- في كتابهما الجديد "السوق في المجتمع الدولي العالمي: مقاربة المدرسة الإنجليزية للاقتصاد السياسي الدولي"، يستعرض الباحثان باري بوزان وروبرت فالكنر التطور التاريخي لفكرة "السوق" وتأثيرها على العلاقات الدولية منذ العصور القديمة وحتى العصر الحديث.
- وهما يؤكدان على أن ترسيخ مفهوم السوق كآلية محورية للتنسيق الاقتصادي والسياسي أدى إلى تحولات جوهرية في النظام الدولي، مؤثرًا في السياسات والاقتصادات العالمية.
السوق: من فكرة اقتصادية إلى قوة مهيمنة
- لطالما كان السوق عنصرًا جوهريًا في المجتمعات البشرية، لكنه لم يتحول إلى الآلية المركزية في الاقتصاد السياسي الدولي إلا مع ظهور الفكر الاقتصادي الليبرالي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
- أدى ذلك إلى انقسامات أيديولوجية حول دور السوق: هل يجب أن يظل حرًا تمامًا أم يتطلب تدخلًا حكوميًا؟ وهل ينبغي أن يقتصر على المجال الاقتصادي أم يمتد ليشمل السياسة والمجتمع؟
- ولا تزال هذه الأسئلة تهيمن على النقاشات السياسية المعاصرة.
إهمال السوق في نظريات العلاقات الدولية
- رغم مركزية السوق في الاقتصاد العالمي، لم تولِ نظريات العلاقات الدولية، باستثناء الماركسية، اهتمامًا كافيًا لدوره كآلية حوكمة في الشؤون الدولية.
- حتى المدرسة الإنجليزية، التي يعتمد عليها هذا البحث، لم تتناول السوق بصفته عنصرًا أساسيًا في النظام الدولي.
- ويعود هذا الإهمال إلى أن معظم الباحثين في العلاقات الدولية لم يدمجوا الاقتصاد في تصورهم للمجتمع الدولي، فيما ركز الاقتصاديون السياسيون الدوليون على التفاعل بين الدول والأسواق، دون اعتبار السوق جزءًا من المؤسسات الأساسية للنظام العالمي.
السوق باعتباره أيديولوجية سياسية
- لا يقتصر مفهوم السوق على كونه إطارًا اقتصاديًا، بل أصبح أيضًا أيديولوجية سياسية تدافع عن كفاءته كآلية للحوكمة، وتبرر استخدامه في توزيع الثروة والدخل.
- وكما يشير الباحث واتسون، فإن هذه الأيديولوجية تسعى إلى "إضفاء الطابع الطبيعي" على مؤسسات السوق، مما يعيق مناقشة بدائل غير سوقية للتوزيع الاقتصادي.
- ومع تقدم العولمة الاقتصادية، ازدادت قوة هذه الأيديولوجية، ما جعل السوق جزءًا من المؤسسات الأساسية للنظام الدولي، إلى جانب مفاهيم مثل القومية والسيادة وتوازن القوى.
لماذا التركيز على السوق وليس التجارة أو الرأسمالية؟
- يتساءل بعض الباحثين: لماذا التركيز على السوق وليس على التجارة أو الرأسمالية؟
- بينما كانت التجارة عنصرًا أساسيًا في الاقتصاد قبل الحداثة، شهد القرن التاسع عشر تحولًا أعمق نحو اقتصاد السوق، حيث لم يعد التكامل الاقتصادي مقتصرًا على التجارة، بل شمل تدفقات الاستثمار والعولمة المالية.
- من ناحية أخرى، تُعد الرأسمالية نظامًا اقتصاديًا أوسع يرتكز على تراكم رأس المال والملكية الخاصة، لكن يرى الباحثون أن صعود اقتصاد السوق، وليس مجرد انتشار الرأسمالية، هو الذي شكّل التحول الجذري في النظام الدولي.
التحول العظيم: كيف أعاد السوق تشكيل العالم؟
- يرى مفكرو الاقتصاد السياسي أن صعود اقتصاد السوق، كما وصفه كارل بولاني بـ"المسعى الطوباوي لليبرالية الاقتصادية لإقامة نظام سوق منظم ذاتيًا"، هو الحدث المركزي الذي أحدث "التحول العظيم"، أولًا في أوروبا ثم في العالم بأسره.
- فمن خلال تكامل الاقتصادات الوطنية، وتعزيز الاستثمارات والعولمة المالية، أصبح السوق القوة المحركة للعلاقات الدولية، مما أدى إلى إعادة تشكيل النظام العالمي بطرق غير مسبوقة.
خلاصة القول:
- لقد شكّل صعود اقتصاد السوق نقطة تحول كبرى في التاريخ الحديث، حيث تجاوز كونه مجرد آلية اقتصادية ليصبح مبدأً حاكمًا يمتد تأثيره إلى السياسة والمجتمع والعلاقات الدولية.
- وكما أوضح باري بوزان وروبرت فالكنر، فإن السوق لم يعد مجرد وسيلة لتنظيم النشاط الاقتصادي، بل تحول إلى أيديولوجية مؤثرة أعادت تشكيل أسس النظام الدولي، إلى جانب مفاهيم مثل القومية والسيادة وتوازن القوى.
- ومع استمرار التكامل الاقتصادي العالمي، يظل التساؤل قائمًا حول مدى قدرة السوق على تحقيق التوازن بين الحرية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي.
- فبينما يعزز السوق الحر الابتكار والنمو، فإنه يثير أيضًا تحديات تتعلق بالعدالة التوزيعية وإدارة الأزمات المالية.
- لذا، فإن فهم السوق ليس مجرد مسألة اقتصادية، بل هو جزء أساسي من إدراك طبيعة التحولات التي تشكل عالمنا اليوم.
المصدر: كلية لندن للاقتصاد
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: