في واحدة من البلدات الإنجليزية يوجد مرعى صغير، يُسمح للجميع بإحضار ماشيتهم إليه. هذا المرعى لا يمتلكه شخص محدد بل يعتبر ملكية عامة، ويمكن لأي فرد أن يجلب إليه أكبر عدد ممكن من الماشية الخاصة به كما يريد.
مع مرور الوقت المزيد من المزارعين يجلبون ماشيتهم إلى هذا المرعى، وذلك لإدراكهم أنه يمكنهم استغلال تلك الأرض دون الحاجة لرعايتها، ولكن مع تزايد أعداد الماشية الموجودة في هذا المرعى، أصبحت الأرض أقل قدرة على دعم نشاط الرعي.
وتظرا لأن الماشية موجودة طوال الوقت في هذا المرعى، فإن العشب الذي يؤكل لا يحصل على فرصة للنمو مرة أخرى، وفي نهاية المطاف يصبح المرعى عارياً بلا عشب وغير صالح للاستعمال. ببساطة، هذا المورد الذي كان غنياً ووفيراً في فترة من الفترات وكان متاحاً للجميع تم استنزافه ولم يعد صالحاً للاستخدام من قبل أي شخص.
يصف هذا السيناريو ظاهرة تسمى "تراجيديا المشاع" أو "مأساة المشاع"، وكان أول من أشار إليها هو "جاريت هاردن" في مقالة نشرها عام 1968 في دورية "نايتشر". وتنص نظريته على أن الأفراد أحياناً يتصرفون وفقا للمصلحة الشخصية لكل منهم ويقومون باستنزاف مورد مشترك على الرغم من إدراكهم أن استنزاف هذا المورد يتعارض مع المصلحة المشتركة للمجموع في المدى الطويل.
المزارعون الأفراد في قصتنا تصرف كل منهم وفقاً لمصلحته الذاتية، لأنه من المفيد لهم جلب أكبر عدد ممكن من الماشية إلى منطقة الرعي. ولكن لأن كل فرد منهم تصرف بهذه الطريقة، فقد عانى الجميع في نهاية المطاف ولم يعد المرعى صالحاً للاستعمال.
كان مقال "هاردن" يستند في الواقع إلى القصة ذاتها، والتي نشرها خبير اقتصادي يدعى "ويليام فورستر لويد" في عام 1833. أخذ هاردن الفكرة وركض معها، ورأى أن هذه مشكلة تواجهها الكثير من المجتمعات، حيث غالباً ما يوجد أفراد يحققون مكاسب مباشرة من استغلال مورد مشترك ولا يواجهون سوى تكلفة ضئيلة جداً.
باختصار، معظم الأفراد والمجتمعات يتخذون قراراتهم بناء على ما سيكسبونه أو سيخسرونه "الآن" وليس على المدى الطويل.
مصائد الأسماك
تعتبر جراند بانكس، واحدة من أغنى مناطق صيد الأسماك في العالم. وتغطي منطقة تبلغ مساحتها نحو 360 ألف كلم مربع في مواجهة الساحل الجنوبي الشرقي لولاية نيوفاوندلاند الكندية. ويتم صيد أكثر من 720 ألف طن متري من الأسماك سنويًا في هذه المنطقة، التي وصفت في فترة من الفترات بأنها مصدر لا نهاية له لأسماك القد.
في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، سمحت التطورات التي شهدتها تكنولوجيا الصيد بصيد كميات ضخمة من سمك القد، وبعد بضعة مواسم، انخفضت أعداد الأسماك، مما اضطر ذلك الصيادين الكنديين إلى الإبحار إلى عمق المحيط للحفاظ على الكميات الكبيرة التي يصطادونها كل موسم.
أسهم تطور تكنولوجيا الصيد مع نمو الطلب على خلفية ارتفاع عدد السكان في تجاوز معدل الصيد معدل تكاثر الأسماك في المنطقة، وهو ما قلل من الغذاء المتاح للناس وكذلك الحيوانات البحرية التي تعتمد في غذائها على تلك الأسماك.
إذا ما انقرضت هذه الأسماك بسبب أنانية الصيادين، فسوف تنهار صناعة صيد الأسماك، وستقل كمية الأغذية المتاحة لسكان المنطقة، وسيخسر الآلاف وظائفهم نتيجة لانهيار الصناعة.
بحلول التسعينيات، انخفضت كميات سمك القد الموجودة في جراند بانكس إلى ما يعادل 10% من مستواها في السبعينيات، لتقوم الحكومة الكندية بفرض حظر على صيد هذا النوع في عام 1992، وهو التحرك الذي رأى كثيرون أنه جاء بعد فوات الأوان، وذلك في ظل تأكيد بعض العلماء على أن النظام البيئي في هذه المنطقة لن يستعيد توازنه مرة أخرى أبداً.
الطرق العامة
تعتبر الطرق العامة مثالاً ممتازاً على الملكية المشتركة بين الكثير من الناس. فكل واحد من هؤلاء لديه مصلحة خاصة يضعها في اعتباره، وهي عادة تكون كيفية الوصول إلى العمل في أسرع وقت ممكن وبسهولة.
لكن عندما يقرر الجميع أن الطرق العامة هي أفضل وسيلة للسفر، ترتبك الطرق وتتباطأ حركة المرور بشكل عام، ويمتلئ الهواء بعوادم السيارات، وتتهالك البنية التحتية للطرق.
من المثير للاهتمام أنه في حال تمت خصخصة تلك الطرق أو فرض رسوم على المارين بها يظهر سيناريو مختلف. فحين يجد السائقون أنفسهم مضطرين لدفع مبلغ معين (خاصة إذا كان أعلى في وقت الذروة) فإن جزءًا غير قليل منهم يفكر في استخدام مسار آخر غير مباشر، أو القيادة في غير أوقات الذروة.
بسبب أن نظام الطرق ملكية عامة، كلما كانت هناك مشكلة في الطريق مثل وجود حفر أو تعطل إشارات المرور أو انقطاع الإضاءة، جميع المستفيدين يريدون أن يتم حل تلك المشاكل، ولكن لا أحد منهم على استعداد لبذل الوقت والمال لإصلاحها بنفسه، لأنه دائماً ما يفكر بهذه الطريقة: لماذا أدفع 100% من تكلفة شيء سأكون مجرد 0.0001% من المنتفعين به.
في وضع مثل هذا، ما يحدث هو كالتالي: تدفع الحكومة للمقاولين باستخدام أموال دافعي الضرائب (الذين لا تقود أغلبيتهم الساحقة على تلك الطرق وربما لن يفعلوا ذلك أبداً) لإصلاح المشكلة التي تؤثر على شريحة صغيرة من السكان.
البشر والحاجة للتعلم من البيكتريا
كيف تتجنب المجتمعات تراجيديا المشاع؟ حسناً، الطبيعة وتحديداً البيولوجيا، تقدم حلاً لهذه الظاهرة منذ ملايين السنين، قبل ظهور البشر على الأرض.
في عدد مجلة "ساينس" الصادر بتاريخ 12 أكتوبر/تشرين الأول عام 2012، ساق 3 باحثين هم: "أجاي دانديكار" و"سودها تشوجاني" و"بيتر جرينبرج"، مثالاً على كيفية تغلب البيكتريا المعروفة باسم "بسيودوموناس أيروجينوسا" على هذه الظاهرة.
تنمو هذه البيكتريا في مستعمرات، يتواصل خلالها الأفراد فيما بينهم ضمن نظام تنبيه واستجابة مرتبط بالكثافة العددية يسمى "استشعار النِّصَاب". وتستخدم البيكتريا هذا الاستشعار من أجل التوليد والتحكم في إنتاج السلع العامة.
حين ترغب هذه البيكتريا في إنتاج إنزيم لتكسير المواد الغذائية المتاحة (على سبيل المثال بروتين الحليب) وتحويلها إلى مادة سهلة الامتصاص بحيث يمكن للجميع استخدامها كغذاء، لا يمكن لأي بيكتريا إنتاج هذا الإنزيم بمفردها، فهناك حاجة إلى نصاب يجب اكتماله، وتتمكن البيكتريا من جمع النصاب عبر إرسال أنواع مختلفة من الجزيئات كإشارات تتبادلها فيما بينها، تسمى "الجزيئات الإشارية".
تفرز البيكتريا التي تستشعر النصاب جزيئات إشارية، ولأن هناك احتمالا ضعيفا بأن تتحسس البيكتريا المحفز الذي أفرزته بنفسها، فلا بد من أن تتصادم الخلية بالجزيئات الإشارية التي أفرزتها خلايا أخرى غيرها موجودة معها في نفس الوسط، لينتج الإنزيم. وبذلك تعمل جموع البيكتريا ككائن واحد متعدد الخلايا، أكثر عدوانية وأكثر قدرة على الحركة.
الآن، تخيل وجود خلية متحولة (طفرة) لا تستجيب لنظام الاستشعار، أي أنها لا تشارك في إنتاج الإنزيم، وبالتالي تستفيد منه دون أن تشارك في صنعه وتحصل على منفعة شخصية على حساب الآخرين، ولذلك تسمى "غشاشة". وفي ظل قدرة هذه الطفرة على التكاثر ذاتياً وتوليد أعداد أكبر منها قد تتجاوز الخلايا الطبيعية، فقد يتحول الأمر في نهاية المطاف إلى "تراجيديا المشاع".
إذا لم تتم السيطرة على أعداد الخلايا المتحولة "الغشاشة" فقد تتمكن من التسبب في الفوضى والسيطرة على المستعمرة. من هنا لاحظ الباحثون الثلاثة أن البيكتريا لديها آلية تصحيح ملفتة لهذا الوضع.
الجزيء الذي ينظم عملية إنتاج الإنزيم هو نفسه الذي يمكنه التعامل مع الأدينوزين في الخلايا العادية، وهو ما لا يقوم به في الخلايا المتحولة. بذلك تسمح هذه الآلية للخلايا المشاركة في الإنتاج بالنمو، وتحاصر "الغشاشين".
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}