كثيرًا ما راجت مقولة "الكاش هو الملك" والتي يستخدمها الكثير من المستثمرين والمتداولين للإشارة إلى أهمية توافر قدر كاف من السيولة النقدية في ظل ما تقدمه الأخيرة من مرونة كبيرة تتيح استغلال الفرص الاستثمارية التي تظهر، دون الحاجة إلى تسييل بعض الأصول بخسارة أو الانتظار لفترة من الوقت بما قد يتسبب في ضياع الفرص الاستثمارية المتاحة.
وأصل المقولة يعود إلى"جاك ويلش" وهو مستثمر أمريكي اشتهر بالأساس بإدارته الناجحة لشركة "جنرال إلكتريك" بين عامي 1981-2001 حيث قال: "التداول فقط للتباهي، بينما الربح هو المبتغى، ويبقى الكاش هو الملك"، وذلك في مسعاه لتبيان طريقته التي حقق بها نموًا سريعا للشركة حتى في أوقات تباطؤ الاقتصاد.
أمازون وصفقة "هوول فوود"
وبشكل عام فإن الاحتفاظ بالسيولة مهم للغاية، سواء كان ذلك للشركات أو للمستثمرين الأفراد، ويمكن ملاحظة أن غالبية الشركات الناجحة والمستثمرين المتفوقين دائما ما يحتفظون بكميات متغيرة من السيولة النقدية وفقًا لحالة الاقتصاد، ولكنهم في النهاية دائما يحتفظون بمستويات معينة للكاش لا يتنازلون عنها.
ومن أبرز الأمثلة التي يستدل بها على أهمية توافر السيولة النقدية أو "الكاش" الصفقة التي استحوذت بموجبها شركة "أمازون" على شركة "هول فودز" عام 2017 مقابل 13.7 مليار دولار، والتي حازت على الثناء بشكل عام ولكنها لاقت الانتقادات من بعض المستثمرين.
أما سبب الثناء على الصفقة فلأنها وفرت ذراعًا لـ"أمازون" لمنافسة منافسيها المحليين في تجارة الأغذية والتجزئة وعلى رأسهم "وول مارت"، كما ثبت لاحقًا أنها صفقة ممتازة تجاريًا سمحت لعملاق التجارة الإلكترونية بتنسيق أعماله وترويجها من خلال نافذة جديدة.
ولكن الانتقادات ثارت بسبب أن "هول فودز" لم تزد حصتها في السوق الأمريكي للبقالة عما كانت عليه (1%)، بينما لا تزال "وول مارت" و"كروجر" تسيطران على 19% و9% من السوق على التوالي، ولكن يغفل هؤلاء أن الهدف لم يكن التوسع المباشر، ولكن الوجود مع إمكانية التوسع اللاحق حال الحاجة لذلك، فضلًا عن التنسيق مع "أمازون"، كما أن مبيعات الشركة وأرباحها تحسنت بشكل لافت.
ولكن أهم انتقاد طال الصفقة أنها تكلفت قرابة 14 مليار دولار، في الوقت الذي لم يزد فيه الاحتياطي النقدي أو الكاش المتاح لأمازون وقتها على 21 مليار دولار، بما يؤشر لعدم استطاعة الشركة استغلال أي فرص جديدة في السوق حال ظهورها بما يقوض فرصها في التوسع المحتمل.
وعلى ذلك عملت "أمازون" على زيادة الاحتياطي النقدي من لحظتها حتى بلغ 96 مليار دولار نهاية 2021، بينما أصبح المستوى الذي تسعى أمازون في الحفاظ على مستوى الكاش به في حدود 60 مليار دولار منذ 2020، ولم تقل عن هذا المستوى إلا في ربع واحد، وتراجعت حينها عن هذا المستوى بملياري دولار فحسب.
"أبل" والكاش متعدد الاستخدامات
وتُعرف "أبل" في الأوقات الأخيرة بوصفها الشركة ذات القيمة السوقية الأعلى في العالم، لكن ما يغفله كثيرون هو أن أحد أسباب استقرار هذه الشركة ونمو قيمتها السوقية هو حرصها الدائم على حيازة الكاش بشكل واضح، حتى أنه في نهاية الربع الثالث من عام 2022، كان لدى الشركة 179 مليار دولار نقدًا.
ولتبيان أهمية هذا الرقم يكفي الإشارة إلى أن القيمة السوقية لـ"إنتل" في الأول من ديسمبر 2023 بلغت 184 مليار دولار تقريبًا أي أنه -نظريًا بالطبع- بوسع "أبل" شراء شركة بحجم "إنتل" (مع اقتراض 5 مليارات دولار فحسب) إذا كانت الأخيرة معروضة في السوق لصفقة استحواذ لسبب أو لآخر.
ويشار هنا أيضًا إلى أن للسيولة النقدية لدى "أبل" أهمية حيوية في ظل ضرورة توافرها لاعتماد الشركة الكبير على البحث والتطوير، وعلى التوسع في المتاجر، بما يجعل لتوافر سبل ضخ الاستثمارات بشكل سريع أمراً حيويا بالنسبة لتوسع صانعة الآيفون، بل ولبقائها، وهو ما ساعدها على تجاوز فترة كورونا دون خسائر كبيرة.
والشاهد أن بعض الشركات تتخذ منحنى مختلفا، مثل شركة "بلاروك" عملاق التحوط وإدارة الأصول، حيث تشير الشركة إلى أنها لا تبقي سيولة نقدية عالية بل تستثمر قرابة 99.5% منها في سندات الخزانة الأمريكية وبعض أشكال الديون "المضمونة" التي تدر عائداً وسهلة التسييل في نفس الوقت، بيما يجعلها تجمع بين العائد ومستويات السيولة العالية.
وبشكل عام تميل الشركات الاستثمارية إلى الاحتفاظ بنسبة لا تتخطى 2% من الأموال المستثمرة لديها في صورة سيولة نقدية بحتة، ولا تتجاوز بعضها 0.5%، وتميل إلى أصول يسهل بيعها مثل السندات وحتى بعض المعادن الثمينة مثل الذهب، بل ويلجأ بعضها لبعض الصور غير التقليدية مثل الأعمال الفنية وسلع الرفاهية ومخزونات بعض السلع.
ويرجع هذا إلى طبيعة هذه الشركات التي تكون مطالبة في الأساس بضمان استمرار العائدات بأي طريقة ولو على مستوى منخفض من الربحية، في ظل التزامها بإدارة استثمارات الغير، والذين يميل غالبيتهم إلى تجنب المخاطرة برؤوس أمواله، بما يجعل بقاء بعض الأموال خارج أي شكل من أشكال الاستثمار -أو الحفاظ على القيمة على الأقل- غير مقبول.
لا إجابة سهلة وواحدة
أما فيما يتعلق بالمستثمرين الأفراد فيوجد جدل حول مقدار النقد الذي يجب الاحتفاظ به كأموال سائلة، وبشكل عام يفضل معظم المستثمرين الاحتفاظ بما لا يقل عن 5% من قيمة محفظتهم النقدية للاستفادة من فرص الشراء، بينما يرى آخرون أنه يجب الاحتفاظ ما بين 10% و20% نقدًا كتحوط ولفرص الشراء.
وبغض النظر عن النسبة "الصحيحة" لأنها تختلف باختلاف الأهداف وليس لها نسبة محددة قاطعة، إلا أن القاعدة المؤكدة أنه مع الرواج يجب أن تكون الأموال مستخدمة في السوق بشكل أوسع، ومع الركود والتراجع يجب أن تزيد نسبة الكاش.
ولذلك ثار القلق في السوق الأمريكي مع تسجيل شركة "بيركشاير هاثاواي" رقمًا قياسيًا في السيولة النقدية يتخطى 157 مليار دولار في بداية نوفمبر 2023، حيث اعتبر كثيرون أن ذلك مؤشر على احتمال تراجع السوق في المستقبل المنظور وانتظار الشركة لفرص قريبة للدخول إلى السوق.
ويُمكن أن يختلف البعض مع قرار شركة الاستثمار الأمريكية ببيع بعض الأسهم والأصول والاحتفاظ بنسبة سيولة نقدية عالية، في ظل أن مؤشر "ستاندرد أند بورز 500" ارتفع بنسبة 5.42% بعد شهر على قرار الشركة بزيادة منسوب السيولة بما يوحي بأنه كان من الممكن استثمار بعض الأموال التي سحبتها من بعض الشركات في شركات أخرى، ولكن قد يكون ذلك لنظر الشركة للاستثمار طويل المدى على حساب ذلك القصير.
ومن جانب آخر فإن كبار المستثمرين ينزعون إلى شراء أسهم الشركات التي تتمتع بمستويات سيولة جيدة، حيث إن أكبر شركات للتداول في الولايات المتحدة تهتم بالسيولة كعنصر مهم في تقييم الشركة لما له من دلالة لقدرتها على التوسع لاحقًا ويبرز ذلك واضحًا في تقارير تقييم الشركات التي تصدرها.
وفي ظل التضخم فإن الاحتفاظ بقدر كبير من السيولة بدون حاجة يعني عمليًا تراجع القيمة الحقيقية للنقود المتاحة، ولذلك يجب أن يكون هناك توازن كبير ومحسوب بدقة شديدة بين السيولة والاستثمار، مع ملاحظة أن السيولة قد لا تعني بالضرورة الأموال السائلة فقط كما أسلفنا ولكن الذهب وبعض السلع سهلة البيع (والتي قد لا تربح لكنها تتجنب آثار التضخم).
وفي هذا يقول "وارين بافيت" إن "الكاش ملك بالفعل، ولكنه لن يكون كذلك إذا لم يتم استخدامه، فهو لاعب لا يحقق نتيجة من على كرسي الاحتياط، لكن عليه أن يبقى لفترة جانبًا حتى يمكن استخدامه في الوقت المناسب"، ولا شك أن هذا هو المنطق والتوازن الذي يجب التعامل به مع السيولة النقدية، فهي غير مُنتجة إذا تركت دون استخدام، ولكن غيابها أيضا ضار للغاية.
المصادر: أرقام- فورتشن- سي.إن.بي.سي- فوربس
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}