عندما قام بطل الشطرنج الروسي الشهير "كاسباروف" بمنافسة جهاز كمبيوتر تم تصميمه خصيصًا لمواجهته خسر الروسي في أول مرة، ثم ربح في ثاني مباراة قبل أن يتعادلا في اللقاء الثالث، ويعترف "كاسباروف" أن خطأه في مواجهة الكمبيوتر في اللقاء الأول كان القيام بنقلات "نفسية" تستخدم في تشتيت الخصوم من البشر، لكنها لم تفلح مع الكمبيوتر.
وكانت ملحوظة "كاسباروف" بمثابة إشارة واضحة إلى الفرق بين تصرفات الآلة والإنسان، وهو الأمر الذي يجعل كثيرين يميلون إلى الاعتقاد بـ"كفاءة" الآلة في بعض المناحي التي تتطلب "ثباتًا عاطفيًا"، ومن بينها الاستثمار الذي تختلط فيه القرارات الرشيدة المبنية على الحسابات مع تلك المتأثرة بالانفعالات الإنسانية.
النظرية موضع تجربة
وغالبا ما سيبدأ بعض المتعاملين في سوق الأسهم باختبار هذه الفرضية بأنفسهم، حيث أشارت إحصائية في سوق الأسهم البريطانية مثلا إلى لجوء قرابة 8% من المتعاملين إلى أدوات الذكاء الاصطناعي وأبرزها "تشات جي بي تي" من أجل الحصول على "استشارة" أو تحليل أو حتى توصية بشراء أسهم، وذلك مع إقرار 19% بأنهم يفكرون بذلك.
والشاهد أن استخدام الذكاء الاصطناعي في القرارات المالية والاستثمارية وسوق الأسهم ما زال يحظى بتشكك كبير، حتى أن 35% من المتعاملين في السوق البريطاني أقروا بأنهم لن يستخدموا الذكاء الاصطناعي أبدًا في هذا المجال، بينما أبقى أكثر من 40% موضوع الذكاء الاصطناعي "خارج اهتماماتهم" في القطاع المالي على الإطلاق.
وفي تجربة عملية، تفوقت سلة الأسهم التي اختارها "تشات.جي.بي.تي" على بعض صناديق الاستثمار الأكثر شعبية في المملكة المتحدة، وفي الفترة من 6 مارس إلى 28 أبريل 2023، ارتفعت المحفظة الوهمية التي اختارها الذكاء الاصطناعي والمكونة من 38 سهمًا بنسبة 4.9% بينما سجلت 10 صناديق استثمار رائدة متوسط خسارة بنسبة 0.8%.
وتشير جامعة "فلوريدا" إلى أن التداول الخوارزمي، أي المبني على الذكاء الاصطناعي، زاد بشكل ملحوظ خلال السنوات العشر الماضية، حيث يتم حوالي 70% من حجم التداول الشامل في سوق الأسهم الأمريكية من خلال التداول الخوارزمي، بينما قدّر تقرير حديث صادر عن مجلة فوربس أن إجمالي السوق العالمية للتداول الخوارزمي سوف يتوسع بنسبة 10.3% بحلول عام 2020.
اختبار عملي
وفي مقابل تلك التجربة، يشير "دوجلاس بونيبارس" المحلل المالي إلى أنه طلب من "تشات.جي.بي.تي" إمداده بخطة استثمارية تقسم محفظته بين 80% للاستثمار في الأسهم (الرهان على النمو)، و20% في الأسهم (الرهان على الأرباح)، وأمد التطبيق بمعلومات حول المخاطر وبعض المعلومات الأساسية وأي الصناديق التي يريد الاستثمار فيها.
وجاءت النتيجة في صورة تحليل من جانب الذكاء الاصطناعي وضع استثمارات قيمتها تفوق المبلغ الذي طلب منه "بونيبارس" استثماره، وعندما أخبر الأخير "تشات.جي.بي.تي" بالمشكلة، قام بمحاولة إصلاحها لكنه خلال محاولته تلك ارتكب أخطاءً أخرى، ومع ذلك بقي "بونيبارس" منبهرًا بـ"اقتراب" الذكاء الاصطناعي من القيام بالمطلوب منه.
وتتشابه تجربة "بونيبارس" هنا مع قرابة 100% من التجارب التي يكون مطلوبًا من الذكاء الاصطناعي القيام بتصور إبداعي، مثل رسم لوحة يتضح لاحقًا أنها تبدو بديعة للوهلة الأولى ولكن الأشخاص بها "مشوهون" بطريقة ما بأن يكون لديهم مثلاً 6 أصابع أو 4 في أيديهم، أو مطالبته باتخاذ قرار مالي فيحدث تخطي للحدود المسموح بها في المبالغ المالية المستثمرة.
عمل دؤوب لـ"السيطرة"
وذلك على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي أبدى تفوقًا ملحوظًا في تحويل "النوعي" إلى "كمي"، وأبرزها مثلا تحويل الأعراض التي يشكو منها شخص لتشخيص عجز أطباء كُثر عن التوصل إليه، ولكن كم المعلومات المتاح لدى أنظمة الذكاء الاصطناعي في القطاع الاستثماري لا سيما في البورصات لا تتيح لها تعلما ونموا سريعًا.
ولذلك تتوقع دراسة أن تكون أنظمة الذكاء الاصطناعي المفتوحة قادرة على "التفوق الكامل" على البشر في سوق الأسهم بين عامي 2027 - 2028 مع استمرار التعلم لمدة أربعة أعوام أو خمسة ومع تراكم المعلومات لديها بما يجعلها أقدر على التحليل والاستنباط من التجارب السابقة لسوق الأسهم ومن أخطائها نفسها في التحليلات السابقة.
والشاهد أنه ونتيجة لطبيعة الذكاء الاصطناعي المفتوح (أي الذي يحصل على بياناته من شبكة الإنترنت كلها دون إدخال معلومات حصرية له) فإنه يعتمد على التحليل الفني في أدائه بنسبة تفوق 80% من التقييم والدراسة وذلك بسبب التركيز على تحركات الأسهم اليومية والأسبوعية في التقارير الصحافية على حساب تقييم السهم العام.
ويمكن وضع المحددات التي يعمل وفقا لها الذكاء الاصطناعي بإخباره بطبيعة التقارير التي يضعها في حسبانه وتلك التي يتجاهلها، ولكن ذلك يتطلب عملاً دؤوباً وواسعاً قد يصل إلى أن قيام الشخص بعملية تحليل السوق والأسهم سيكون أسهل في هذه الحالة، بدلًا من أن يعمل بمثابة "آلة تعليم" للذكاء الاصطناعي.
وهنا يجب التمييز بين شكلين من أشكال الذكاء اصطناعي، الأول مفتوح المصادر (تشات.جي.بي.تي) وآخر مغلق (مثل علاء الدين المملوك لـ"بلاك روك")، والنوع الأول تصيبه "أمراض" تضارب المعلومات وتعدد طرق البحث والتحليل وسوء بعضها والنوع الثاني لا.
الذكاء الاصطناعي "المغلق"
ويتفاوت استخدام عمالقة إدارة الأصول مثل "بلاك روك" والتي تسيطر تقريباً على 40% من سوق إدارة الأصول بفعل ذراعها للذكاء الاصطناعي علاء الدين، وبين "ستيت ستريت" والتي لا تثق في الذكاء الاصطناعي وتعتمد على البشر في عملها، ولكن من يستخدمها يعتمد على "آلة تعليمية" ضخمة للذكاء الاصطناعي تعتمد بالأساس على الإحصائيين والاقتصاديين.
وفي حالة الكيانات المالية الضخمة التي تدار من جانب متخصصين فإن إدماج نظام ذكاء اصطناعي متخصص يرفع من نسب تجنب الخسارة في سوق الأسهم بنسبة تفوق 40%، لا سيما في حال مطالبته بالعمل ضمن نطاق الأسهم قليلة المخاطر ووضع قيود صحيحة للاختيار له (مثل حالة علاء الدين وغيره).
وتشير دراسة إلى أن تلك الصناديق لم تتجنب الخسائر فقط باستخدام الذكاء الاصطناعي بل في تعظيم الربحية ايضا بنسبة 14% وذلك من خلال قدرتها على تحليل البيانات البديلة التي تعتبر بمثابة مؤشر هام لاختيار الأسهم في السنوات الأخيرة مع تعقد مؤشرات الاستثمار.
وبشكل عام يمكن القول إن المميزات المنتظرة من الذكاء الاصطناعي في عالم الأسهم:
- تحسين تحليل البيانات بفعل القدرة على جمع البيانات ووضعها في مكانها الصحيح شريطة وضع محددات صحيحة له.
- التداول الخوارزمي والذي يعتمد على تحليل فني لتاريخ الأسهم والسهم المراد تتبع حركته ويتفوق في السرعة والقرار على البشر بدرجة كبيرة.
- كشف الاحتيال وإدارة المخاطر وذلك بسبب القدرة على تحليل التحركات "الغريبة" وفرزها عن تحركات السوق التقليدية للقدرة الكبير على التحليل الإحصائي.
سلبيات ظاهرة
والشاهد أن هناك مخاوف منطقية متعلقة باستخدام الذكاء الاصطناعي، لا سيما المفتوح، حيث إنه يعزز فكرة حركة السوق كقطيع، فمع عدم توفير المحددات الصحيحة للذكاء الاصطناعي –أو حتى مع توفيرها أحيانًا- سيقدم نفس الاستشارة لمئات أو آلاف المتعاملين في نفس المسألة.
وبالتالي إذا شهد سهم الشركة ما ارتفاعًا وأثار اهتمام المهتمين بالأسهم وسألوا الذكاء الاصطناعي عنه فمن شأنه مثلا أن يوصي بشراء السهم أو الاحتفاظ به لمالكيه، بما سيفضي بالأخير لارتفاعات قياسية، وإذا بدأ في الانخفاض قد يقود في المقابل لعمليات بيع هلع واسعة تهوي به، وبهذا قد يبدو الأمر كما لو تعامل الجميع مع "سمسار" واحد في سوق الأسهم بما يفضي لتذبذب عنيف أو على الأقل المساهمة فيه.
كما أن اقتراحات أنظمة الذكاء الاصطناعي جاءت متأثرة بـ"معنويات السوق" و"معتقداته" (خاطئة أو صحيحة) بنسبة تفوق 90% حتى الآن، وذلك مع الإقرار أن تلك الدراسات لا تزال في مراحلها الأولى بسبب عدم نضوج الغالبية الكاسحة من أنظمة الذكاء الاصطناعي.
كما أن أخطر ما يتعلق بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي في التداول أنه يقوم –مثل التحليل الفني- على استقراء الحاضر والمستقبل اعتمادًا على الماضي، ويضع على التحركات الماضية وزنًا نسبيًا عاليًا أكثر مما يضعه على قراءة البيانات أو التحليل الأساسي، وهو ما يضع الاستثمارات ككل موضع مخاطرة للتقلبات السريعة للتداول المعتمد على التحليل الفني.
والشاهد أنه في السوق الأمريكية والأوروبية بدأت تظهر عناوين في الميديا -على سبيل "الذكاء الاصطناعي يتنبأ بـ7 أسهم ستجعلك غنيًا بشكل سريع"- وغالبًا ما ستتبعها بقية الأسواق، ويتم الترويج للأمر بأن استيعاب الذكاء الاصطناعي لكم قياسي من البيانات يهيئ لاتخاذ قرار أفضل من القرار البشري بعيدًا عن "الانفعالات".
ولكن المؤكد أنه لا يجب "تسليم" الذكاء الاصطناعي مفاتيح القرار الاستثماري بل استخدامه كأداة ضمن بضع أدوات تعين المتداول على تحقيق الربح في السوق، وذلك لخطورة العيوب التي ما زالت أنظمة التحليل المرتبطة بالذكاء الاصطناعي تعانيها حتى الآن.
المصادر: أرقام- جامعة فلوريدا- فوربس- نيويورك تايمز- سي.إن.بي.سي- ياهو فاينانس
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}