في الرابع من فبراير/شباط عام 1965، ألقى الرئيس الفرنسي، الجنرال "شارل ديجول" خطاباً شن خلاله هجوما كاسحاً على الوضع الخاص الذي يتمتع به الدولار في ظل نظام "بريتون وودز".
قال ديجول: "حقيقة أن دولاً كثيرة تقبل الدولار كمكافئ للذهب، مكنت الولايات المتحدة من اقتراض الأموال من الدول الأجنبية دون مقابل"، وتابع أول رئيس للجمهورية الفرنسية الخامسة هجومه قائلاً "هم في الواقع يدفعون ما يدينون به لهذه البلدان، ولكنهم يدفعون بالدولار .. عملتهم التي يستطيعون طباعتها بالكم الذي يحلو لهم".
وزير مالية فرنسا (ورئيسها لاحقا) "فاليري جيسكار ديستان" انتقد هو الآخر الهيمنة الدولية للدولار، وأطلق العبارة الشهيرة، "الامتياز باهظ الثمن" لوصف الوضع الخاص الذي تمتعت به الولايات المتحدة نتيجة مكانة الدولار في النظام النقدي العالمي.
ورغم انقضاء أكثر من نصف قرن على تلك التصريحات وفك نظام "بريتون وودز" في عام 1971، إلا أن "الامتياز باهظ الثمن" الذي تتمتع به العملة الأمريكية لا يزال مستمراً.
لا جديد .. الدولار مستمر في الهيمنة والعالم مستمر في التذمر
- الانخفاض الحاد الذي شهدته قيمة الدولار عقب انهيار "بريتون وودز"، لم يؤثر أبداً على هيمنة الدولار، وذلك ببساطة لأنه لم يكن هناك بديل عنه. ففرنسا كانت غير مستقرة من الناحية المالية، وبريطانيا كانت في تدهور اقتصادي مستمر، أما ألمانيا فقد حذر بنكها المركزي من الآثار التضخمية لتدفقات رأس المال الأجنبي.
- حتى يومنا هذا لا يزال الدولار الأمريكي يشكل الجزء الأكبر من احتياطيات البنوك المركزية ويسيطر على تعاملات الشركات والمستثمرين وحتى تجار المخدرات في جميع أنحاء العالم. فالدولار ليس فقط العملة الاحتياطية الأولى في العالم وأحد الملاذات الآمنة، ولكنه أيضاً العملة الرئيسية التي تتم بها أغلب المعاملات غير المشروعة.
- استياء بقية العالم من هذا الوضع لا يزال مستمراً أيضاً. قال الرئيس الفرنسي السابق "نيكولا ساركوزي" حين كان يشغل منصب وزير المالية "إن أي دولة تحاول العيش بما يفوق إمكانياتها سوف تضطر إلى تخفيض قيمة عملتها وطباعة المزيد من المال لدفع فاتورتها، وخفض الإنفاق، وتحمل عواقب التضخم الذي سيلي تلك الإجراءات".
- وتابع "ساركوزي" قائلاً: "ولكن الولايات المتحدة لم تضطر أبداً للجوء إلى هذا الخيار المرير، وذلك لأن بقية العالم بحاجة إلى الاستمرار في شراء الدولار من أجل التعامل التجاري فيما بينها".
- الرئيس الصيني السابق "هو جينتاو" قبل أن يقوم بزيارته الأولى إلى الولايات المتحدة في عام 2011، انتقد الوضع الخاص الذي يتمتع به الدولار داخل النظام النقدي العالمي، مشيراً إلى أنه "نتاج الماضي".
الأمر يتجاوز الاقتصاد
- صعود الدولار إلى رتبة العملة الأكثر أهمية في العالم محتلاً مكان الإسترليني الذي لطالما عكس الهيمنة الاقتصادية التاريخية لبريطانيا، لم يكن بطيئاً أو تدريجياً كما يعتقد البعض، بل على العكس، كان سريعاً على نحو مدهش.
- تجاوز الدولار الأمريكي الإسترليني في الأهمية الدولية بحلول عام 1925. ولعبت الحرب العالمية الأولى دوراً كبيراً في ذلك، ولكن كان هناك عامل مهم جداً لا يشار إليه كثيراً.
- تجاوزت أمريكا بريطانيا لتصبح أكبر قوة اقتصادية في العالم في سبعينيات القرن التاسع عشر، ولكن نظامها المالي كان ضعيفاً، حيث لم يكن باستطاعة بنوكها فتح فروع لها بالخارج، ولم يكن لديها بنك مركزي، وهو ما أثر سلباً على الاعتماد الدولي على الدولار في ذلك الوقت.
- تغيرت الأمور مع إنشاء مجلس الاحتياطي الفيدرالي في عام 1913، مما وفر نوعاً من الاستقرار للنظام المصرفي الأمريكي. وبالتدريج وسّع الفيدرالي نفوذه في النظام المالي العالمي، لتتسارع هجرة النشاط المالي الدولي من لندن إلى نيويورك، ومن الإسترليني إلى الدولار.
- هل سيلقى الدولار نفس مصير الإسترليني؟ هذا سؤال شائع داخل الكثير من الدوائر الجيوسياسية. ففي نهاية المطاف، إنها مسألة وقت فقط قبل أن يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي للصين نظيره لدى الولايات المتحدة.
- لكن ما لا يدركه كثيرون هو أن المكانة الدولية التي يتمتع بها الدولار تعتمد على أكثر بكثير من مجرد الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، حيث إنها في الحقيقة نتاج خليط معقد من العلاقات الإستراتيجية والعسكرية، والقوانين والمؤسسات، وفقاً لما أشار إليه "باري إيتشنجرين" أستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا في بيركلي في كتابه "امتياز باهظ الثمن: صعود وهبوط الدولار ومستقبل النظام المالي العالمي".
- رغم انخفاض حصة أمريكا من الناتج العالمي، إلا أن العالم لا يزال مرتكزاً على الدولار، وهذا ربما يرجع بشكل رئيسي إلى إحجام الأطراف الرئيسية في الحرب العالمية الثانية عن محاولة منافسة الدولار عقب انتهاء الحرب.
- اليابان، رفضت الاستخدام الدولي للين خوفاً من ارتفاع قيمته، وهو ما سيلحق الضرر باقتصادها المعتمد على التصدير. وفي الغرب، أثر وجود الجيش الأحمر الروسي على حدود ألمانيا الغربية سلباً على المارك الألماني. ولكن على أي حال، لطالما اعتبرت ألمانيا دعمها للدولار جزءًا أساسياً من تحالفها العسكري مع أمريكا.
- لا يعتقد "إيتشنجرين" أن الدولار قد يلقى مصير الإسترليني قريباً، وإنما يرجح ظهور نظام "متعدد الأقطاب" للعملات الدولية. فتغير أولويات ألمانيا ومحاولتها الاقتراب أكثر من أوروبا بعيدا عن الولايات المتحدة، يسهم في تعزيز مكانة المنافس الأبرز للدولار وهو: اليورو.
ما هي فرصة اليوان الصيني؟
- وضع الصين وعملتها المحلية اليوم يشبه إلى حد كبير وضع الولايات المتحدة قبل قرن. فالنفوذ الذي يتمتع به اليوان لا يعكس أبداً أهمية ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وذلك لأن الصين مثلها مثل اليابان أحجمت عن تدويل عملتها خوفاً من ارتفاع قيمتها وتأثر صادراتها سلباً.
- الصين بدأت مؤخراً تتخذ بعض الخطوات على طريق تحرير قيمة عملتها، ولكن على الأرجح سيستغرق الأمر عقوداً قبل أن يتمكن اليوان من منافسة الدولار على قيادة النظام المالي العالمي.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}