غالباً ما يرتبط تاريخ كل عصر من العصور بسلعة معينة. فالقرن الثامن عشر، كان عصر السكر بامتياز، حيث كان السباق على زراعة قصب السكر في جزر الهند الغربية، هو "السبب الرئيسي في الحركة السريعة التي تثير الكون"، وذلك على حد تعبير الكاتب الفرنسي "جيلوم توماس دي راينال".
في القرن العشرين، كانت السلعة المسيطرة هي النفط، حيث كانت هي المحرك الرئيسي لسلسلة من الأحداث، بداية من قيام الحلفاء بتقسيم الشرق الأوسط عقب الحرب العالمية الأولى، ومروراً بحملة "هتلر" على مملكتي يوغوسلافيا واليونان من أجل السيطرة على آبار النفط في البلقان وبحر قزوين، وانتهاءً بالتوترات الجيوسياسية التي تحيط بالمنطقة العربية الغنية بالذهب الأسود.
في واحد من أهم كتبه على الإطلاق "إمبراطورية القطن: تاريخ عالمي" يوضح أستاذ التاريخ بجامعة هارفارد "سيفن بيكيرت" أن السلعة التي دار في فلكها العالم خلال القرن التاسع عشر، كانت هي القطن.
قبل أقل من عقد من الزمان، كان من الصعب أن يتمكن أي مؤرخ مهتم بصعود الرأسمالية من الحصول على وظيفة بقسم التاريخ بأي جامعة مرموقة، حيث إن أقرب ما كتبه العلماء عن ظروف صعود الرأسمالية حتى ذلك الوقت كان يدور حول تاريخ العمل وقصة الطبقة العاملة.
ثم جاءت أزمة 2008، وظهرت الأبحاث التي تتناول "تاريخ الرأسمالية" فجأة في الدوريات العلمية. ويعتبر كتاب "إمبراطورية القطن" الصادر في عام 2014، هو أهم ما كتب في هذه الزاوية، والتي ظلت مهملة لعقود.
ازدهار فوق جثث الملايين
- "إمبراطورية القطن" عبارة عن عالم يفتقر إلى الرحمة، يوجد به الملايين من العبيد والمزراعين والعمال الذين يعاملون معاملة سيئة، والذين ترجمت معاناتهم على مدى مئات السنين إلى الملابس االتي نرتديها ومجموعة أخرى من المنتجات التي تحتوي على القطن.
- اليوم، يشارك نحو 350 مليون إنسان في زراعة ونقل ونسج وخياطة ومعالجة ألياف هذا النبات.
- حتى بداية القرن التاسع عشر، كانت الغالبية الساحقة من الكميات المزروعة من القطن الخام يتم نسجها على بعد بضعة أميال من المكان المزروعة به، لذلك لم يكن في الأمر مشقة كبيرة بالنسبة للعمال.
- لكن فجأة تغير كل شيء على نحو درامي مع انتشار مزارع الرقيق في أمريكا الجنوبية – شكل من أشكال "التعهيد" ظهر قبل أن تخترع الكلمة أصلاً – حيث رأى القائمون على الصناعة أنهم سيتمكنون من تحقيق أرباح كبيرة إذا تم الاستعانة بهؤلاء.
- ارتكزت كل مرحلة من مراحل تصنيع القطن على العنف. فبمجرد أن ظهرت إمكانات الربح في حقول القطن الجنوبية في ثمانينيات القرن التاسع عشر، ازدادت سرعة نقل العبيد عبر المحيط الأطلسي.
- أصبحت الملابس القطنية نفسها هي السلعة الأكثر الأهمية التي يستخدمها التجار الأوروبيون في شراء العبيد من أفريقيا.
- لاحقاً اكتشف المزارعون أن المناخ وهطول الأمطار جعلا إقليم "الجنوب العميق" بالولايات المتحدة أفضل لزراعة القطن مقارنة مع الولايات الحدودية. على الفور تم نقل ما يقرب من مليون من العبيد قسراً إلى جورجيا والميسيسبي وأماكن أخرى، ليتفرق شمل الآلاف من الأسر خلال هذه العملية. بحلول عام 1850، كان ثلثا القطن الأمريكي يزرع على أراض كانت الولايات المتحدة قد استولت عليها منذ بداية القرن.
- يشير "بيكرت" إلى أن الشخص الذي نظم صفقة شراء الولايات المتحدة لـ"لويزيانا الفرنسية" والتي جعلت الكثير من ذلك ممكناً كان هو البريطاني "توماس بارينج"، وهو واحد من أكبر تجار القطن في العالم.
كيف وضع القطن أمريكا على الخريطة العالمية؟
- قبل مهاجمة القوات الكونفيدرالية قاعدة عسكرية للولايات المتحدة في فورت سومتر بولاية كارولينا الجنوبية في أبريل/نيسان 1861، كان القطن هو العنصر الأساسي في الصناعة التحويلية الأكثر أهمية في العالم.
- نمت صناعة الغزل القطني والقماش لتصبح أعظم صناعة وجدت في التاريخ، وذلك وفقاً لتاجر القطن البريطاني "جون بنجامين سميث" الذي رأى أن العمالة الضخمة وقيمة الإنتاج والربحية جعلت إمبراطورية القطن لا مثيل لها.
- في عام 1862، كان هناك 20 مليون شخص في العالم – أي واحد من بين كل 65 شخصاً على قيد الحياة – يعمل في زراعة القطن أو في إنتاج القماش القطني.
- في إنجلترا وحدها التي تمتلك ثلثي المغازل الميكانيكية الموجودة في العالم بمصانعها، اعتمد ما يتراوح بين خمس وربع السكان على صناعة القطن الذي استثمر بها عشر رأس المال البريطاني، في كسب عيشهم.
- ساعدت الصناعة التي جلبت ثروة كبيرة للمصنعين والتجار الأوروبيين الولايات المتحدة أيضاً على احتلال موقع مهم على الخريطة الاقتصادية العالمية، وبناء أنجح صناعة زراعية في تاريخ البلاد.
- قبل بداية الحرب الأهلية، شكل القطن الخام 61% من قيمة جميع المنتجات الأمريكية المصدرة للخارج. وتجدر الإشارة إلى أنه قبل ازدهار صناعة القطن في ثمانينيات القرن التاسع عشر، كانت أمريكا الشمالية لاعباً واعداً ولكنه هامشي في الاقتصاد العالمي.
- لكن في عام 1861، وجدت بريطانيا العظمى نفسها تعتمد بشكل خطير على الذهب الأبيض الذي يتم شحنه من نيويورك ونيو أورليانز وتشارلستون وغيرها من الموانئ الأمريكية.
- بحلول أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر، شكل القطن المزروع في الولايات المتحدة 77% من القيمة الإجمالية للقطن المستهلك في بريطانيا البالغة قيمته 800 مليون إسترليني، كما شكل 90% من الطلب الفرنسي البالغ 192 مليون إسترليني، و60% من 115 مليون إسترليني من القطن المنسوج في الاتحاد الجمركي الألماني، و92% من القطن المصنع في روسيا البالغة قيمته 102 مليون إسترليني.
- كان السبب وراء الهيمنة الأمريكية السريعة على السوق بسيطا جداً، حيث كانت الولايات المتحدة تمتلك أكبر قدر من الإمدادات من المكونات الثلاثة الحاسمة الداخلة في إنتاج القطن الخام: العمالة والأرض والائتمان.
- خلال الحرب الأهلية الأمريكية أدى الحصار التي فرضته القوات الكونفدرالية على الموانئ الجنوبية إلى "مجاعة القطن" في بريطانيا، الأمر الذي دفعها إلى التوسع في إنتاج القطن في مصر والهند للحيلولة دون انهيار صناعة النسيج.
- مع انتهاء الحرب الأهلية، انخفضت أسعار العقارات في بومباي، حيث ساد القلق بين الجميع مع اتجاه الولايات المتحدة نحو استعادة مكانتها في سوق القطن، السلعة التي سيطرت عليها الهند في فترة من الفترات.
في القرن الـ21... لم يتغير الواقع كثيراً
- بسبب بحثها الدائم عن العمالة الرخيصة، تحولت اليوم معظم زراعة القطن وصناعة الملابس إلى آسيا، القارة التي بدأت فيها هذه السلعة قبل قرون.
- لكن العنف لا يزال حاضراً بشكل كبير في التعامل مع العمالة بهذه الصناعة. ففي أوزبكستان، يعمل حوالي مليوني طفل تحت سن الخامسة عشرة في حصاد القطن كل عام، تماماً مثلما اعتمدت مصانع القطن في بطرسبرج ومانشستر وألزاس في فترة من الفترات على عمل الأطفال المقيمين بدور الأيتام.
- في الصين، يؤدي حظر الحزب الشيوعي الحاكم للنقابات العمالية المستقلة إلى عدم تمكن عمال القطن من المطالبة برفع أجورهم الضئيلة، كما كان الحال في بريطانيا في أوائل القرن التاسع عشر، حين نص القانون على سجن الرجال والنساء الذين يهربون من وظائفهم غير مدفوعة الأجر بسبب خرقهم العقد.
- في عام 2013، فقد أكثر من 1100 عامل معظمهم من عمال الملابس النساء حياتهم في انهيار مبنى رانا بلازا الشهير، بسبب إهمال أرباب عملهم في سلامتهم، مثلمات فعل أولئك الذين أجبروا العمال بمصانع الغزل الألمانية الإسبانية قبل قرن على العمل لمدة 14 و16 ساعة.
- أخيراً يقول "بيكيرت" في عبارة قاسية: "من دون العبودية لم تكن لتحدث الثورة الصناعية" وهي كلمة أقرب للحكمة التي بدت قاسية والتي أظهرت أحد وجوه الرأسمالية الأسوأ في تاريخها.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}