"لقد أخفقت بشدة وقتها، لا شك أن هذا أكثر قرار خاطئ اتخذته في حياتي"، كان هذا هو تعليق المدير التنفيذي لشركة "بلوك باستر" الأمريكية لتسويق شرائط الفيديو "جون أنتيوكو"، حول اتخاذه قرارًا في عام 2000 بعدم شراء "نتفليكس" مقابل 50 مليون دولار.
فـ"أنتيوكو" اعتبر حينها أن الأمر مزحة، وأن الشركة التي عُرضت عليه بسعر يقترب من 81 مليون دولار بحساب التضخم ليومنا هذا، لا تستحق الشراء، لأنه اعتقد أنها بلا قيمة تستحق مثل هذا الرقم الكبير.
ووصلت القيمة السوقية لـ"نتفليكس" في بداية العام الجديد 2024 أكثر من 205 مليارات دولار، أي أنها نمت بحوالي 410000% عن السعر الذي كان سيشتريها به خلال عشرين عامًا فحسب، إن لم يرتكب خطأ يقترفه كثيرون في الاستثمار وهو الانحياز لما هو معتاد، أو للعادات القديمة وما يعرف بانحياز السواء.
ارتفاع السوق الأمريكية بسبب الانحياز
ويمكن تعريف انحياز السواء أو الانحياز للمعتاد أو المألوف (normalcy bias) ) على أنه الاعتقاد بأن الأزمات لن تحدث، وأن الوضع الحالي الجيد مستمر، أو أن الوضع الحالي السيئ في سبيله للانعكاس سريعًا وستكون الأمور جيدة، وعادة ما يتضمن هذا الانحياز مبالغة البشر في قدرتهم على التعامل مع التحديات التي تواجههم وحلها.
فغالبية الناس التي لم تعان شخصيا من كارثة طبيعية في مكان معيشتها لا تتخيل إمكانية حدوثها مثلًا، وإن رأتها في منطقة أخرى فإنها كثيرًا ما "تنفض الفكرة عن رأسها" بأن هذا لم يحدث لي من قبل ولم أره في إطار ما أعرف فلن يحدث لي لاحقًا أيضًا، الناس "أبناء عاداتهم" أو ما ألفوا.
ويرجح كثير من خبراء الاستثمار أن مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" صعد بنسبة تخطت 24.7% في عام 2023 بسبب هذا الانحياز، فعلى الرغم من أن كافة المؤشرات، لا سيما المتعلقة برفع سعر الفائدة الأمريكية، وارتفاع معدلات التشغيل والرواتب تبعا لذلك كانت تشير إلى احتمال الدخول في موجة ركود إلا أن السوق تجاهلت هذه المؤشرات واستمرت في الصعود.
وكان اللافت أيضًا أن السوق الأمريكية توقفت عن الاهتزاز والتذبذب الشديد مع الرفع المستمر لسعر الفائدة الأمريكي، بمنطق انحياز السواء أيضًا، فرفع الفائدة أول مرة أصاب السوق بربكة، ولكن الاستمرار في رفعها -وهو أخطر لأن الفائدة ترتفع وبالتالي آثارها على الأعمال تتعمق- لم يؤثر بنفس القدر، (وإن بقيت الأسواق في الدول النامية متأثرة بفعل سحب الاستثمارات لصالح ضخها في السوق الأمريكي).
الشراء اعتمادًا على ما مضى
على سبيل المثال أيضا، كان قطاع الخدمات المالية من بين أفضل أداء في مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" في عام 2019، حيث حقق عائدًا سنويًا بلغ 32%، ولذلك اندفع المستثمرون بعد متابعتهم لهذا الأداء وقاموا بشراء مجموعة من أسهم الخدمات المالية، ولذلك شهد التداول عليها نموًا ملحوظًا في العام التالي.
لكن المتداولين أصيبوا بخيبة أمل عندما انخفض عائد القطاع بنسبة 2% في عام 2020، وهو العام الذي حقق فيه مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" ككل عائدًا إيجابيًا بنسبة 18%.
ويرجع ذلك ببساطة إلى أن القطاع المالي كان من أهم القطاعات التي عانت من فيروس كورونا، في ظل ضبابية المشهد الاقتصادي وتفاقم مخاطر عدم السداد وتراجع الإقبال على الديون الشخصية مع شيكات الحكومة الأمريكية لمواطنيها إبان تلك المرحلة وهو ما فشل بعض المتداولين في إدراكه.
ويقول "عمر أجيلر" المدير التنفيذي لصندوق شواب لإدارة الأصول إنه لا يمكن أن نتخيل إقدام شخص سبق له رؤية أسماك القرش بنفسه على النزول للسباحة في البحر، على الرغم من أن احتمال تعرضه لخطر داهم من القرش مثل من لم ير القرش قط في حياته، أي أن التجربة الشخصية خاصة المتكررة يكون لها أثرها القوي على الإنسان.
وعلى ذلك فإن أغلب من يشترون سهمًا ويخسرون فيه، مرة واحدة عند البعض ومرتين عند أخرى، لا يقدمون على شراء هذا السهم مجددًا، حتى وإن ظهرت دلائل على أن الشراء فيه أصبح رابحًا.
"الحظ العثر" لن يصيبني
ومن أشد ما يؤذي المتداولين الذين يتأثرون بهذا التحيز هو المبالغة في قدرتهم على إصلاح الأمور، أو أن الحظ العثر لن يصيبهم.
ويشير تقرير لسلطة التشريع الصناعة المالية الأمريكية إلى أن 64% من المتداولين في السوق يعانون من التحيز لقدراتهم الاستثنائية على الإفلات من الخسائر وتجنب الكوارث المالية وتزداد النسبة بين المتداولين الأصغر سنًا بين 18-36 سنة وتقل نسبيًا مع كبر سن المتداول.
وتعكس المعلومة الأخيرة حول السن أن تحيز السواء يختلف من شخص لآخر، فالمتداول الذي عايش أكثر من أزمة مالية في السوق بنفسه، وعانى خسائرها يختلف عن هذا الذي سمع بها، ولكن تبقى الأزمة أن هذا التحيز يبقى مُحرضًا على تكوين الفقاعات في السوق لأنه يدعم الثيران في مواجهة الدببة، أي أن الاعتقاد بغياب الأزمات واستمرار الوضع "الطبيعي" يسهم واقعيًا في إيجاد الأزمات.
والنتيجة الأسوأ على المتداول من انحياز السواء أنه عادة ما يبيع متأخراً، بعد أن يتأكد تمامًا من أن السهم المتراجع الذي يحوزه لن يرتد إلى ما كان عليه بعد أن يتكبد الخسائر الكبيرة، وكذلك يشتري في مستويات مرتفعة لاعتقاده أن هذا هو الأمر الطبيعي لهذا السهم.
إعادة الحسابات وليس التشكك
وهنا تشير دراسة لمجموعة "دالبار" الأمريكية المتخصصة في الاستشارات المالية والاقتصادية إلى أن "المستثمر العادي" عادة ما يخسر أكثر في السوق الخاسر، ويربح أقل في السوق الصاعد، والمثال على ذلك أن مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" انخفض 4.38% في عام 2018، بينما خسر المستثمرون "العاديون" 9.42% من أموالهم في البورصة خلال العام نفسه أي أكثر من ضعف خسائر المؤشر الرئيسي.
وفي المقابل فإنه عندما يصعد السوق لا يحصل المتداولون المبتدئون إلا على 40% فقط من الأرباح التي يحصل عليها السوق، فعندما يرتفع السوق 5% في عام تزيد رؤوس أموال "المستثمر العادي" 2% فقط في العام نفسه.
وبناء على ذلك يخسر كثيرون مع التقلبات التي لا يحسبون حسابها ويكسبون مع السوق الصاعد ويخسرون مع السوق الهابط، ويفقد المستثمر العادي الفرص في السوق الهابط مثلا لأنه في واقع الأمر لا يمتلك الخبرة اللازمة لشراء السهم الذي يجب التعويل على ارتفاعه بل يعتمد فقط على منطق "طبيعة الأشياء".
ولذلك يؤكد المستثمر الأمريكي الشهير "جون بوغل" أن على المستثمر الجيد مراجعة قناعاته باستمرار، ليس ليصبح متشككًا أو قلقًا، لكن لكي يصبح "مًحدثا" باستمرار، فما كان ينطبق قبل سنوات قد لا ينطبق حاليًا، وبالتالي فإن الجمود في سوق الأسهم يقود المتداول يقينًا للخسائر.
فوائد التخلص من الانحياز
ويؤدي تراكم الانطباعات والسلوكيات في سوق الأسهم مع التدريج إلى تكوين القواعد الشخصية للمتداول وحتى للمسؤولين في بعض الشركات، ومنها "فانجارد" عملاق إدارة الأصول، الذي اعتاد المضي على نهج مؤسسه في الابتعاد عن الأسهم التكنولوجية بوصفها عالية المخاطرة، ويكون تغيير هذه المعتقدات مفيدا أحيانًا.
فالشركة بدأت تغيير هذا النهج عام 2013 بالاستثمار في ثلاث شركات تحديدًا وشراء أسهمها بالتدريج: "مايكروسوفت" و"أبل" و"نيفيديا"، حيث تمتلك "فانجارد" بنهاية 2023 ما يقرب من 8% من أسهم "أبل" وما يزيد على هذه النسبة قليلًا من "مايكروسوفت"، وهما أكبر شركتين في العالم من حيث القيمة السوقية بنهاية 2023.
والشاهد أن هذا لم يكن سلوك فانغارد فحسب، ولكن عمالقة استثمار آخرين غيروا نهجهم أيضًا عبر السنوات، وبنهاية عام 2023، امتلكت "بلاك روك" قرابة 5% من أسهم "مايكروسوفت" وشركة الاستثمار "بيركشاير هاثاواي" تمتلك قرابة 7% من أسهم "أبل".
والسؤال هنا الآن: ما نتيجة تغيير العادة أو الاعتقاد بأن الوضع الحالي سيدوم أو التخلص من تراكمات "انحياز السواء"، كانت تحقيق "فانجارد" لعوائد سنوية لمؤشرها للأسهم التكنولوجية تخطت 30% في أكثر من عام، وتحقيق "بلاك روك" لنسب مقاربة من استثماراتها في "مايكروسوفت"، وصعود قيمة أسهم "بيركشاير هاثاوي" في "أبل" بنسبة فاقت 600% بين 2016 ونهاية 2023.
ولا شك أن مقارنة بسيطة بين سلوك المدير التنفيذي لـ"بلوك باستر" والذي قاد شركته لتعثرات متتالية مع فقدانها لفرصة شراء "نتفليكس" عام 2000 في مقابل سلوك عمالقة الاستثمار ونهجهم مع الشركات التكنولوجية تؤكد للمتداول ضرورة مراجعة نفسه، وألا يقع أسيرًا لانحياز السواء ليتجنب الخسائر ويحقق الأرباح.
المصادر: أرقام- إنك- سي إن بي سي- ميديام- فوربس
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}