كانت الأزمة الاقتصادية في الأرجنتين خلال السنوات القليلة الماضية، طاحنة، حيث استنزفت موارد الدولة والأفراد على حد سواء ودفعت العملة المحلية إلى الانهيار وزادت من ضغوط المعيشة.
وقفز معدل التضخم -المقاس وفقًا لتغيرات مؤشر أسعار المستهلكين على أساس سنوي- إلى نحو 290% في أبريل من هذا العام، قبل أن يهدأ قليلًا في الأشهر التالية، ارتفاعًا من 25% في يناير من عام 2018.
في غضون ذلك، ارتفعت أسعار الفائدة إلى أكثر من 130% عند ذروتها في العام الماضي، وانهارت قيمة العملة من نحو 20 بيزو للدولار الواحد إلى أكثر من 950 بيزو، وفقًا لسعر الصرف الرسمي (تجاوز السعر في السوق الموازية 1300 بيزو).
هذه الظروف غير المواتية التي اضطرت البلاد لطرق أبواب صندوق النقد مرارًا وتكرارًا، دفعت الرئيس الأرجنتين "خافيير ميلي" للتحذير من "صدمة اقتصادية" في أول خطاب له بعد انتخابه لقيادة البلاد، بسبب الإجراءات الصارمة التي يعتزم تطبيقها.
لكن كما كان على الدولة أن تتكيف مع الظروف الجديدة، كان على المواطنين والحكومات المحلية أيضًا التكيف، خاصة في المناطق الفقيرة القليلة في البلاد، مثل "لاريوخا"، المقاطعة التي تشكل الحدود الشمالية الغربية مع تشيلي.
الفقراء يقاومون
- في أماكن مثل لاريوخا، يمكن ملاحظة الخسائر المالية التي تكبدتها البلاد نتيجة للعلاج الاقتصادي الصادم الذي تبناه "ميلي" من أجل مكافحة التضخم المفرط.
- عندما خفض "ميلي" المدفوعات النقدية الشهرية من الحكومة الفيدرالية إلى المقاطعات، أفلست لاريوخا، وفي فبراير، تخلفت عن سداد ديونها، وسرعان ما غرق الاقتصاد المحلي في ركود عميق.
- لذا، رسم الحاكم "ريكاردو كوينتيلا" وهو منتقد صريح لـ "ميلي"، خطة جذرية، حيث أصدر عملة خاصة بالمقاطعة "تشاتشو"، وبدأ يوزعها في حزم من خمسين ألفًا على جميع موظفي الحكومة، وحدد قيمتها عند "1 تشاتشو = 1 بيزو".
- قال "كوينتيلا" إن هذه كانت مكافأة صغيرة لمساعدة الناس على شراء المزيد من الضروريات التي كانوا يضطرون لضبط إنفاقهم عليها، ولم يُجبر أصحاب المتاجر على قبولها، لكن الحكومة المحلية شجعتهم بقوة.
- في صباح يوم بارد في أواخر أغسطس، حيث يشهد النصف الجنوبي من العالم فصل الشتاء الآن، اصطف العمال في طوابير طويلة للغاية من أجل الحصول على عملتهم الجديدة (استغرق بعضهم حتى 7 ساعات للحصول على الأموال)، لكنهم لم يتذمروا.
- كان المبلغ المستحق لهم يعادل نحو 40 دولارًا، وهو مبلغ لا بأس به في مقاطعة يبلغ فيها متوسط الراتب الشهري 240 دولارًا فقط، وبعد أن حصلوا أخيرًا عليه، لم يضيعوا الوقت في إنفاقه.
هل ساعدتهم الأموال الجديدة؟
- في محطة وقود "ريفينور" في عاصمة المقاطعة، ارتفعت المبيعات بنسبة 10% في ذلك الصباح، وفي محل جزارة "نود فاما" الصغير، دفع حوالي نصف الزبائن ثمن مشترياتهم خلال أسبوع بالعملة الجديدة.
- خصص "كوينتيلا" مكتبين حكوميين في العاصمة للتجار الحريصين على التخلص من التشاتشو، حيث يمكنهم، بعد انتظار إلزامي لمدة 48 ساعة، استبدالها بالبيزو.
- طلب "كوينتيلا" من التجار الانتظار حتى ديسمبر، وسوف تدفع لهم الحكومة الإقليمية 1.17 بيزو عن كل تشاتشو، وهو ما يعادل فعليًا سعر فائدة 17% على البيزو، ويصل إلى أكثر من 50% عند حسابه على أساس سنوي.
- إن هذا يوضح جوهر مخطط التشاتشو في نهاية المطاف؛ حيث ما هو إلا وسيلة لمقاطعة عاجزة عن سداد ديونها، ومحرومة من التمويل الفيدرالي ومغلقة أمام أسواق الدين في الداخل والخارج، تحاول الحصول على التمويل والاستمرار في الإنفاق.
دولة داخل الدولة
- حتى في بلد مشهور بقطاعه العام المتضخم، تبرز لاريوخا، التي يحكمها الحزب البيروني اليساري الذي أدار البلاد طيلة أغلب هذا القرن، ويعمل لدى حكومتها ثلثا عمال المقاطعة.
- تمتلك الحكومة عشرات الشركات، والتي تسيطر من خلالها على قدر كبير من الاقتصاد المحلي، ومع بدء "ميلي" التحول بعيدًا عن النموذج الاقتصادي البيروني، كان من المحتم أن تكون لاريوخا أول من ينهار، فيما يصفها منتقدو الحكومة الإقليمية بأنها "فنزويلا الأرجنتين".
- تقول "ماريانا شانامبا" نائبة رئيس الغرفة التجارية في لاريوخا، إن الطريقة التي يستعد بها الناس للوقوف في طوابير لساعات "لجمع صدقة تسمح لهم بتناول الطعام" لبضعة أيام توضح مدى ملاءمة المقارنة بفنزويلا، والتشاتشو هو انعكاس لهذا الفقر".
- يعتبر "أنخيل فيسينتي تشاتشو بينالوزا" أسطورة في هذه المنطقة، وهو زعيم محلي صنع اسمه خلال القتال ضد قوات بوينس آيرس أثناء الحرب الأهلية في القرن التاسع عشر، وتنتشر نصبه التذكارية في كل مكان وهو يتخذ وضعية تهديد ويحمل حربة على كتفه.
- هذه هي الصورة التي تزين الأوراق النقدية الجديدة، وهناك أيضًا رمز الاستجابة السريعة على كل ورقة نقدية، والذي عند مسحه ضوئيًا، يعرض رسالة حادة اللهجة تنتقد حكومة "ميلي" بسبب حرمان المقاطعة من الأموال الفيدرالية المستحقة لها.
ليست الأولى.. وربما لن تكون الأخيرة
- إن العملات النقدية الجديدة تأتي بفئات تتراوح بين ألف إلى خمسين ألفًا، وجرى توزيع ثلاثة مليارات منها، أو ما يعادل نحو ثلاثة ملايين دولار، مع خطط لزيادة هذا المبلغ قريبًا إلى تسعة مليارات.
- يحذر "نيكولاس كاساس"، أستاذ الاقتصاد في جامعة لاريوخا الوطنية، من إقدام حكام إقليميين آخرين على هذه الخطوة، ورغم أنه يرى ذلك احتمالًا ضعيفًا الآن، لكن يعتقد أن دعم الفكرة سيزيد بمرور الوقت وستنمو معه "كرة الثلج".
- حدث هذا من قبل، ففي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما فرضت الحكومة الفيدرالية خطة تقشف على البلاد مماثلة لخطة "ميلي" اليوم، سارعت المقاطعات إلى إصدار عملاتها الخاصة، وإجمالًا، انضمت أكثر من اثنتي عشرة مقاطعة لهذا الحراك، بما في ذلك لاريوخا.
- لاقت العملات نجاحًا متباينًا مع غرق البلاد في أزمة أعمق قبل استبدالها كلها بالبيزو من قبل الحكومة البيرونية الجديدة التي تولت السلطة في بوينس آيرس عام 2003.
- لم يتحدث "ميلي" كثيرًا عن التشاتشو، لكنه أشار إلى أنه لن يحاول حظرها، كما حثه بعض حلفائه، كما أنه لن يعرض استبدالها بالبيزو.
- في حين يمكن للمتاجر رفض قبول التشاتشو، فإنها لا تستطيع فرض خصم عند قبولها كأداة للدفع، مع ذلك، يبدو أن استخدام العملة لا زال محدودًا، حيث شكا البعض من أنه يتعين عليهم التنقل عبر المقاطعة لمعرفة المتاجر التي تقبلها.
- مع ذلك، صُدمت "شانامبا" من السرعة التي أنفق بها سكان لاريوخا التشاتشو بعدما حصلوا عليها، لكنها تُرجع ذلك إلى "فشل تجارب العملات المحلية السابقة" التي أفقدت أموال السكن قيمتها في النهاية، قائلة: "إنهم يخشون حدوث ذلك مرة أخرى، وهذا مجرد مسكن، ولا يحل المشكلة".
المصادر: بلومبرج- أرقام
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}