نبض أرقام
11:59 ص
توقيت مكة المكرمة

2025/01/27
2025/01/26

العولمة .. من وعود الرخاء إلى أزمات متكررة وزعزعة الاستقرار

2025/01/25 أرقام

- في عام 2004، قدم الصحفي الاقتصادي مارتن وولف في كتابه "لماذا تنجح العولمة" تصورًا متفائلًا للعلاقة بين الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية.

 

- وكتب حينها أن الديمقراطية الليبرالية هي النظام السياسي والاقتصادي الوحيد القادر على ترسيخ حالة الرخاء المستدام والاستقرار السياسي.

 

- بيد أن هذا التصريح لم يكن مجرد رأي شخصي، بل كان انعكاسًا لإجماع النخب في حقبة هيمنت فيها الرأسمالية الديمقراطية بوصفها الخيار الأمثل للتنظيم الاجتماعي، كما بدا واضحًا بعد انتصار الغرب في الحرب الباردة.

 

- لكن بعد مرور عقود على تلك الفترة، بدأ الواقع يتناقض مع هذه النظرة المتفائلة، وهو ما يعترف به وولف نفسه في كتابه الجديد "أزمة الرأسمالية الديمقراطية".

 

صعود الليبرالية الاقتصادية: من الخصخصة إلى العولمة

 

 

- شهدت ثمانينيات القرن الماضي تحولًا عالميًا جذريًا في السياسات الاقتصادية، بقيادة شخصيات مثل مارجريت تاتشر في بريطانيا، ورونالد ريجان في الولايات المتحدة، وفرانسوا ميتران في فرنسا. وقد تضمنت هذه السياسات خصخصة الأصول العامة، وتقليص دولة الرفاه، وتحرير الأسواق.

 

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

 

- لاحقًا، في تسعينيات القرن العشرين، طُبقت سياسات "العلاج بالصدمة" لتحويل الاقتصادات الشيوعية السابقة إلى أسواق حرة.

 

- وفي أنحاء أخرى من العالم، مثل آسيا بعد الأزمة المالية عام 1997، فرضت سياسات "التعديل الهيكلي" شروطًا صارمة مثل تحرير الأسواق والانضباط المالي كجزء من عمليات الإنقاذ.

 

عواقب العولمة: أزمات متكررة ونمو محدود

 

- على الرغم من أن الأسواق توسعت بشكل غير مسبوق، فإن "الرخاء المستدام" ظل بعيد المنال. وكانت معدلات النمو الاقتصادي في عصر العولمة أقل بكثير مما كانت عليه في العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والتي شهدت تدخلًا أكبر من الحكومات في الاقتصاد.

 

تراجع الديمقراطية والعولمة

 

- لم يكن تأثير هذه السياسات اقتصاديًا فقط، بل سياسيًا أيضًا؛ ففي أجزاء عديدة من العالم، ساهمت الأزمات الاقتصادية والركود في صعود القادة الشعبويين الذين يتبنون مواقف مناهضة لحكم القانون والحرية الفردية.

 

- يبدو أن الديمقراطية الليبرالية نفسها تتعرض للتآكل، حيث أصبح الجمع بين اقتصاد السوق والديمقراطية الليبرالية المستقرة أمرًا صعبًا.

 

- في كتابه الجديد، يُقرّ وولف بأنّ الاقتصاد قد أضعف استقرار السياسة، والعكس صحيح أيضًا؛ فلم يعد بالإمكان الجمع بين آليات اقتصاد السوق والديمقراطية الليبرالية المستقرة.

 

- ومع اتساع الهوة بين الوعود التي بشّرت بها العولمة والواقع الذي تعيشه المجتمعات، تفاقم انعدام الثقة في النخب السياسية والاقتصادية.

 

- إذ لم يعد الاقتصاد يوفر الأمن أو الازدهار المُشترك الذي تتوق إليه شرائح واسعة من المجتمعات، ما أفضى إلى استياء شعبي واسع النطاق يتجلى في نتائج الانتخابات وصعود الحركات الشعبوية.

 

أزمة الرأسمالية الديمقراطية

 

 

- يطرح وولف في كتابه، تشخيصاً صادماً لأزمة القيم التي تواجهها الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية على حد سواء، مشيراً إلى أن غياب الصدق، وضبط النفس في السياسات الاقتصادية أدى إلى زعزعة استقرار النظم السياسية والاقتصادية حول العالم.

 

- ومنذ الأزمة المالية لعام 2008، بات الشعور السائد لدى كثيرين أنهم فقدوا السيطرة على مصائر بلدانهم، في ظل هيمنة نخبة ضيقة تستحوذ على المكاسب بينما تفرض الأعباء على الجميع عند الأزمات.

 

فساد النخب وأزمة الثقة

 

- يركز وولف على إخفاقات النخب الاقتصادية والسياسية، مشيراً إلى أن هذه الإخفاقات ليست نتاجاً لضيق الأفق فحسب، بل تعكس فساداً أخلاقياً وفكرياً في قطاعات مثل التمويل، والإعلام، والهيئات الأكاديمية، والسياسات العامة.

 

- أدت هذه الإخفاقات إلى تقويض الثقة العامة في الأسواق الليبرالية، حيث يرى المواطنون أن النظام الحالي يخدم مصلحة النخب فقط، بينما يعاني البقية من سياسات تقشفية مرهقة وتفتيت للقوى العاملة.

 

- يستنتج وولف أن غياب الأخلاقيات بين النخب أدى إلى تحول الديمقراطية الليبرالية إلى مشهد يخفي هيمنة البلوتوقراطية (حكم الأغنياء)، مما يهدد الديمقراطية من الداخل والخارج.

 

"الإصلاح لا الثورة": رؤية وولف للتغيير

 

- على الرغم من الصورة القاتمة التي يرسمها وولف، إلا أنه يعارض الدعوات إلى التغيير الجذري الشامل. مستندًا في ذلك إلى الفيلسوف كارل بوبر الذي نادى بـ "التغيير الاجتماعي التدريجي"، أي معالجة المشكلات بشكل تدريجي ومُحدّد الأهداف بدلًا من إعادة بناء المجتمع بصورة جذرية.

 

- وعلى الرغم من الطابع العملي لبعض هذه الحلول، فإن البعض الآخر منها يثير جدلاً واسعًا. فعلى سبيل المثال، يعارض وولف فكرة التعليم العالي المجاني، مُعلّلاً ذلك بأن هذا النهج يُحمّل الحكومات أعباءً مالية جسيمة.

 

ما بعد 2008: تصدع الشرعية العالمية

 

 

- منذ الأزمة المالية عام 2008، بات من المُحتّم عدم تجاهل الصراع التوزيعي المُتجذّر في صميم النظام الاقتصادي.

 

- أفضى هذا الإخفاق في التوفيق بين المساواة السياسية الموعودة والتفاوت الاقتصادي المُتنامي إلى أزمة شرعية عالمية.

 

- ونتيجةً لذلك، نجد جمهورًا ساخطًا ينجذب نحو شخصيات مُناهضة لليبرالية، مثل دونالد ترامب وفيكتور أوربان وناريندرا مودي وجاير بولسونارو، الذين يزدهرون في ظلّ تفكك الإجماع النيوليبرالي.

 

نقد مارتن وولف: بين الإنكار والسياق الغائب

 

- يتناول مارتن وولف، أحد أبرز المُدافعين عن النيوليبرالية، في كتابه أزمة الديمقراطية الرأسمالية بأسلوب يبدو في بعض الأحيان مُنغمسًا في التبرير.

 

- يبدأ وولف، كما هو معهود لدى النخب، بإطلاق تعميمات حول "الأخطاء" دون تحديد مسؤوليات واضحة، مُمارسًا ما وصفه الصحفي ويليام شنايدر بـ "الماضي المُبرَّر".

 

- فعندما يُعالِج وولف قضايا تاريخية كبرى، مثل ضعف النقابات العمالية أو تضاؤل المصانع في الغرب الصناعي، يُقدّمها على أنها أحداث طبيعية لا صراعات اجتماعية وسياسية حادة.

 

- يعكس هذا النهج تجاهلًا للسياق التاريخي، حيث تتحوّل صراعات القوى إلى مُجرّد وقائع مجهولة الفاعل، ما يترك القارئ بإحساسٍ غير مُكتمل حول أسباب تلك التغييرات.

 

تفريغ الطبقة المتوسطة: جوهر الأزمة

 

- يرى وولف أن الأزمة الراهنة تعود بجذورها إلى تضاؤل الطبقة المتوسطة، التي وصفها أرسطو قبل ألفين وخمسمائة عام بأنها الركيزة الأساسية للديمقراطية الدستورية.

 

- ومع ذلك، فإن مجرد الإشارة إلى هذا التفكك يفتقر إلى تحليل مُعمّق للأسباب السياسية والاقتصادية التي أضعفت هذه الفئة الحيوية.

 

إخفاقات النيوليبرالية وضرورة الإصلاح

 

- يُعتبر كتاب وولف في نهاية المطاف شهادةً على إخفاقات التحول النيوليبرالي الذي شهده العالم. فبدلًا من مُعالجة الأزمة بشكل جذري، يكتفي وولف بالدعوة إلى إصلاحات تدريجية، متجنبًا التغيير الهيكلي الشامل الذي تقتضيه المرحلة الراهنة.

 

- وبينما يُقرّ بأن "إضعاف الطبقات المتوسطة" هو جوهر أزمة الرأسمالية الديمقراطية، يبدو مُترددًا في استعراض التدخلات الجذرية اللازمة لإعادة التوازن بين المساواة السياسية والعدالة الاقتصادية.

 

خاتمة: عبرة من التاريخ

 

- ربما يكمن الدرس الحقيقي في التسليم بأن الصراعات المتعلقة بتوزيع الثروة ليست مجرد أعراض هامشية في النظام الرأسمالي، بل هي جزء لا يتجزأ من طبيعته.

 

- إذا لم تُعالَج هذه التناقضات بشجاعة وجرأة، فإن التصدعات التي كشفت عنها أزمة 2008 ستستمر في الاتساع، مما يُمهّد الطريق لمزيد من صعود التيارات الشعبوية وزعزعة الاستقرار.

 

-  وكما يُعبّر وولف نفسه، فإن الديمقراطية الرأسمالية تواجه خطرًا داخليًا جسيمًا، إلا أن الحلول المطروحة حتى الآن قد لا تكون كافية لإنقاذها.

 

المصدر: نيويورك تايمز

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.