عشرات الملايين حول العالم يستثمرون أموالهم في أسواق الأوراق المالية منذ عقود، ورغم ذلك لم يتمكن الاقتصاديون حتى الآن من الاتفاق على ما إذا كان المستثمرون يتصرفون بعقلانية والأسواق تعمل بكفاءة كما تفترض النظرية المالية الحديثة، أما أن الحال هي العكس كما يعتقد الاقتصاديون السلوكيون؟
هذا هو واحد من أكبر النقاشات في علم الاقتصاد، وأشياء مثل جدوى إدارة الاستثمار والتنظيم المالي تعتمد على نتيجة هذا النقاش غير المحسوم منذ عقود.
فرضية "فاما"
- فرضية "كفاءة السوق" التي طورها الاقتصادي الأمريكي "يوجين فاما" تنص على أن أسعار الأسهم في سوق الأوراق المالية الكفء تعكس جميع المعلومات المتاحة، وهي محصلة آراء جميع المستثمرين، مما يجعل من المستحيل على أي مستثمر التغلب على السوق بشكل مستمر.
- لكن فرضية "فاما" واجهت الكثير من التحديات على مر السنين، أبرزها انهيار سوق الأسهم عام 1987، حين انخفض مؤشر "داو جونز الصناعي" 22% في يوم واحد، وانفجار فقاعة "دوت كوم" في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهذا كله قبل وقوع الأزمة المالية العالمية الأخيرة.
- في تحد طموح لفرضية "كفاءة السوق" يقدم أستاذ المالية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا "أندرو لو" نظرية جديدة حول كيفية عمل الأسواق المالية، وأسباب إخفاقها في بعض الأحيان وذلك في كتابه "الأسواق التكيفية" الصادر في أبريل/نيسان عام 2017، والذي يحاول خلاله إثبات كيف يمكن للعناصر العقلانية وغير العقلانية أن توجد معًا في السوق في نفس الوقت.
- يعتقد كثير من الاقتصاديين أن "لو" الذي اختارته مجلة "تايم" باعتباره واحدًا من الأشخاص المائة الأكثر نفوذًا في العالم في عام 2012، نجح في هذا الكتاب في إطلاق رصاصة الرحمة على فرضية "كفاءة السوق" التي كان لها تأثير هائل على كيفية إدارة الاستثمار في العقود الأخيرة.
أسواق الأسهم والبيولوجيا
- عندما كان "آندرو لو" أكاديميًا شابًا، قام في أحد المؤتمرات العلمية بتقديم ورقة بحثية أظهر خلالها أن أحد الافتراضات الأساسية التي تقوم عليها نظرية "كفاءة السوق" لا تدعمها البيانات. وحينها قيل له إنه بالتأكيد وقع في خطأ بالبرمجة، وإن نتائجه لا يمكن أن تكون صحيحة.
- استنادًا إلى أبحاث أجراها في علم النفس وعلم الأحياء التطوري وعلم الأعصاب والذكاء الاصطناعي وغيرها من المجالات، طوال حياته المهنية، يوضح "لو" في هذا الكتاب أن فرضية "كفاءة السوق" ليست خاطئة ولكنها ناقصة.
- أظهرت أبحاث "لو" ما يحدث داخل أدمغتنا عندما نتخذ قراراتنا. فكسب المال له على دماغ المستثمر نفس التأثير الذي يشعر به مدمن الكوكايين حين يحصل على الجرعة، في حين أن خسارته تجعل متفادي المخاطرة يشعر بنفس الإحساس الذي قد يشعر به حين يستنشق رائحة كريهة أو يشاهد جسمًا مشوهًا.
- علاوة على ذلك، يبدو أن العاطفة تلعب دورًا مهمًا في كيفية قياس المخاطر، فإذا كنا لا نخشى عواقب الفشل، فقد نتصرف بشكل غير مسؤول، تمامًا الأطفال الصغار الذين هم في حاجة لأن يكونوا حذرين من السيارات قبل محاولة عبور الطريق.
- تُظهر الدراسات التي تم إجراؤها على الأشخاص الذين يعانون من تلف في الدماغ، أنه عندما يتم إزالة القدرة على الاستجابة للعواطف، يصبح السلوك البشري أقل عقلانية، وتظهر مشاكل في تحديد الأولويات والقدرة على اتخاذ القرارات.
- باختصار، دراسة الدماغ تبين أن القدرة على التفكير العقلاني تعتمد على وجود المشاعر.
- يوضح "لو" أيضًا، لماذا يمكن للاقتصاد أن يشهد فترات طويلة من الاستقرار تليها أزمة مفاجئة، وذلك من خلال إشارته إلى أن التوسعات والانكماشات الاقتصادية ما هي إلا نتاج قدرة المؤسسات والأفراد على التكيف مع البيئات المالية المتغيرة، وأن الفقاعات والأزمات تحدث حين يحدث هذا التغيير بسرعة تفوق قدرتنا على الاستجابة.
- حتى وقت قريب، كانت الأغلبية تعتقد أن أسعار السوق تعكس حكمة الحشود، ولكن عقب وقوع الأزمة المالية الأخيرة أصبح الكثيرون يميلون لوصف السلوك الجماعي للأسواق المالية بأنه يشبه "جنون الغوغاء"، فتصرفات البشر تتأرجح دائمًا بين الحكمة والجنون، وهذا ليس مرضا، وإنما هو انعكاس للطبيعة البشرية.
تفسير منقوص
- لقد رأينا جميعًا على مدار السنين صورًا لحشود من العامة تتجمهر أمام بنوك متعثرة، من أجل سحب مدخراتهم قبل انهيارها. هذه الحشود تجمعت أحيانًا في الأرجنتين وأحيانًا في اليونان، وقديمًا في ألمانيا والولايات المتحدة.
- هذا السلوك يسميه الاقتصاديون بـ"الذعر المصرفي"، ولكن هذا المشهد إذا رآه عالم أحياء لا خبرة له بالسلوكيات الإنسانية سيكون من الصعب عليه التمييز بين تلك الحشود البشرية وبين قطيع من الأوز أو الغزلان.
- يؤكد علم الأعصاب والبيولوجيا التطورية أن التوقعات العقلانية وفرضية كفاءة الأسواق لا تأخذان سوى جزء من مجموعة كاملة من السلوك البشري. هذا الجزء لا يمكن اعتباره صغيرًا أو غير مهم، فهو يوفر تقديرًا أوليًا ممتازًا لكثير من الأسواق والظروف المالية، ولكنه لا يزال غير مكتمل.
- أخيرًا، "لو" ليس هو الوحيد الذي كتب في هذا الاتجاه، ولكنه قدم الكثير من التفاصيل مقارنة مع معاصريه، كما أن لديه موهبة لافتة في سرد الموضوع بطريقة سلسة توضح وجهة نظره حتى لغير المختصين. ولكن ربما الملاحظة الأهم، هو أنه يتجنب في كل صفحات الكتاب التنازل عن فكرته أو الانتصار لها، وكان صادقًا بما يكفي ليعترف بأنه قد تكون هناك تفسيرات بديلة لتلك التي طرحها.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}