عندما أُنشئت أول منطقة حديثة للتجارة الحرة في مطار شانون في عام 1959، لم تجذب أنظار الكثيرين من خارج أيرلندا. ولكن هذه الأيام يبدو أن الجميع بات معجبًا بـ"المناطق الاقتصادية الخاصة" التي تقدم مجموعة متنوعة من الحوافز الضريبية والجمركية.
ثلاثة من بين كل أربع دول لديها منطقة اقتصادية خاصة واحدة على الأقل، ويوجد في العالم حاليًا حوالي 4300 منطقة اقتصادية خاصة، ويتم إنشاء المزيد منها طوال الوقت. واليوم أصبح هناك 130 دولة تمتلك مثل هذه المناطق، مقارنة مع 30 دولة فقط في السبعينيات.
الوصفة ليست بهذه السهولة
هناك العديد من قصص النجاح لمناطق اقتصادية خاصة، وربما أشهرها المنطقة الموجودة في مدينة شنتشن الصينية بالقرب من هونج كونج، التي أنشئت في عام 1980، ومكنت القادة الصينيين من تجربة الإصلاحات الاقتصادية التي كان يخشى تنفيذها على مستوى البلاد مرة واحدة.
نجحت شنتشن في جذب آلاف المستثمرين والشركات وأصبحت ساحة اختبار للرأسمالية في الصين، وتحولت من بلدة يسكنها 30 ألف صياد إلى مدينة يقطنها اليوم حوالي 18 مليون شخص، ويعتبرها البعض مسقط رأس المعجزة الاقتصادية الصينية.
غير أن الانتشار السريع لمثل هذه المناطق أظهر أن عددا غير قليل من الحكومات ينظر إليها وكأنها أمر سهل. فالبنسبة لهم، الأمر لا يتطلب سوى إعلان وتخصيص بعض الأراضي وتقديم إعفاءات ضريبية وتسهيلات تنظيمية، وانتهى الأمر!
القصة ليست بهذه السهولة، وإلا ما هو سبب فشل الكثير من المناطق الاقتصادية في أفريقيا، أو في الهند التي فشلت فيها مئات المناطق المماثلة من بينها أكثر من 60 منطقة اقتصادية خاصة في ولاية ماهاراشترا وحدها خلال السنوات القليلة الماضية.
ما لا يدركه البعض هو أن هذه الإجراءات لها تكاليف وإن بدت عكس ذلك. فالحوافز المقدمة لجذب المستثمرين تعني عوائد ضريبية ضائعة (على الأقل في المدى القصير) وقد تتسبب في إحداث تشوهات بجسد الاقتصاد.
بعض هذه المناطق أصبحت ملاذًا لغسل الأموال من خلال عدة طرق من أبرزها التلاعب بفواتير الصادرات. ومن أجل التأكد من أن هذه التكاليف سيتم تعويضها من خلال الوظائف والاستثمارات المتوقعة بالمنطقة، ويجب على الحكومات أن تتعلم من أسباب فشل الكثير من هذه المناطق.
أولًا، ألا تقوم الحكومة بأي شيء سوى تقديم الحوافز المالية، فهي قد تساعد بذلك المنطقة على الوقوف على أقدامها في البداية، غير أنها لا تبني مشروعا مستداما، حيث إن أكثر المناطق الاقتصادية نجاحًا هي تلك التي تتشابك مع الاقتصاد المحلي. فعلى سبيل المثال نجحت كوريا الجنوبية في تعزيز الروابط بين مناطقها الاقتصادية والموردين المحليين.
تحتاج هذه المناطق لربطها بالأسواق العالمية. وتحسين البنية التحتية وهذا الغرض له أثر أكبر على نجاح تلك المناطق مقارنة مع الإعفاءات الضريبية. وهذا عادة ما يتطلب زيادة حجم الإنفاق العام لرفع مستوى الطرق السريعة والسكك الحديدية والموانئ للتعامل مع الزيادة المتوقعة في نشاط الشحن.
غياب هذا النوع من الاستثمار والتركيز فقط على الإعفاءات الضريبية والجمركية كان سبب فشل الكثير من المناطق الاقتصادية الخاصة في أفريقيا، ويتوقع فشل المزيد منها خلال السنوات المقبلة لعدم وجود إمدادات مستقرة من الطاقة أو بسبب بعدها عن الموانئ.
ثانيًا، يجب تحقيق التوازن الصحيح بين الرقابة السياسية الكافية والتحرر من البيروقراطية الحكومية. فالتدخل المبالغ فيه من الحكومات يتسبب في وأد الكثير من هذه المشاريع في مهدها.
قد يكون للاستعانة بأصحاب الخبرة من القطاع الخاص في إدارة هذه المناطق آثار جيدة، كما حدث في الفليبين. ولكن في نفس الوقت التوازن مطلوب، فالأفكار التي تبدو طموحة أكثر من اللازم حول وجود "مدن مستأجرة" أو مناطق تتمتع بسلطة وضع قوانينها الخاصة، قد تكون قريبة جدًا من محاولة إقامة دولة داخل الدولة.
كيف يفعلها الكورييون
تعتبر كوريا الجنوبية مثالًا على الدولة التي أنشأت العديد من المناطق الاقتصادية الخاصة الناجحة، وهو ما جعلها نموذجًا يحتذى به في هذه الزاوية بالنسبة للكثير من الاقتصادات.
في منطقة ماسان للتجارة الحرة – إحدى أنجح المناطق الاقتصادية الكورية – حرصت الحكومة الكورية على تأسيس علاقات متناغمة بين شركات التكنولوجيا العالمية مثل "نوكيا" و"سوني" و"سانيو" و"باناسونيك" وبين الشركات المحلية، مما ساعد على نقل التكنولوجيا المتقدمة والدراية الفنية إلى السوق المحلي وارتفاع معدل التوظيف.
من بين عشرات العوامل التي تسهم في نجاح المناطق الاقتصادية الخاصة في كوريا الجنوبية، تبرز 5 عوامل باعتبارها الأكثر تأثيرًا، وهي المكان المتميز والتوقيت ونظام المحطة الواحدة أو الشباك الواحد لتبسيط الإجراءات وتشجيع كبرى الشركات العالمية، وأخيرا الدعم الحكومي القوي.
الموقع المتميز: من أهم نقاط القوية التي تتمتع بها المناطق الاقتصادية الخاصة في كوريا الجنوبية هي قربها من البنية التحتية ذات الجودة العالية التي تشمل مرافق للنقل والطاقة والاتصالات.
على سبيل المثال، أُسست منطقة ماسان للتجارة الحرة في منطقة تقع على بعد ساعة واحدة بالسيارة من ميناء بوسان ومطار كيمبو، وقريبة كذلك من المناطق الصناعية الأخرى مثل تشانج وون وجوانجيانج ومجمعات الصناعات المتقدمة في مدينة بوسان.
التوقيت: كان التوقيت المناسب سببًا مهمًا في نجاح المناطق الاقتصادية الخاصة بكوريا الجنوبية في جذب أكبر الشركات العالمية. ففي حالة منطقة ماسان، تزامن تطورها في أوائل السبعينيات مع حاجة الشركات اليابانية إلى الانتقال للخارج نتيجة للازدهار الاقتصادي. وبسبب هذا التوقيت المحظوظ، انتقلت العديد من الشركات اليابانية إلى ماسان.
نظام خدمة المحطة الواحدة: العامل الثالث الذي لعب دورًا رئيسيًا في نجاح المناطق الاقتصادية الخاصة في كوريا الجنوبية هو نظام خدمة المحطة الواحدة الذي صاغته الحكومة الكورية من أجل تبسيط الإجراءات أمام المستثمرين.
وفق هذه الآلية، يتم التعامل مع كافة الإجراءات والموافقات التي يحتاج إليها المستثمريون في تلك المناطق من قبل جهة واحدة، تتعاون فيها مصلحتا الجمارك والضرائب وكافة المؤسسات المعنية من أجل تحقيق أقصى قدر من الكفاءة الإدارية.
تشجيع الشركات العالمية: لعبت الشركات العالمية الكبرى دورًا حاسمًا في نجاح المناطق الاقتصادية الخاصة في كوريا الجنوبية. فعلى سبيل المثال، تمت دعوة عدد من الشركات التكنولوجية الشهيرة مثل "نوكيا" الفنلندية و"سوني" و"سانيو" اليابانيتين إلى منطقة ماسان للتجارة الحرة، وهو ما ساهم في تعزيز السمعة العالمية للمنطقة.
الدعم الحكومي القوي: في كوريا الجنوبية تتولى الحكومة المركزية قيادة تطوير وتشغيل المناطق الاقتصادية الخاصة، كما أن دعمها القوي المتمثل في توفير إيجارات غير مكلفة للمنطقة الاقتصادية وتقديم حوافز أخرى مثل الإعفاءات الضريبية، يكفل وجود بيئات استثمارية مناسبة للشركات العالمية.
في منطقة ماسان، تقوم الحكومة الكورية بتأجير المواقع الصناعية بأسعار مخفضة تقترب من حوالي 130 وونا (14 سنتا أمريكيا) للمتر المربع، كما يُسمح للمستأجرين بتجارة السلع والمعدات المستوردة دون الحاجة إلى دفع ضريبة القيمة المضافة.
هناك أيضًا إعفاء ضريبي كبير للشركات الأجنبية المستثمرة في ماسان، حيث إن شركات التصنيع التي تستثمر أكثر من 10 ملايين دولار وشركات التوزيع التي تستثمر أكثر من 5 ملايين دولار، يتم إعفاؤها من ضريبتي الدخل والشركات لمدة 5 سنوات.
غياب دراسات الجدوى يضمن فشل المشروع
إذا كان هناك شيء واحد لا ينبغي على أي دولة تحاول تأسيس مثل هذه المناطق إغفاله، فهو "دراسة الجدوى الاقتصادية" قبل البدء في أي شيء. لأنه من دون إجراء هذه الدراسات، لا يمكن أن تنجح تلك المناطق في تحقيق الأهداف المرجوة، وفي أحسن الأحوال ستتحول إلى ما يشبه المتجر الذي لا يضيف قيمة حقيقية إلى الاقتصاد.
غياب دراسات الجدوى الاقتصادية كان هو سبب فشل الكثير من المناطق الاقتصادية في محتلف أنحاء العالم. فعلى سبيل المثال، في فيتنام، دشنت الحكومة المركزية منطقة اقتصادية خاصة لا أساس لها سوى المصلحة السياسية، ونتيجة لذلك فشلت المنطقة بسبب غياب الخطة والرؤية وعدم وجود دعم حقيقي من الحكومة المركزية.
باختصار، دراسات الجدوى والتخطيط الدقيق، هما أمران حاسمان بشكل لا جدال فيه أثناء محاولة الحكومات تأسيس مناطق اقتصادية خاصة ناجحة.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}