نبض أرقام
02:09
توقيت مكة المكرمة

2024/08/25
2024/08/24

لماذا لا أدفع بطفلي ذي الـ6 سنوات إلى سوق العمل؟ .. الوجه الآخر للحمائية

2017/12/09 أرقام - خاص

طفلي البالغ من العمر 6 سنوات، يعيش معي، أكفله وأتحمل كافة مصاريفه، ولكنه قادر تماماً على كسب لقمة عيشه. ففي النهاية، هناك بالفعل الملايين من الأطفال ممن هم في نفس سنه يعملون في الكثير من البلدان الفقيرة.
 

وفي حقيقة الأمر، إن طفلي بحاجة إلى أن يتعرض للمنافسة إذا أردته أن يصبح شخصًا أكثر إنتاجية. وكلما زادت حدة المنافسة التي يواجهها وكلما كان التعرض لها مبكرًا، كان ذلك أفضل لمستقبله. لذلك يجب علي أن أجعله يترك مدرسته ويبحث عن وظيفة.




الأغلبية الساحقة بمجرد أن تقرأ ما طرح بالأعلى ستقول إنها "قسوة وجنون وقصر نظر". فإذا كنت أدفع بطفلي إلى سوق العمل الآن، فلن يصبح أكثر من مجرد ماسح للأحذية أو بائع متجول، ولن تكون لديه فرصة ولو صغيرة كي يصبح جراحاً للمخ أو متخصصًا بالفيزياء النووية.

 

وسيقولون من وجهة نظر مادية بحتة، إنه من الحكمة أن أقوم بالاستثمار في تعليمه، لأنه سيكون له عوائد مستقبلية أعلى من المال الذي سأوفره إذا جعلته يترك المدرسة.
 

المثال السابق، ساقه أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة كامبريدج "ها جون تشانج" للإشارة إلى أن نفس هذا المنطق السخيف يستخدمه الكثير من الاقتصاديين المؤيدين للتجارة الحرة في تبرير ضرورة تحرير التجارة والانفتاح الاقتصادي بشكل سريع في البلدان النامية.
 

يشير هؤلاء الاقتصاديون إلى أن المنتجين في البلدان النامية بحاجة للتعرض لأقصى قدر من المنافسة، ليكون لديهم أقصى حافز لزيادة الإنتاجية، مؤكدين على أنه كلما كان التعرض للمنافسة أسرع كان ذلك أفضل للتنمية الاقتصادية.



 

- ولكن، مثلما يحتاج الأطفال إلى الرعاية قبل أن يتمكنوا من المنافسة في الوظائف ذات الإنتاجية العالية، تحتاج الصناعات في الدول النامية إلى الحماية من المنتجين الأجانب الأكثر تفوقاً حتى تستطيع الوقوف على قدميها، حيث يجب توفير الحماية والدعم الحكومي وأشكال المساعدة الأخرى لهذه الصناعات حتى تتمكن من إتقان التكنولوجيا المتقدمة وبناء مؤسسات فاعلة.

 

الكوريون وصناعة السفن
 

- في أواخر الستينيات، حث الديكتاتور العسكري في كوريا الجنوبية "باك تشونج هي" الشركة المُصنعة لسيارات "هيونداي" على البدء فوراً في بناء السفن، وذلك في محاولة للاستفادة من ارتفاع الطلب العالمي على ناقلات النفط.

 

- المشكلة هي أن كوريا الجنوبية لم يكن لديها في ذلك الوقت أي خبرة في صناعة السفن، ولم تكن تمتلك  أحواضا حتى لبناء السفن. ولكن الحكومة قامت من جانبها بتوفير حماية كبيرة للصناعة الوليدة من المنافسة الأجنبية، إلى جانب كافة أشكال الدعم لـ"هيونداي" وشركات أخرى، وشجعتهم على التصدير.



- سابق الكوريون الزمن، حيث كان بناء أحواض السفن يسير جنباً إلى جنب مع بناء السفن، وفي البداية كان الأمر في غاية الصعوبة، فنتيجة لافتقارهم إلى الخبرة كان من الممكن أن يتسبب خطأ صغير في تفكيك السفينة وإعادة تركيبها مرة أخرى.

 

- على الرغم من هذه الانتكاسات، بعد عامين فقط من تدشين الصناعة تم تسليم الطلبيات الأولية في موعدها المحدد. واليوم، تمتلك كوريا الجنوبية ثلاثًا من أكبر شركات بناء السفن في العالم.

 

- منذ قرون ويستمر الجدال بين الاقتصاديين حول ما إذا كانت الصناعات الوليدة، مثل صناعة السفن في كوريا الجنوبية، يمكن أن تستفيد من الحماية التجارية المؤقتة.

 

- تُعرف هذه الفكرة باسم "حجة الصناعات الوليدة"، والتي صاغها "ألكسندر هاميلتون" – أحد الأباء المؤسسين للولايات المتحدة – أثناء دعوته لحماية الصناعة الأمريكية من القوة الصناعية البريطانية.

 

- على مر السنين، حاولت الكثير من الحكومات حماية قطاعاتها الصناعية من خلال تجربة أشكال مختلفة من الحمائية. فألمانيا والولايات المتحدة، القوتان الصناعيتان البارزتان خلال أواخر القرن التاسع عشر فرضتا في مراحل مختلفة أشكالا متنوعة من الحمائية. وكذلك الصين صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، والتي تعتبر المثال الأكثر حداثة.
 

حصار بريطانيا من جانب "نابليون"
 

تاريخياً، برزت الحمائية التجارية كسياسة اقتصادية لأول مرة، خلال الحصار التجاري الذي فرضه "نابليون" على بريطانيا في عام 1806.

 

في أوقات الحرب، عادة ما تحاصر البلدان موانئ بعضها البعض كنوع من العقوبات الاقتصادية. ولكن "نابليون" كان يفتقر إلى القوة البحرية لتنفيذ ذلك الحصار على الموانئ البريطانية، لذلك عمد إلى استخدام نفوذه على بقية أوروبا لمحاولة منع البضائع البريطانية من دخول الموانئ الخارجية.

 

بالفعل، أغلقت كافة الموانئ أمام البضائع البريطانية، وكان الجيش الفرنسي نشطاً في فرض الحصار على طول الساحل الأوروبي. ولكن رغم ذلك لم تتوقف حركة التجارة بين بريطانيا وبقية القارة بشكل تام، بل تم تهريب السلع البريطانية إلى فرنسا نفسها عبر موانئ خارج نفوذ الإمبراطورية الفرنسية كانت لا تزال مفتوحة للتجارة مع البريطانيين.



رغم دخول السلع البريطانية إلى الأراضي الفرنسية بسبب أن الحصار لم يكن محكماً كما أراد "نابليون" إلا أنها أصبحت أكثر تكلفة بالنسبة لبعض المناطق الفرنسية، بسبب كونها مهربة.

 

في ذلك الوقت، كان الغزل القطني الميكانيكي تكنولوجيا جديدة لم تعتمدها المغازل الفرنسية على نطاق واسع قبل الحروب النابليونية. وبسبب هذا التأخر التكنولوجي، كانت الشركات الفرنسية تنتج خيوطا قطنية يقترب سعرها من ضعف سعر نظيرتها البريطانية.

 

بعد اختراع البريطانيين لمغزل "جيني" في أواخر القرن الثامن عشر، أصبح القطن صناعة ذات أهمية كبيرة، وأدت التكنولوجيا الجديدة إلى زيادات هائلة في الإنتاجية، وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسية لهيمنة بريطانيا على هذه الصناعة.
 

ما الذي حدث للفرنسيين بعد أن مُنعت عنهم المنتجات البريطانية؟
 

- في ظل الحصار المفروض من جانب "نابليون" على التجارة مع بريطانيا، ظهرت الحاجة إلى تطوير صناعة الغزل الفرنسية، لذلك أرسل رجال الأعمال ومسؤولون بالحكومة الفرنسية جواسيس صناعيين إلى بريطانيا لنسخ الآلات التي لا يمكن تصديرها بسبب الحظر الحكومي.

 

- خلال فترة الحصار الذي استمر لتسع سنوات، تضاعفت قدرة فرنسا على إنتاج الخيوط القطنية باستخدام التكنولوجيا الحديثة أربع مرات. واللافت للانتباه، هو أن حجم التطور كان متفاوتاً بين المناطق المختلفة في فرنسا.

 

- فالمناطق التي شهدت حماية كبيرة من السلع البريطانية، كانت هي الأكثر تطوراً في صناعة الغزل، في حين أفلست الشركات الموجودة في المناطق المحيطة بالحدود الإسبانية، والتي تصل إليها المنتجات البريطانية بسهولة أكبر، بسبب التمرد الإسباني ضد الحكم النابليوني.

 

- لكن عند محاولة دراسة مدى فاعلية "حجة الصناعات الوليدة"، نحن لا نريد فقط أن نعرف كيف ازدهرت صناعة الغزل القطني الفرنسية خلال الحصار، وإنما نرغب أيضًا في تقييم ما إذا كانت هذه الصناعة أصبحت قادرة على المنافسة بعد انتهاء الحصار وعودة حركة التجارة مع بريطانيا إلى طبيعتها.



- تشير دراسة أعدتها الأستاذ المساعد بقسم الاقتصاد بجامعة كولومبيا "ريكا جوهاش" إلى أن الحمائية غير المقصودة التي تمتعت بها فرنسا خلال الحصار كانت لها آثار طويلة الأمد على المستوى الأقليمي، حيث ظلت الأماكن التي زادت قدراتها التكنولوجية خلال الحصار، مراكز مهمة للغزل القطني لـ25 عاماً لاحقة.

 

- كما أصبحت الشركات الموجودة في تلك المناطق أكثر إنتاجية على المدى الطويل، وازدادت الصادرات الفرنسية من السلع القطنية بعد انتهاء الحروب النابليونية، وبدأت في اقتسام السوق مع نظيرتها البريطانية، مما يدل على أن الصناعة أصبحت قادرة على المنافسة الدولية بعد انتهاء فترة الحمائية المؤقتة.
 

العدل وليس المساواة
 

- تاريخ البلدان الغنية، والبيانات الاقتصادية الخاصة بالبلدان النامية يوصلان إلى نفس الاستنتاج، وهو أن التنمية الاقتصادية، تتطلب فرض تعريفات جمركية وتنظيم الاستثمار الأجنبي وتساهل قوانين حقوق الملكية الفكرية، وغيرها من السياسات التي تساعد المنتجين في البلدان النامية على بناء قدراتهم الإنتاجية. وبالتالي، فإن الساحة الاقتصادية الدولية ينبغي أن تميل لصالح الدول الفقيرة من خلال السماح لها بحرية استخدام تلك السياسات.

 

- إمالة الساحة هو ليس فقط من قبيل العدالة، ولكنه يساعد أيضًا البلدان النامية على النمو بشكل أسرع. وبما أن النمو السريع في البلدان النامية يعني زيادة حركة التجارة والمزيد من فرص الاستثمار، فإن ذلك سيصب كذلك في مصلحة الدول الغنية أيضًا.



- أخيراً، أحد أهم الأسباب التي قد تؤدي إلى فشل الإجراءات الحمائية في مساعدة الصناعات الوليدة على النمو، هو سيطرة المصالح الخاصة على القرار السياسي وهو ما يؤدي إلى تطبيق هذه السياسات على القطاعات الخطأ، بمعنى ألا يتم تخصيص موارد البلد للقطاعات التي تتمتع بإمكانات نمو عالية، وإنما يتم توجيهها نحو قطاعات لا يمتلك الاقتصاد مقومات التطور فيها، ولا يمكنه الاستمرار في المنافسة بها في المستقبل، ليرتبط وجودها إلى الأبد بالحماية ودعم الحكوميين، وتختفي بمجرد أن ترفع الحكومة يدها عنها.

تعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

{{Comments.indexOf(comment)+1}}
{{comment.FollowersCount}}
{{comment.CommenterComments}}
loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.

الأكثر قراءة