننشال تايمز
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}