باتت مئات من مناطق وقرى اليونان خاوية من السكان، وسط أزمة ديموغرافية حادة نتيجة عقود من عزوف الشباب عن الإنجاب، وموجات من الهجرة الجماعية للخارج في ظل صعوبات اقتصادية طاحنة.
تعرضت اليونان عام 2009 لأزمة ديون دفعت الاتحاد الأوروبي للإسراع بالتدخل لإنقاذ اقتصاد البلاد، وتمخضت برامج الإنقاذ هذه إلى سنوات من التقشف والتعثر المالي تركت قرابة 60% من الشباب عاطلين عن العمل مطلع 2013.
وبعد مرور 15 عاماً على اندلاع الأزمة، بات 53.5% من سكان اليونان يعيشون في العاصمة أثينا، ومنطقة "أتيكي" المحيطة بها، وثاني أكبر مدن البلاد "سالونيك"، تاركين المناطق النائية والضواحي إما خاوية، أو تحتوي على عدد ضئيل من المواطنين.
عمق الأزمة الديموغرافية في اليونان
يصعب تحديد العدد الفعلي للمدن والقرى المهجورة في اليونان بسبب طبيعتها النائية في كثير من الأحيان، لكن أحدث التقديرات المتاحة تشير إلى وجود قرابة 200 قرية مهجورة بالكامل.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
في حين لا يوجد حصر دقيق لعدد القرى التي تعاني انخفاضاً حاداً لعدد السكان، وفي مثال على ذلك، أوضح آخر تعداد سكاني لليونان أجري عام 2021 أن هناك 12 نسمة في قرية جبلية بمنطقة "بيلوبونيز" تدعى "لاستا".
لكن شبكة "سي إن بي سي" أجرت زيارة ميدانية للقرية في 2024، ولم تعثر على أي مؤشرات تدل على وجود سكان دائمين هناك، فالساحات مهجورة، والمدارس خاوية، ولا يرتاد أحد على الإطلاق المقهى المحلي.
يبلغ معدل الخصوبة في اليونان حالياً 1.3 طفل لكل امرأة، وهو واحد من أدنى المعدلات في أوروبا، ويعادل نصف المستوى المسجل عام 1950، وأقل من معدل 2.1 طفل لكل امرأة المطلوب للحفاظ على استقرار عدد السكان دون تغيير.
وفي عام 2023، كان عدد المواليد في اليونان أدنى مستوى في سلسلة البيانات التي تعود لقرن من الزمان، وبلغ قرابة 71.4 ألف طفل بانخفاض سنوي ناهز 6%.
وعلاوة على ذلك، يوجد في اليونان حالياً حالة ولادة واحدة مقابل كل حالتي وفاة، ويعادل عدد السكان الذين تتجاوز أعمارهم 65 عاماً ضعف من هم في فئة 14 عاماً أو أقل.
وانخفض عدد النساء في الفئة العمرية ما بين 20 عاماً و40 عاماً بحوالي 150 ألف نسمة على مدار السنوات الخمس الماضية.
الأزمة المالية وإعادة تشكيل ثقافة الشباب
يرجع جزء كبير من الانحدار السكاني الذي تعيشه السكان اليوم إلى تبعات الأزمة المالية لعام 2009 التي أثرت على حركة الاقتصاد وسوق العمل، وامتدت تبعاتها لإعادة تشكيل ثقافة الأجيال الشابة.
تركت الأزمة المالية الكثير من الشباب عاجزين عن تأسيس حياة مستقلة بعيداً عن عائلاتهم، في حين لجأ قسم كبير ممن تركوا منازل آبائهم إلى السفر للخارج، وتركز الباقي في المدن الكبرى بحثاً عن عمل وفرص تعليم أفضل.
تشير التقديرات إلى هجرة أكثر من 400 ألف يوناني خارج البلاد خلال فترة الأزمة، أي ما يعادل 9% من إجمالي القوى العاملة.
الأمر الذي دفع العديد من خبراء الاقتصاد للتحذير من أن الانهيار السكاني الذي تعيشه اليونان يثقل كاهل الدولة بضغوط كبيرة في ظل عدم وجود ما يكفي من الأيدي العاملة لتدوير عجلة الاقتصاد في المستقبل.
مستقبل غامض وبرامج حكومية عاجزة
حذر رئيس الوزراء اليوناني "كيرياكوس ميتسوتاكيس" من التهديد الوجودي الذي يواجه المجتمع اليوناني، وكونه أكثر تعرضاً للتحولات الديموغرافية واسعة النطاق التي تصيب الدول المتقدمة.
قال " ميتسوتاكيس" في مؤتمر محلي بشأن هذه القضية العام الماضي، إن الشعب اليوناني من بين أكثر الشعوب شيخوخة في أوروبا، ولا يتوزع الانحدار السكاني في جميع أرجاء البلاد بالتساوي، بل يظهر جلياً في مناطق بعينها.
وأوضح أن هذا يعني عدم كفاية الاستراتيجيات الوطنية القائمة للتعامل مع الأزمة، وهناك حاجة لتطبيق حلول على صعيد السياسات المحلية.
تتوقع الحكومة اليونانية انخفاض عدد السكان من قرابة 10.4 مليون نسمة في الوقت الراهن إلى 7.5 مليون نسمة بحلول عام 2050، ما دفع رئيس الوزراء لتأسيس وزارة جديدة للتماسك المجتمعي والشؤون الأسرية، معنية بتعزيز الدعم المقدم للأطفال والفئات الأكثر ضعفاً.
أعلنت الوزارة الجديدة في أكتوبر الماضي عن تخصيص 20 مليار يورو (21 مليار دولار) حتى عام 2035 للإنفاق على البرامج التحفيزية الرامية لوقف الانحدار السكاني.
من هذه البرامج زيادة الإجازات الممنوحة للوالدين، وتقديم إعفاءات ضريبية، وأوضحت الوزيرة " صوفيا زاخاراكي" في تصريحات لـ "سي إن بي سي"، إن المجتمع اليوناني بحاجة لصحوة تعيد له الشعور بالأمان والتفاؤل، خاصة بين الشباب.
وأضافت أن التحديات التي تواجه اليونان لا تقتصر على الأبعاد الاقتصادية وحسب، بل هناك المشكلة العقلية الناجمة عن تغير فكر الشباب بسبب الأزمات المتكررة والشعور بخيبة الأمل.
شكك " بيرت كولين" كبير الاقتصاديين لدى "آي إن جي" في قدرة تدابير دعم الأطفال على تغيير تفكير الشباب، قائلاً إن اليونان قد تحتاج لتغيرات سياسية كبرى تحفز حدوث تحولات ديموغرافية.
وذكر أنه لا توجد أمثلة على سياسات طبقتها اليونان في أي من المناطق الجغرافية أدت إلى وقف الانحدار السكاني.
اقتصاد مهدد وتوقعات متناقضة
يتناقض الانحدار السكاني الراهن في اليونان مع تحسن الآفاق الاقتصادية للبلاد، إذ تشير التوقعات إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.2% هذا العام، قبل أن يصل إلى 2.3% في 2025 متفوقاً على الاقتصادات الأوروبية الرئيسية.
لكن هذه التوقعات ترصد في واقع الأمر أداء الاقتصاد اليوناني على مدى قصير للغاية، إذ حذر عدد من الخبراء أن الأزمة الديموغرافية قد تقوض هذا النمو في الأجل الطويل.
وتعد الحالة اليونانية جزءًا من ظاهرة أوسع وأكثر شمولاً تواجه العديد من الدول المتقدمة كما هو الحال بالنسبة للبلدان الأوروبية، واليابان، وكوريا الجنوبية، والصين.
أشار "جيم ريد" الرئيس العالمي لقسم البحوث الكلية لدى "دويتشه بنك" في تقرير صدر الشهر الماضي؛ إلى أن العالم يشهد تحولاً ديموغرافياً غير مسبوق يتمثل في تباطؤ النمو السكاني العالمي على نحو مستمر، ولا أدلة تدعم حدوث تحول في هذا الاتجاه.
وأوضح أنه في ضوء تقديرات تسارع التدهور السكاني على مدار فترة بين 2024 و2049، يصبح من المنطقي توقع انخفاض معدلات النمو الاقتصادي الحقيقي، وعوائد الأسهم دون المتوسط طويل الأمد، خاصة في الأسواق المتقدمة.
المصدر: سي إن بي سي
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}