نبض أرقام
01:45 م
توقيت مكة المكرمة

2025/01/10
2025/01/09

من روما القديمة إلى أمريكا ترامب .. أطماع جامحة تقود الإمبراطوريات إلى الانهيار

12:39 ص (بتوقيت مكة) أرقام - خاص

بعد حرب أهلية شعواء استمرت قرابة 4 سنوات، بدأت بتمرد عسكري وانتهت بمقتل مئات الآلاف من الجنود والمدنيين، نجح القوميون الإسبان، في بسط سيطرتهم على البلاد كاملة، في ربيع عام 1939، قبل أشهر من اندلاع الحرب العالمية الثانية.

 

ورغم أن ألمانيا النازية وحليفتها إيطاليا قدمتا الدعم للقوميين بقيادة "فرانسيسكو فرانكو"، لم تنضم إسبانيا إلى دول المحور في حربهم، وإن كانت لم تمنع إرسال آلاف المتطوعين إلى "هتلر"، ويرجع ذلك على الأرجح إلى النتائج المدمرة للاقتتال الداخلي الذي شهدته البلاد.

 

 

مع ذلك، لا يبدو أن تركيز "فرانكو" وأنصاره كان منصرفًا تمامًا إلى واقع البلاد المزري، ففي صيف عام 1940، جاب أنصاره شوارع مدريد مرددين هتافات تطالب باستعادة جبل طارق، في الوقت الذي نشرت فيه الحكومة ملصقات تؤكد ملكيتها لكوبا والفلبين وكاليفورنيا وأريزونا وتكساس وفلوريدا.

 

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

 

في هذه الفترة، اعتدت جموع "الفاشيين" على سفارتي بريطانيا والولايات المتحدة، وانتقدت الصحف "الديمقراطيات المنحطة"، وكان "فرانكو" وصهره "سيرانو سوير" يلقيان خطابات أسبوعية يهاجمان فيه الحلفاء ويهددان بدخول الحرب في أي لحظة، بحسب مقال نشرته "فورين أفيرز" عام 1944 بعنوان "أحلام الإمبراطورية الإسبانية".

 

كان هذا الخطاب والدعوات التوسعية المستندة إلى تاريخ استعماري طويل ومجد قام على دماء الشعوب الأخرى، امتدادًا لتعهد "فرانكو" في بداية حكم القوميين عندما قال: "أمام رماد إمبراطوريتنا الميتة، وعلى وعد بإمبراطورية أخرى".

 

بمرور الوقت، بدا أن "فرانكو" غير جاد في انضمامه لـ "هتلر" وبعض الباحثين رجح أنهما لم يكونا على وفاق تام ولم يكن التفاهم الهش بينهما إلا لمصلحة مشتركة، ومع الهزائم المتلاحقة التي مُنيت بها دول المحور أصبح حلم القائد الإسباني لإعادة المجد التالد "مجرد سراب"، وربما لم يتخطَّ كونه "خطابًا شعبويًا يهدف فقط لإثارة الجماهير".

 

لكن من المفارقات التاريخية، أن "فرانكو" ظل حيًا وفي سدة حكم البلاد لسنوات طويلة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ليشهد بنفسه كيف أن الأطماع التوسعية وأحلام الماضي لكل من ألمانيا واليابان كانت مكلفة للغاية، وما أن تمددت حدود الدولتين لأقصى نقطة ممكن حتى عادت سريعًا كما يرتد المطاط بعد شده.

 

حتى في تاريخ بلاده الإمبراطوري القديم، تشير الأدلة إلى أن التوسع والأطماع الاستعمارية عادة ما كنت نهايتها مؤلمة، ولم يثبت أبدًا أنها استمرت للأبد، وهذه دروس لكل من يأمل في أن يعيد العالم إلى حدود العصور المظلمة وحقبة الاستشكاف الاستعمارية.

 

 

أمجاد الماضي أوهام الحاضر

 

- في الحقيقة، لم تكن الفاشية الإسبانية نتاج حرب أو معاهدة فاشلة، بل كانت بمثابة انتفاضة ضد ما يقرب من "ثلاثة قرون من الإذلال"، بحسب مقال "فورين أفيرز" للكاتب الصحفي "توماس جيه هاملتون"، والذي عمل رئيسًا لمكتب صحيفة "نيويورك تايمز" في مدريد آنذاك.

 

- ولدت الإمبراطورية الإسبانية نتيجة اتحاد مملكتي قشتالة وأراغون، وخلال الفترة بين القرنين 15 و16 كانت إسبانيا قوة استعمارية عظمى تُهاب، حتى إنها وقعت اتفاقًا مع جارتها البرتغال لتقاسم العالم وموارده، دون أي اعتبار منهما لدول مثل إنجلترا وفرنسا وهولندا.

 

- عند ذروتها سيطرت إسبانيا على نصف أمريكا الجنوبية، وأغلب منطقة أمريكا الوسطى، وأجزاء كبيرة من أمريكا الشمالية (المكسيك والجزء الجنوبي من الولايات المتحدة التي نعرفها اليوم)، وبعض الجزر في جنوب شرق آسيا، بالإضافة إلى أجزاء كبيرة من إيطاليا وبعض المناطق في شمال ووسط أوروبا، وحتى في إفريقيا.

 

- في هذه المرحلة، كانت الإمبراطورية الإسبانية واحدة من بين الأكبر في التاريخ، وسيطرت إجمالًا على 35 مستعمرة امتدت عبر كل قارات الأرض باستثناء أستراليا والقارة القطبية الجنوبية.

 

- توجت المملكة الإسبانية بلقب "سيدة العالم" في القرن السادس عشر بعد توسعها الكبير وتقدمها في مختلف المجالات، لكن هذا المجد لم يدم للأبد كما هو واضح، واضمحلت حضارتها حيث اعتبرت قوة من الدرجة الثالثة بنهاية القرن التاسع عشر.

 

- بدأت الإمبراطورية الإسبانية في الانحدار بمرور الوقت (يعتقد المؤرخون أن ذلك بدأ في القرن السابع عشر)، حيث استقلت العديد من مستعمراتها، وخسرت مناطق نفوذ لقوى صاعدة أخرى لم تكن تلقي لها بالًا أو تحسب لتحركاتها حساب.

 

 

- كان التوسع الكبير والسريع على مدار قرنين بداية النهاية بالنسبة للطموح الإسباني، الذي لم يكن كافيًا للسيطرة على حركات التمرد المختلفة وانهيار الاتحاد مع البرتغال، إلى جانب خسائر عسكرية متلاحقة على يد القوى الأوروبية وخاصة في الحرب بأمريكا الشمالية.

 

- يضاف إلى ذلك الأزمات الاقتصادية المتعددة وسلسلة الأوبئة التي أودت بحياة أكثر من مليون شخص، والقيادة غير الكفؤة التي تركت دفاعات البلاد ضعيفة، وبحلول منتصف القرن العشرين اختفت هذه الإمبراطورية مترامية الأطراف وانحسرت إلى حدودها في شبه الجزيرة الأيبيرية.

 

- من المثير في قصة انهيار الإمبراطورية الإسبانية، هو التدهور الاقتصادي الناجم عن تفشي الطاعون، وطرد الموريسكيين والمغاربة، الأمر الذي أدى إلى تغيرات ديموغرافية خطيرة تسببت في تثبيط الاقتصاد وتدهور المدن الصناعية المزدهرة وانهيار الصناعات الرئيسية، وفقًا للكاتب ومحاضر التاريخ بجامعة "دندي" الاسكتلندية "كريستوفر ستورز".

 

الدرس غير المفهوم

 

- كان في تاريخ الإمبراطورية الإسبانية الكثير من العبر التي توجب على "فرانكو" إدراكها قبل يجاهر بأحلامه الساذجة، وفي الحقيقة، كان الأمر الأكثر وضوحًا والذي تهرب منه؛ حقيقة أنه جاء متأخرًا 4 قرون لقيادة قوة استعمارية واقتصادية عظمى، وتزامن وجوده عند قاع المنحنى الحضاري لبلاده.

 

- نموذج "فرانكو" في بداية حكمه للبلاد، يذكرنا بالرئيس الأمريكي المنتخب "دونالد ترامب"، الذي كثيرًا ما هدد وتوعد حلفاءه قبل خصومه، وأخذ يروج مؤخرًا لأحقية بلاده في استعادة قناة بنما، وفرض السيطرة على جرينلاند التابعة للدنمارك، وضم كندا، وإعادة تسمية خليج المكسيك بـ "خليج أمريكا".

 

- لم يكتفِ "ترامب" بطلب السيطرة على هذه المناطق أو شرائها كما فعل أحيانًا في ولايته الأولى، لكنه لوح باستخدام القوة العسكرية لضم قناة بنما وفرض السيطرة على جزيرة جرينلاند، كما هدد كندا بضغوط اقتصادية حادة، ناهيك عن التهديد بالانسحاب من حلف الناتو والحرب الاقتصادية مع الصين والمكسيك.

 

 

- في حين يتحلى "ترامب" بالكثير من صفات "فرانكو" الجامحة مثل الجشع والأنانية السياسية والرغبة التوسعية والأحلام الاستعمارية (وأيضًا قدرته على الكلام كثيرًا ومعاداة الجميع)، لا شك أنه يمتلك أيضًا مقومات لم تتوفر للقائد الإسباني، والتي في الحقيقة، تشبه كثيرًا مقومات الإمبراطورية في ذروتها.

 

- لكن امتلاك القدرة لا يعني بالضرورة امتلاك الحق، وإن كانت أمريكا تتحلى الآن بسمات المملكة الإسبانية في مجدها، فجدير بها أن تتعلم من الأخطاء التي وقعت بها، والتي يبدو أن واشطن في عهد "ترامب" تقاد نحوها بثبات.

 

- من بين ذلك؛ التمدد الكبير والسريع، معاداة الكثير من الأطراف، عدم الالتفات إلى القوى الصاعدة وتحالفات القوى الأصغر حجمًا، وثورات الشعوب الغاضبة، وعدم توفير بيئة مواتية للجميع من أجل المساهمة في الاقتصاد (يتوعد "ترامب" المهاجرين بالطرد).

 

- التاريخ مليء بنماذج كثيرة مثل "ترامب" و"فرانكو" لم تَعِ الدروس جيدًا، كما كان غنيًا بالأدلة على نهاية هذا الطموح، مثل انهيار الإمبراطورية الرومانية قبل أكثر من 1500 عام، والذي جاء مدفوعًا أيضًا بالتوسع المبالغ فيه، وطفرة الإنفاق (خاصة على الجيش)، والاضطرابات الاقتصادية، والاعتماد على عمالة العبيد، وتوسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء بسبب نظام الضرائب.

 

- تأتي بعد ذلك، نماذج أكثر حداثة لكنها كانت أسرع اندثارًا، مثل الإمبراطورية الفرنسية في عهد "نابليون بونابرت"، وألمانيا النازية واليابان، والتي تتشارك جميعًا في التوسع السريع ونطاق العداء الكبير والغرور الزائد لدى القادة وإهمال الاقتصاد لصالح الصراعات العسكرية.

 

 

إلى أين يقود ترامب أمريكا؟

 

- دعا "ترامب" في ولايته الأولى إلى أمور مشابهة، مثل شراء جرينلاند بدعوى الحفاظ على الأمن القومي الأمريكي، لكنه لم يستطع ولم يقدم على أي مغامرة، لكن على المستوى الداخلي كان عمليًا أكثر، وقيد شروط دخول المهاجرين ومنع التأشيرات عن العديد من الجنسيات، كما أشعل حربًا تجارية مع الصين وأرهق حلفاءه في المفاوضات.

 

- لكن في نهاية المطاف، رحل "ترامب" وجاء "جو بايدن"، وتغيرت القواعد مجددًا، واختلف الخطاب الخارجي للولايات المتحدة، وبعد 4 سنوات من الآن، سيرحل مجددًا وسيأتي غيره، وستتغير قواعده مرة أخرى.

 

- أما إن أقدم بالفعل على مغامرة عسكرية، وهو الذي انتقد مرارًا التدخلات العسكرية للولايات المتحدة في الخارج، فسيكون على من يأتي بعده معالجة ما أفسده وإعادة بناء العلاقات والتحالفات مجددًا، وستكون أمريكا وحدها من يتحمل عبء هذا الخطأ.

 

- فمثلًا، فيما يتعلق بالتلويح بالخيار العسكري لضم قناة بنما أو جرينلاند، يشبه هذا كثيرًا ما حدث في عام 1956 عندما اجتاحت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل الأراضي المصرية للسيطرة على قناة السويس.

 

- لكن الضغط الدولي بقيادة الولايات المتحدة، التي كانت تزعم آنذاك دفاعها عن القانون، أوقف العدوان الثلاثي، وتحولت الذكرى لسبُة في أدبيات السياسة البريطانية، وينظر إليها المؤرخون باعتبارها الحدث الذي أكد تراجع مكانة بريطانيا إلى "قوة عالمية من الدرجة الثانية".

 

- كلما تأزم الوضع السياسي واقتربت الحكومة البريطانية من الفشل في ملف ما، يعيد السياسيون هذه الواقعة للأذهان، ويحذرون باستمرار من التسبب في "أزمة جديدة مشابهة"، فأصبحت الواقعة مقياسًا للفشل ولمقارنة فداحة الأزمات مثل الانسحاب العسكري من أفغانستان والخروج من الاتحاد الأوروبي وما ترتب عليه.

 

 

- ما لم يفهمه "ترامب" ومن قبله "فرانكو" و"نابليون" وغيرهم، أن الموارد تنفد، والقوة تتحول إلى وهن، والكبير يشيخ والصغير يكبر، وتدور دوائر الحياة كما كانت منذ بداية الزمان، فهذا ما حدث في روما القديمة وإسبانيا وفرنسا، وهذا ما سيظل يحدث، أو كما قال الشاعر: "يمزق الدهر حتمًا كل سابغةٍ.. إذا نبت مشرفيات وخرصانُ".

 

- على الأرجح، سيفيق "ترامب" وأنصاره بعد أربع سنوات، على ما فاق عليه "فرانكو" وفاشيته بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وهذا لا بأس به نظرًا لاختلاف مكانة إسبانيا آنذاك وأمريكا الآن.

 

- لكن حينها سيكون مهمًا بالنسبة لهم ألا يفيقوا وقد وضعوا بلادهم على المسار الخطأ الذي هبط بإسبانيا لقوة من الدرجة الثالثة أو ببريطانيا للدرجة الثانية، وفعل بالحضارة الرومانية ما فعل.

 

المصادر: أرقام- الذكاء الاصطناعي "جيميناي"- موسوعة المعلومات البريطانية- مكتبة "جايستور" للمنشورات العلمية- مراجعة كتاب "Franco and Hitler: Spain, Germany" المنشورة بمجلة "ذا أمريكان هيستوريكال ريفيو"- فورين أفيرز- نيويورك تايمز- وورلد أطلاس- بوابة "جيل" للمنشورات البحثية والتعليمية- أبحاث جامعة كامبريدج- هيستوري- موقع متحف الحرب الإمبراطوري "iwm"- الجارديان

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.