إذا كانت هناك مسابقة للبلدان صاحبة التاريخ الاقتصادي الأكثر غرابة خلال العقود الستة الماضية، فإن تايوان بالتأكيد سيكون لديها فرصة جيدة في الفوز بها.
لدى تايوان قصة تحول اقتصادي مذهلة يمكن أن تتعلم منها العديد من البلدان النامية الكثير من الدروس. فقد استطاعت الدولة الجزيرة أن تحول نفسها من بلد فقير متلق للمعونات، يتعرض لمضايقات من جانب جارته القوية (الصين) إلى قوة اقتصادية صناعية متطورة.
فبعد أن كانت المساعدات الاقتصادية التي تتلقاها من الولايات المتحدة تشكل وحدها نحو 9% من ناتجها المحلي الإجمالي في عام 1950، أنشأت تايوان في عام 1996 وكالة التنمية الدولية الخاصة بها، والتي تقوم من خلالها بتقديم المساعدات إلى بلدان أخرى كجزء من سياساتها الخارجية. حدث هذا التحول في غضون 4 عقود فقط.
القاعدة الصناعية التي تمتلكها تايوان والبنية التحتية المتطورة والمدن ذات المستوى العالمي والأنفاق التي تشق طريقها داخل الجبال الصخرية وناطحة السحاب الشهيرة "تايبيه 101" – التي وصفت كواحدة من عجائب الدنيا السبع الجديدة – كلها إنجازات تحققت في وقت قصير نسبياً، وتعتبر شهادة على النجاح الاقتصادي والقدرات الهندسية في تايوان.
الحال لم يكن كذلك دائماً
- بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، كانت الزراعة لا تزال تهيمن على الاقتصاد التايواني، حيث كان يعمل أكثر من نصف القوى العاملة في البلاد في القطاع الذي شكل في ذلك الوقت حوالي 44% من الناتج المحلي الإجمالي.
- في عام 1952، كانت تايوان بلدا فقيرا لا يمتلك الكثير من الموارد، يبلغ فيه متوسط الدخل السنوي للفرد 170 دولاراً، متساوية مع الكونغو وزائير، ولكن بحلول عام 2010، ارتفع نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي إلى 35.227 ألف دولار، مقترباً من نظيره في اقتصادات أوروبا الغربية واليابان.
- رغم ذلك، استناداً إلى البنية التحتية القوية التي خلفها الاستعمار الياباني وراءه، والقطاع الزراعي القوي والمساعدات المالية من الولايات المتحدة، نجحت تايوان في توفير الظروف اللازمة لتحقيق انطلاقة اقتصادية.
- نجحت تايوان في إدارة القطاع الزراعي بشكل جيد وهو ما أسهم في خلق فائض في رؤوس الأموال تم توجيهه ناحية القطاع غير الزراعي. ونتيجة لذلك تحولت تايوان من اقتصاد قائم على الزراعة في أواخر الأربعينيات والخمسينيات إلى اقتصاد شبه صناعي في أوائل السبعينيات.
- في عام 1992، وصل الناتج المحلي الإجمالي للبلاد إلى 200 مليار دولار (المرتبة الـ20 عالمياً)، بينما بلغ نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي 10 آلاف دولار (المرتبة الـ25 عالمياً)، ووصل حجم تجارتها الدولية إلى 150 مليار دولار (الـ14 عالمياً)، وارتفعت احتياطيات النقد الأجنبي لديها إلى أكثر من 85 مليار دولار.
التكنولوجيا وخلق القيمة المضافة
- في عام 1976، أرسلت تايوان فريقا من الباحثين والخبراء إلى الولايات المتحدة لتعلم تكنولوجيا الدوائر المتكاملة، وهي الجهود التي مكنت لاحقاً الشركات التايوانية من أن تنتج وحدها بحلول عام 1992 أكثر من 70% من أجهزة الكمبيوتر المصنعة عالمياً، وأدت كذلك لظهور شركات عملاقة مثل "فوكسكون" التي يعرفها القاصي والداني في قطاع التكنولوجيا.
- في التسعينيات، كانت تايوان هي اللاعب العالمي الرئيسي في صناعة أجهزة الكمبيوتر المكتبية، وذلك أولاً من خلال التعاون مع كبرى الشركات في وادي السيليكون، وثانياً عبر الاستفادة من ميزة الإنتاج في الصين حيث تتوافر الأيدي العاملة الرخيصة.
- أسهمت القرارات الحكومية المستنيرة في نجاح تايوان في تثبيت أقدامها على الساحة العالمية كأحد أهم اللاعبين في صناعة تجميع الإلكترونيات، وصناعة الدوائر المتكاملة، وذلك بدعم من النظام التعلمي الذي أنتج كتلة حرجة من المهندسين والعمال المدربين تدريباً جيداً.
- أدت المنافسة الشديدة بين شركات تصنيع أجهزة الكمبيوتر التي تتخذ من تايوان مقراً لها، والتي تمكنت من تحسين قدراتها الهندسية وتقنيات التصنيع، إلى انخفاض أسعار أجهزة الكمبيوتر، لتصبح منتجات سلعية تستخدمها الشركات والمستهلكون بكميات ضخمة في جميع أنحاء العالم.
- ازدهرت صناعة الإلكترونيات في تايوان وتوسعت معها "فوكسكون" لتصبح أكبر مصنع للمكونات الإلكترونية في العالم، مع عائدات سنوية تتجاوز الـ140 مليار دولار، وأكثر من مليون موظف في الصين وحدها.
- يطلق على هذا التحول الاقتصادي المذهل اسم "معجزة تايوان"، وهي في الواقع جزء مما عرف بالنمور الآسيوية الأربعة، جنباً إلى جنب مع كوريا الجنوبية وسنغافورة وهونج كونج، وهي البلدان التي حققت جميعاً قفزات كبيرة في سعيها للتحول ناحية التصنيع خلال العقود الاربعة الأخيرة من القرن الماضي.
لا يوجد في باطن الأرض الكثير لكن الوضع ليس كذلك على السطح
- على الرغم من أنه لا توجد هناك صيغة بسيطة محددة تناسب جميع البلدان، إلا أن هناك مجموعة من السياسات والتوجهات التي يمكن أن تساعد في إحداث تحولات إيجابية في التنمية الاقتصادية لأي بلد.
- لا تمتلك تايوان كميات كبيرة من النفط أو الماس أو الذهب أو أي مورد طبيعي آخر يبرر القفزة الكبيرة التي حققتها في تنميتها الاقتصادية خلال العقود الأخيرة، وسبب ذلك هو أن في عالمنا اليوم لم يعد الأمر يتعلق بما إذا كان البلد يمتلك أو لا يمتلك موارد طبيعية، حيث أصبح سر التقدم هو نوع آخر من الموارد يمتلكه الجميع ولكن القليل من يهتم بتطويره والعناية به، وهو: رأس المال البشري.
- تايوان فهمت هذه الحقيقة، لذلك جعلت الاستثمار في رأس المال البشري أولويتها القصوى، وهو ما ساعدها في "تفريخ" قوى عاملة ماهرة وموهوبة حملت على أكتافها هم تحويل بلادها إلى قوة اقتصادية عالمية.
- خلافاً لدول كثيرة، أدركت تايوان في وقت مبكر جداً أن شعبها هو أثمن مواردها، لذلك عمدت إلى الاستثمار بقوة في التعليم والرعاية الصحية والتدريب المهني. وبفضل قيادة قوية عُرف عنها الكفاءة، ومؤسسات راسخة، استطاعت تايوان بمواردها الضئيلة إدراة أحد أنجح التحولات الاقتصادية في التاريخ، فقط من خلال معرفة كيفية تسخير إمكانات شعبها.
- نتيجة لهذا الاستثمار، هناك فرصة كبيرة لأن يكون الجوال الذي تحمله في جيبك أو حاسوبك الشخصي تم تصنيعه في تايوان أو في مكان آخر مثل الهند أوالصين ولكن عبر شركة تايوانية، مثل "فوكسكون" المصنعة للعديد من منتجات شركات "آبل" و"سيسكو" و"نوكيا" و"توشيبا" و"ديل" وغيرها من كبرى الشركات العالمية.
- السياسات التي انتهجتها قيادة هذا البلد أسهمت في دفع روح المبادرة وإطلاق العنان لإبداع الشعب، الأمر الذي أسهم في التحول نحو الاقتصاد القائم على المعرفة الحديثة.
- في لفتة تبدو متسقة مع كل ما سبق، تمتلك تايوان اليوم عددا متزايدا من المراكز والصروح التكنولوجية مثل "سينشو سسينس" و"إندستريال بارك" و"نيهو سسينس بارك" و"نانكانج سوفتوار بارك".
- اليوم، تفتخر تايوان التي لا تزيد مساحتها كثيراً على 36 ألف كلم مربع بكونها صاحبة الاقتصاد صاحب المرتبة الـ22 عالمياً مع ناتج محلي إجمالي يبلغ 528.55 مليار دولار، بينما بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2011 حوالي 37 ألف دولار، وهو رقم يتساوى مع نظيره لدى دول مثل ألمانيا والدنمارك وبريطانيا.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}