منذ نحو أسبوعين، بينما كان قاطنو مدن وقرى شرق إسبانيا يستعدون لممارسة مهام حياتهم على النحو المعتاد، فوجئ السكان هناك بمياه الفيضانات تباغتهم، لتجتاح أحياء ومزارع بأكملها وتحولها إلى بحار من الوحل والمياه، مخلفة عشرات القتلى.
وفي غضون دقائق قليلة، أصبحت مشاهد العائلات التي تُكافح للهرب من تلك الكارثة، والسيارات التي جرفتها الفيضانات، والمباني المغمورة بالمياه بشكل غير مسبوق، تتداول بشكل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي.
هذه الفيضانات، التي وصفها البعض بأنها الأسوأ منذ عقود، لم تترك خلفها فقط أضرارًا مادية، بل تركت جرحًا عميقًا في قلوب الإسبان الذين يحاولون إعادة بناء ما دمرته.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
وفي ظل ارتفاع حصيلة الضحايا إلى أكثر من 200 قتيل، تتواصل عمليات البحث عن المفقودين، وسط أمل ضعيف في العثور على مزيد من الناجين.
تكرار مشاهد الفيضانات حول العالم
أصبحت الفيضانات باختلاف درجات شدتها جزءًا لا مفر منه في حياة العالم، وأصبحت المياه التي تغمر الكثير من الدول باختلاف مواقعها الجغرافية مشهدًا متكررًا، وهو ما جعلها من أكبر الكوارث التي تهدد العالم.
ولم تعد الفيضانات النوع الأكثر شيوعًا من الكوارث الطبيعية في جميع أنحاء العالم فقط، بل تشير الدراسات أيضًا إلى أن نسبة سكان العالم المعرضين لها تتزايد مع مرور الوقت، وهو ما يدق ناقوس خطر للمجتمع الدولي أن ينتبه له في ظل تزايد حدة ظواهر التغير المناخي.
الكوارث الطبيعية التي ضربت أنحاء العالم في 2023 |
|
نوع الكارثة |
عدد مرات التكرار |
فيضانات |
164 |
عواصف |
139 |
زلزال |
32 |
انزلاقات أرضية |
24 |
حرائق غابات |
16 |
جفاف |
10 |
درجات حرارة مرتفعة للغاية |
10 |
نشاط بركاني |
4 |
ومن المتوقع أن يتسارع هذا الاتجاه مع ارتفاع مستويات سطح البحر، إذ يقع عديد من أكبر مدن العالم، بما في ذلك طوكيو ونيويورك ومومباي، بالقرب من السواحل، ما يعرض أعدادًا كبيرة من قاطنيها للخطر.
وارتفع متوسط مستوى سطح البحر العالمي بمقدار 8-9 بوصات (21-24 سنتيمترًا) منذ عام 1880 حتى عام 2023، حيث سجل رقمًا قياسيًا جديدًا.
وأصبحت الفيضانات الناجمة عن المد العالي الآن أكثر تواترًا بنسبة 300% مما كانت عليه قبل 50 عامًا.
وإذا تمكن العالم من خفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري بشكل كبير، فمن المتوقع أن تتراجع معدلات تكرار الفيضانات حول العالم، وبالتالي تقلص الخسائر المرتبطة بتلك الكارثة الطبيعية.
وإلى أن يتمكن العالم من مواجهة ظاهرة التغير المناخي، والوصول إلى ما يعرف بالحياد الكربوني (صفر انبعاثات) من أجل حماية كوكب الأرض من مخاطر ارتفاع درجات الحرارة، ربما توفر حلول التكنولوجيا المبتكرة بدائل فعالة للتخفيف من مخاطر الفيضانات.
حلول مبتكرة للتكيف مع الفيضانات
من أجل مواجهة توابع الفيضانات، تتبنى عدة مدن حول العالم حلولًا ذكية تهدف إلى التكيف مع تلك الظاهرة، ومن الممكن أن يساعد انتشارها على تقلص توابع تلك الكارثة الطبيعية.
1- منازل عائمة
ومن بين تلك الحلول المنازل العائمة في هولندا، وجاءت فكرتها نتيجة تعاون بين شركة الهندسة المعمارية البريطانية جريم شاو والشركة الهولندية كونسريت فالي من أجل تصميم منازل قادرة على مواجهة التهديد المتزايد للفيضانات في المناطق المنخفضة.
وتُبنى تلك المنازل على هيكل عائم، وعندما ترتفع مستويات المياه، تطفو للأعلى، ما يقلل من خطر دخول المياه إلى أماكن المعيشة، ويجري استعمال خامات مستدامة وغير قابلة للتآكل لبناء تلك المساكن المصممة لتحمل ظروف الفيضانات مثل الخرسانة والزجاج.
كما أنها مجهزة بألواح شمسية يمكنها توليد الطاقة والحفاظ عليها حتى أثناء الفيضانات.
2- قنوات جانبية
ومن بين تلك الحلول أيضًا ما قامت به العاصمة النمساوية فيينا في عام 1969، حينما أنشأت قناة بطول 21 كيلومترًا سُميت بنهر الدانوب الجديد، بهدف حماية المدينة من الفيضانات.
يمتد نهر الدانوب الجديد بالتوازي مع نهر الدانوب الحالي، وقد تم تصميمه للتعامل مع المياه الزائدة أثناء الفيضانات، ما يساعد في حماية فيينا من المخاطر المتزايدة للكوارث المرتبطة بالمياه.
وخلال الظروف الجوية العادية، تظل القناة غير نشطة وعندما ترتفع مياه الفيضانات، يتم تنشيط السدود، ما يسمح لنهر الدانوب الجديد بامتصاص المياه الزائدة وتخفيف الضغط على النهر الرئيسي.
3- مدينة الإسفنج
أيضًا ابتكرت الصين ما يعرف باسم "مدينة الإسفنج" التي تعتمد على حل مستمد من الطبيعة، ويعمل على استغلال الأسطح والأراضي الرطبة المستصلحة وقنوات المياه لامتصاص وتخزين مياه الأمطار والتخفيف من مخاطر الفيضانات.
وتسعى مدينة الإسفنج إلى محاكاة قدرة الأرض على امتصاص المياه، وهو أمر معاكس لما تعتمد عليه حياة المدن الحالية حيث تكون الأسطح صلبة وأنظمة الصرف تعمل على توجيه المياه إلى محطات الصرف على نحو سريع.
4- شاشة المناخ الخضراء
أما الدنمارك، فقد صممت نظامًا لإدارة مياه الأمطار تحت اسم "شاشة المناخ الخضراء" للتعامل مع جريان المياه من المباني المجاورة.
ويتم توجيه مياه الأمطار من المصارف إلى منطقة مخصصة لكل مجموعة من المباني، حيث يتم توزيعها وامتصاصها بواسطة الصوف المعدني المثبت بجوار ألواح مبنية من خشب الصفصاف.
ويمكن بعد ذلك أن يتبخر معظم الماء، وتوجيه أي مياه زائدة إلى وعاء للزراعة أسفل منطقة جمع مياه الفيضانات أو تحويلها إلى مناطق خضراء أخرى قريبة أثناء هطول الأمطار الغزيرة.
وفي حالة هطول أمطار غزيرة جدًا، يتم إعادة توجيه المياه إلى مناطق مصممة لاحتواء كميات كبيرة من المياه، ما يساعد في تخفيف مخاطر تدفق المياه.
ومن أبرز مميزات تلك التقنية أنها تتعامل مع مياه الأمطار فوق سطح الأرض، وهو ما يعني تجنب الحاجة إلى إضافة بنية تحتية مكلفة وكثيفة الكربون مثل الأنفاق، والاعتماد على الجاذبية بدلًا من المضخات في سحب مياه الفيضانات.
5- تسخير الذكاء الاصطناعي
يمكن أيضًا تسخير التكنولوجيا الجديدة والذكاء الاصطناعي لمعرفة المناطق الجغرافية الأكثر عرضة للتأثر بالفيضانات، والعمل على جعلها أكثر استعدادًا لمواجهتها.
كما يمكن الاستفادة من بيانات الأقمار الصناعية في إنشاء خرائط تفصيلية للفيضانات واستغلال تلك البيانات لتعزيز التكيف في المناطق التي تتأثر بالفيضانات.
وبالفعل يستخدم فريق في ولاية تكساس الأمريكية نماذج الذكاء الاصطناعي مستغلًا بيانات الأقمار الصناعية بهدف رسم خرائط عالية الدقة تحاكي ظروف الفيضانات في الحياة الواقعية.
كما تمتلك جوجل مبادرة للتنبؤ بالفيضانات اعتمادًا على الذكاء الاصطناعي، وبموجبها أطلقت فلود هاب آلية توفير بيانات وتوقعات الفيضانات المحلية حتى سبعة أيام مقدمًا، ما يساعد الناس على اتخاذ الاحتياطات قبل وقوع الفيضانات.
وتغطي فلود هاب حاليًا أكثر من 80 دولة، وتوفر توقعات الفيضانات لأكثر من 1800 موقع، ويجري تحديث توقعات المنصة يوميًا، ما يجعلها موردًا موثوقًا به لتوقع أحداث الفيضانات والاستعداد لها.
هل حلول التكنولوجيا كافية لمواجهة الفيضانات؟
مع تزايد تكرار الفيضانات في جميع أنحاء العالم، تتجه المجتمعات إلى حلول جديدة للتخفيف من مخاطرها وحماية السكان.
وتنحصر تلك الوسائل في اعتماد أساليب مبتكرة ومستدامة تقوم على التكيف مع آثار الفيضانات من خلال الاستفادة من التكنولوجيا والحلول القائمة على الطبيعة.
وربما يتمكن التقدم التكنولوجي من إيجاد بدائل للتخفيف من المخاطر وحماية سكان تلك المناطق والبنية التحتية بها، لكن في نهاية المطاف لن يمثل ذلك حلًا لأصل المشكلة وهو تكرار ظاهرة الفيضانات حول العالم.
ومع تزايد قسوة تلك الفيضانات فإن حلول التكنولوجية قد تقف عاجزة أمامها، الأمر الذي يعني أن على الدول التحرك بنحو أسرع تجاه تبني استراتيجيات من شأنها الحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، ووقف ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض بنحو متسارع.
وقد يشكل مؤتمر كوب 29 الذي بدأ أعماله في عاصمة أذربيجان يوم الإثنين وتستمر على مدار أسبوعين، فرصة حقيقة أمام المجتمع الدولي من أجل السعي لإنقاذ الكوكب من براثن التغيرات المناخية التي تتزايد حدتها بمرور الوقت.
وحذر أنطونيو جوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، من أن أزمة المناخ قد أصبحت واقعًا ملموسًا، مؤكداً أهمية التحرك السريع لمواجهة الكوارث الجوية المتطرفة التي يشهدها العالم.
وأضاف أن هذه الكوارث تشكل "مأساة إنسانية" تهدد صحة الناس، وتؤثر سلبًا على التنمية المستدامة، كما تزعزع السلام في العديد من المناطق.
كما أشار إلى أن أي حلول لمواجهة تلك الأزمة يجب أن تعالج أساس المشكلة، وهي انبعاثات الغازات التي تتسبب في الاحتباس الحراري.
المصادر: أرقام- أسوشيتدبرس- منتدى الاقتصاد العالمي- كلاميت- ستاتيستا- دويتشه فيله
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}