قبل اكتشاف أستراليا، اعتقد الأوروبيون لقرون أن طيور البجع دائماً بيضاء، وكان هذا الاعقاد راسخاً لدى الجميع بسبب وجود الكثير من الأدلة الواقعية التي تدعمه. لذلك كان العثور على البجعة السوداء الأولى مفاجأة مدهشة بالنسبة للبعض من علماء الطيور.
هذه القصة ساقها "نسيم طالب" في مقدمة كتابه "البجعة السوداء – تداعيات الأحداث غير المتوقعة" للتدليل على محدودية معارف البشر المستقاة من الملاحظة والتجربة، وللإشارة إلى مدى هشاشة مدارك الإنسان عن الأشياء والأمور.
فمجرد مشاهدة واحدة لبجعة سوداء كانت كفيلة بأن تطيح بمصداقية اعتقاد شائع مبني على مشاهدات البشر لملايين من البجع الأبيض لسنين طويلة. وكل ما احتاج إليه نقض هذا المفهوم هو مجرد وقوع نظر أحدهم على بجعة سوداء واحدة.
ومن هذا المنطلق يؤسس "طالب" لمصطلح يسمى "البجعة السوداء"، وهو عبارة عن حدث يتسم بالصفات الثلاث التالية:
الأولى هي، أنه "عرضي" وذلك لأنه يقع خارج نطاق توقعاتنا المألوفة، حيث لا يوجد أي شيء في الماضي يشير إلى مثل هذا الاحتمال بشكل مقنع. والثانية هي أنه يتضمن تأثيرات بالغة الشدة. أما الثالثة، هي أن طبيعتنا البشرية تجعلنا ننسج تفسيرات لهذا الحدث بعد حدوثه على أرض الواقع، بما يجعله قابلاً للإدراك والتوقع.
حين كان جميع البجع أبيض
- قبل عام 1697 كان المدرسون يعلمون الأطفال الأوروبيين بكل ثقة أن جميع طيور البجع هي بيضاء اللون. ببساطة لم يكن لديهم سبب يذكر للتفكير بشكل آخر، حيث إن كل بجعة رآها هؤلاء في ذلك الوقت كان لها ريش ثلجي.
- لكن مع اكتشاف الهولندي "ويليام دي فلامينجه" لأستراليا، كان من بين المخلوقات التي وجدها هناك على تلك الأراضي طيور ذات ريش أسود بدت له كالبجعة. أجبرت هذه الحادثة الأوروبيين على مراجعة اعتقاد ظل راسخاً لديهم لقرون، وأصبحت البجعة السوداء بعد ذلك أمراً عادياً.
- هذا النمط في التفكير شائع جداً. فليس معنى أنك لم تر بجعة سوداء أنه لا توجد هناك بجعات بذلك اللون. الأمر نفسه بالنسبة للأحداث غير المحتملة التي تبدو مستحيلة الحدوث في المستقبل، ولكن بعد حدوثها يحاول الناس العاديين تفسيرها بأي طريقة لجعلها تبدو منطقية، بينما ينزعج الخبراء من عدم تمكنهم من توقع ذلك الحدث (الذي يبدو واضحاً الآن) وذلك على الرغم من أنه لم يكن ليخطر على بال أحد.
- إذا نظرنا إلى الوراء تاريخياً نجد الكثير من الأمثلة الواضحة التي تنطبق عليها نظرية "البجعة السوداء"، مثل الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهجمات 11 سبتمبر وفقاعة الإنترنت في التسعينيات وانهيار الاتحاد السوفيتي والاختراعات المحورية المهمة مثل محرك الاحتراق الداخلي والكمبيوتر الشخصي والإنترنت. كل هذه الأحداث والاختراعات ظهرت حرفياً بشكل مفاجئ ومباغت للجميع.
- لكن عند النظر إلى المسألة من منظور حديث، يبدو أن أحداث البجعة السوداء المستقبلية وليست الماضية هي التي تستدعي الاهتمام والانتباه لها. حيث إن الوعي بأحداث البجعة السوداء المحتملة (أو ربما التي لا مفر منها) سوف يحسّن من فرص التغلب على تداعياتها في حال وقوعها.
- لذلك بناءً على المعطيات الحالية، ما هي أحداث البجعة السوداء التي يمكن أن تحدث في المستقبل القريب وسيكون لها تأثيرات على نطاق واسع عالمياً؟
انهيار الاتحاد الأوروبي
- مثل تصويت البريطانيين لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي صدمة كبيرة بالنسبة للجميع، ورجح البعض أن يكون ذلك التطور بمثابة انهيار قطعة الدومينو الأولى وبداية انهيار الاتحاد الأوروبي بالشكل الذي نعرفه اليوم.
- هناك عدد من الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي مثل فرنسا وألمانيا تواجه ضغوطاً متزايدة من قوى داخلية من أجل السير على درب بريطانيا وإجراء استفتاءات خاصة بها حول الخروج من الكتلة الأوروبية.
- بما أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو الحدث الأول من نوعه في تاريخ القارة الأوروبية، فإن الحقيقة المجردة هي أنه لا أحد يعرف حقاً ما الذي سيحدث. ومع ذلك توجد هناك احتمالات متزايدة بأن بريطانيا لن تكون آخر المغادرين، وفي حال حدث هذا سيتحول الاتحاد الأوروبي إلى كيان غير قابل للاستمرار بشكل تدريجي.
- من المنظور التجاري، قد يمثل الإفلات من القيود التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على أعضائه فرصة غير مسبوقة للنمو، ويفسح الطريق أمام إقامة اتفاقات تجارية جديدة مع العديد من الدول، ولكنه في نفس الوقت قد يكون سبباً في انهيار شراكات واتفاقات تم إرساؤها على مدار العقود، وربما من غير الممكن أن تكرر أبداً.
- هذا الحدث قد يقع أو لا يقع، ولكنه سيناريو محتمل وأكبر من أن يتم إغفاله.
أزمة مالية عالمية أخرى
- الاحتمالات الاقتصادية تنقسم إلى فئتين. الأولى هي العددية، وهي الساحة التي يتصدر فيها الاقتصاديون المشهد في المقابلات الحوارية. والتي تجيب على أسئلة من نوعية، هل سينمو الاقتصاد الأمريكي بنسبة 1.6% أو 1.8% خلال العام المقبل؟ هل سيخفض بنك إنجلترا معدل الفائدة إلى الصفر أو سيحافظ عليها عند 0.25%؟
- الفئة الثانية هي الاحتمالات الثنائية. تشغيل أو إيقاف، حرب أو لا حرب أزمة أو لا أزمة. هذه الفئة عادة ما تحصل على اهتمام أقل من الجميع، لأنها على الرغم من أن تداعياتها السلبية كبيرة وكارثية إلا أن احتمال وقوعها يكون في الغالب ضئيلا جداً.
- بعد أزمة 2008 قامت العديد من البنوك المركزية أثناء سعيها لتجنب دخول اقتصاداتها في كساد كبير بتدشين برامج للتيسير الكمي لم يسبق لها مثيل، ولا تزال الآثار طويلة الأجل لهذه الإستراتيجية غير معروفة، ولا يعلم أحد على وجه اليقين ما إذا كانت ستتسبب في "بجعة سوداء" جديدة في المستقبل أو لا.
- الديون العالمية هي الأخرى وصلت إلى 217 تريليون دولار، ولا يوجد حتى الآن أي مساع جادة للتفكير في كيفية التعامل مع هذا الكم غير المسبوق من الديون في حال تحولت الأمور إلى الأسوأ، وذلك لأن الجميع مجدداً يعتقد أن المسألة تحت السيطرة.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}