خلال الأسابيع القليلة الماضية، حذرت المؤسسات الدولية وخبراء الاقتصاد البارزون من أن الاقتصاد العالمي، وخاصةً اقتصاد الولايات المتحدة، يواجه احتمال تراجع معدلات النمو؛ ليس فقط الركود، ولكن انخفاض في النمو على مدى عقد من الزمن أو أكثر.
ومع أن هذا التراجع يرجع في جانب منه إلى شيخوخة السكان، إلا أنه يمكن أن يعزى أيضًا إلى انتهاج السياسات التي يمكن أن تعرقل النمو.
ربما يعتقد البعض أن مثل هذا التحذير من شأنه أن يدق أجراس الإنذار وأن النمو سيصبح أولوية، ولكن عوضًا عن ذلك تم غضّ الطرف عنه ومواجهته بتجاهل جماعي، والاستمرار في تبني سياسات اقتصادية تقود إلى نمو منخفض.
قد يبدو شرح سبب أهمية النمو الاقتصادي فكرة مبتذلة وغير ضرورية، مثل شرح فوائد الحياة لمدة أطول، أو لماذا ينبغي معاملة الآخرين بلطف. لكن يبدو في الوقت الحالي، أن النمو الاقتصادي يحتاج إلى الدفاع عنه.
- إن النمو هو السبب في أننا جميعًا نعيش حياة أفضل وأطول وأكثر راحة مما كنا عليه قبل 60 أو 40 أو حتى 25 عامًا.
- كما أن حياة الناس تصبح أكثر سعادة مع تزايد الازدهار. أما الركود الاقتصادي، فهو يولد حالة من السخط والحركات الشعبوية.
- كما أن النمو هو أفضل حل لقضية تغيّر المناخ؛ لأن النمو المدفوع بالإنتاجية هو طريقنا لاستخدام موارد أقل للحصول على ناتج أعلى.
قد يقول البعض إننا أغنياء بما فيه الكفاية، فلماذا إذن نحتاج إلى المزيد؟
- حسنًا؛ ربما طرح أحدهم هذا السؤال في القرن التاسع عشر، ظنًا منه أن الأمور أفضل بكثير عما كانت عليه في القرن الثامن عشر.
- لكن؛ ماذا لو افترضنا أن شخصًا ما امتلك القدرة على وقف النمو في القرن التاسع عشر؟ كان من الممكن خداع الأجيال القادمة وتصوير ذلك القرن على أنه أعلى مستوى من الرفاه يمكن أن نصل إليه.
- ومع ذلك، هناك حركة متنامية تعمل على شيطنة فكرة النمو الاقتصادي. حيث يصوّر المشككون النمو على أنه يتعارض مع حماية المناخ. حتى إن صنّاع السياسات المعتدلين من كلا الجانبين أصبحوا يهتمون بشكل متزايد بسلامة الاقتصاد على حساب النمو.
- ولتقريب الفكرة سنجد أن النمو الاقتصادي يشبه إلى حد كبير نمو أسعار الأصول في الأسواق المالية، فهو يأتي كنتيجة للمفاضلة بين العوائد والمخاطر.
- من جانبها توضح المؤرخة الاقتصادية ديدري مكلوسكي أن الثقافة التي شجعت على المخاطرة المبتكرة، حتى بين محدودي الدخل، تُعد السبب في أن المملكة المتحدة كانت أول من تحوّل إلى التصنيع ومن ثمّ أصبحت القوة الاقتصادية التي وصلت إليها.
- لطالما اختارت الولايات المتحدة تحقيق النمو على حساب السلامة مقارنةً بأوروبا. فهي توفر رفاهاً أقل للطبقة الوسطى، واقتصاداً منفتحاً نوعاً ما، وقدراً أقل من الحماية للوظائف، وبيروقراطية أقل.
- وقد لاقت هذه السياسة نجاحًا وبات اقتصاد الولايات المتحدة هو الأكثر ثراء وقدرة على الابتكار.
- ومع ذلك، عندما تكون الدول أكثر ثراء، تظهر حجة بأنها قادرة على تحمل مخاطر أقل، وبالتأكيد؛ هناك فوائد من تعزيز الاستقرار.
- لكن صُناع السياسات الاقتصادية في الوقت الراهن، أصبحوا أكثر ميلًا نحو مسألة السلامة، متجاهلين أهمية ما نتنازل عنه.
- إن النمو يتزايد عندما تضيف المزيد من الأشخاص أو رأس مال أو الإنتاجية إلى الاقتصاد. وبالتالي، ينجم عن تقلص عدد سكان الولايات المتحدة وشيخوختهم، عمالة أقل وإنتاج أضعف، إلا أن ذلك يمكن تعويضه جزئياً، من خلال زيادة الإنتاجية.
- لكن وعوضاً عن ذلك، تعمل السياسات الأمريكية الأخيرة على تثبيط الإنتاجية، في محاولة غير موفقة للحد من المخاطر.
- رغم أن عملية إيجاد أي ابتكار حديث وإدخاله في السوق، يظل دائماً مسألة محفوفة بالمخاطر. فالتكنولوجيا الجديدة تولّد قدراً كبيراً من حالة عدم اليقين.
- ما يعني ضخ بعض رأس المال في الأماكن الخطأ، على غرار قطاع العملات المشفرة أو مجال رعاية الحيوانات الأليفة، بدلاً من شركات على غرار "جوجل" أو "أمازون. كوم". وفي خضم هذه العملية، يخسر الأفراد وظائفهم وأموالهم.
- من هنا، يأتي دور الحكومة للتدخل وتخفيف وطأة هذه العملية على الفئات الأكثر هشاشة. غير أن صُناع السياسات الاقتصادية، باتوا أقل تحملاً حتى للمخاطر المحتملة.
- وهكذا لم تعد السياسة النقدية ترمي إلى تهدئة دورة الأعمال فحسب، بل إنها تحاول تجنّب الوقوع في الركود نهائياً، حيث تُبقي على الانخفاض الشديد لأسعار الفائدة لفترة طويلة للغاية.
- وفي نهاية المطاف، سيثبط التدخل المفرط في الأسواق النمو والمخاطرة التي تسفر عن إنتاجية، لأن أسعار الأصول (باعتبارها مقياس مخاطر) ستفقد معناها.
- وغالباً ما سيُوجّه رأس المال نحو المجالات الخطأ، ويدعم شركات "الزومبي" (أي تلك الشركات الخاسرة التي تحتاج إلى حزم إنقاذ لاستمرارها في العمل دون القدرة على السداد).
- على الصعيد الحكومي، خرجت اللوائح التنظيمية الإضافية -بصرف النظر عن كونها حسنة النية- عن السيطرة.
- ذلك لأننا نفرط في فرض إجراءات الحيطة والحذر تجاه كل شيء، بدءاً من مواقع البناء، ووصولاً إلى الأسواق المالية.
- عندما تكون هناك مبالغة في الجهود التنظيمية، يصبح رأس المال أقل كفاءة، ويعيق التنمية، ويزيد تكلفة ممارسة الأنشطة التجارية.
- ويمكن توقع تطبيق سياسات اقتصادية، مناهضة أكثر للنمو في المستقبل القريب. فضرائب الأرباح الرأسمالية العالية التي يفضلها الرئيس بايدن -حتى على المكاسب غير المحققة– تقمع النمو؛ ذلك لأنها تقلل ثمار تحمل المخاطر.
- كما أن عمليات إعادة توطين سلاسل التوريد وفرض تعريفات جمركية أعلى، والإعانات التي يفضلها كلا الحزبين، لا تحرم الدول الفقيرة من النمو فحسب، بل تصبح معها الدول الأكثر ثراء أقل كفاءة، بل ومجبرة على دفع المزيد من الأموال مقابل البضائع والخدمات.
- أصبحت لدينا الآن سياسة صناعية تحاول تحقيق نمو بلا مخاطر، واختيار أفضل استخدام لرأس المال عوضاً عن ترك الأمر يعمل وفقًا لآليات للسوق.
- لكن في أحيان كثيرة، تتبنى الحكومة خيارات أسوأ، لأنها تفتقر إلى الالتزام الذي يصاحب تحمّل تكاليف خسارة الأموال.
- يمكن أن يكون الاستثمار الحكومي مفيداً للمشروعات طويلة الأمد وكثيفة رأس المال، مثل بناء الطرق السريعة أو مدّ القنوات المائية.
- لكن حتى البرامج ذات النوايا الحسنة يمكن أن تكون محملة بالأولويات السياسية ذات الأهداف التنافسية، واللوائح التي تجعلها مكلفة دون مبرر. الأمر الذي يؤدي إلى توجيه رأس المال والمواهب، المحدودين أصلاً، نحو أماكن أقل إنتاجية، وأقل ابتكاراً.
- إن النمو المنخفض لا يحرم الأجيال القادمة من الازدهار فحسب، بل سنضطر إلى الدفع أكثر مقابل الأشياء التي نستهلكها بالفعل.
- وسيقلص النمو الضعيف الإيرادات الضريبية، مع تخصيص حصة أكبر لسداد الديون عوضاً عن توفير مزايا وخدمات.
- وبالتالي، فإننا نجازف بالدخول في حلقة مفرغة من الضرائب العالية وقلة الاستثمارات، والمزيد من الضعف في النمو.
- بدلاً من السعي إلى تحقيق المستحيل -أي النمو بلا مخاطر– ينبغي على الحكومة الأمريكية والاحتياطي الفيدرالي، القبول بحقيقة لا مراء فيها وهي أن المخاطر هي ثمن النمو. فالاقتصاد المحفوف بالمخاطر هو ما جعل أمريكا قوة اقتصادية عظمى.
المصدر: الواشنطن بوست
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}