عندما يتم سؤالهم عن وجهة نظرهم حول كيفية التخفيف من وطأة مشكلة الفقر في العالم، ينقسم الاقتصاديون عادة إلى معسكرين. الأول، يعتقد أن المساعدات الخارجية ضرورية لإخراج الناس من فخ الفقر، من خلال مساعدة البلدان الفقيرة على الاستثمار في المجالات الحيوية.
ومن أنصار هذا الرأي "جيفري ساكس" الأستاذ بجامعة كولومبيا، الذي أشار في كتابه "نهاية الفقر" إلى أنه في حال قام العالم الغني بتخصيص ما يعادل 195 مليار دولار سنويًا كمساعدات خارجية للدول الفقيرة خلال الفترة ما بين عامي 2005 و2025 ستنتهي مشكلة الفقر بنهاية تلك الفترة.
لكن على الجانب الآخر، يوجد معسكر آخر لديه آراء ليست أقل صخبًا يعتقد أن كل هذا خطأ، ويرى أن فاعلية المساعدات تشبه بالضبط اللاصق على القدم المكسورة، والذي يعطي الشخص المصاب شعورًا مريحًا بأن شخصًا ما يعتني به، ولكنه رغم ذلك لا يمكنه المشي مرة أخرى. وبحسب هذا الرأي، فإن أسوأ ما يتعلق بالمساعدات، هو أنها تمنع الناس من البحث عن حلولهم الخاصة.
أما بالنسبة لأولئك الذي ليس لديهم آراء محددة بشأن هذه المسألة، ولكنهم في نفس الوقت مهتمون بمعرفة طبيعة مشكلة الفقر، ربما يجدر بهم قراءة كتاب "اقتصاد الفقراء: إعادة نظر جذرية في أساليب مكافحة الفقر".
في كتابهما الحائز على جائزة كتاب العام من قبل "فاينانشيال تايمز" و"جولدمان ساكس" في عام 2011، أوضح الأستاذان بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا "أبهيجت بانرجي" و"إستر دوفلو" من خلال عدد من التجارب الميدانية أن مساعدة الفقراء على الحصول على حياة كريمة هو شيء يمكن تحقيقه، من خلال مجموعة من التغييرات أغلبها بسيط نسبيًا، ولا يحتاج إلى أكوام من المال، لكن بشرط فهم كيفية تفكير الفقراء.
يناقش هذا الكتاب حياة الفقراء في البلدان النامية، وبشكل أكثر تحديدًا، يناقش كيفية اتخاذهم لقراراتهم المتعلقة باستهلاك الغذاء والصحة والتعليم والخدمات المالية وما إلى ذلك.
كما يحاول الكتاب الإجابة عن سؤال لم يطرحه الكثيرون، وهو: ما هي الدوافع التي يتخذ على أساسها الفقراء قراراتهم؟ هل هي من تجعلهم فقراء؟ أم أنهم مضطرون لاتخاذ تلك القرارات لأنهم فقراء؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، استخدم الكاتبان طريقة حديثة في البحث العلمي تسمى "التجربة المنضبطة المعشاة" (RTC) قاما خلالها بإجراء مئات التجارب العشوائية كجزء من عملهما في معمل عبد اللطيف جميل للتطبيقات العملية لمكافحة الفقر. وأعطتهما هذه الطريقة الفرصة لتنفيذ تجارب واسعة النطاق، مصممة لاختبار نظرياتهما.
99 سنتًا في اليوم
- لماذا رغم الجهود المبذولة على مدار عقود ومليارات الدولارات المصروفة وبرامج مكافحة الفقر التي تقترب أعدادها من المئات، وجهود الآلاف من العاملين بالمنظمات والهيئات الإغاثية، لا يزال هناك 865 مليون شخص يعيشون بالكاد على ما يعادل أقل من دولار واحد في اليوم؟
- مشكلة الفقر في العالم تبدو في كثير من الأحيان مستعصية وغير قابلة للحل. فعلى الرغم من ضخامة المساعدات الأجنبية والإنتاج الغذائي العالمي الذي يكفي لإطعام جميع من يعيش على ظهر الكوكب، والتقدم الطبي والتقني الهائل اللذين أحرزهما البشر، لا يزال هناك حوالي 13% من سكان العالم يصارعون من أجل البقاء على قيد الحياة من خلال العيش على ما يعادل حوالي 99 سنتًا في اليوم.
- "تخيل مثلًا الاضطرار إلى العيش في جدة أو الرياض على أقل من 99 سنتًا في اليوم"
- عند هذا المستوى من الكفاف، لا يمكن للفقراء الخروج أبدًا من دائرة الفقر، كما أنه ليس لديهم المعرفة التي يمكن أن تجسد في كثير من الأحيان الفارق بين الحياة والموت، مثل المعلومات والإرشادات الخاصة باللقاحات والمياه النظيفة.
- إن أبسط المرافق والمؤسسات التي تعتبر بمثابة أمر مفروغ منه في الدول الغنية، مثل المصارف ومؤسسات التأمين والمرافق الصحية غير موجودة لدى حوالي 865 مليون شخص "أفقر سكان العالم".
هل نفهم فعلًا العلاقة بين الدخل واستهلاك الغذاء؟
- ركزت أغلب الدراسات السابقة على الدخل بوصفه العامل الرئيسي المحدد لاستهلاك الأغذية والسعرات الحرارية. بيد أن الكاتبين هنا يشيران إلى أن ضعف الدخل ليس هو السبب الرئيسي في مشكلة سوء التغذية التي يعاني منها الملايين في البلدان النامية.
- جهود الحكومات لمساعدة الفقراء تستند إلى حد كبير إلى فكرة أن الفقراء في أمسّ الحاجة إلى الغذاء، وأن الكمية هي ما يهم. وفي الحقيقة إن الدعم الغذائي في كل مكان بالشرق الأوسط: فعلى سبيل المثال، أنفقت مصر 3.8 مليار دولار على دعم الغذاء في عام 2008، أي حوالي 2% من ناتجها المحلي الإجمالي.
- في إندونيسيا، يتم توزيع الأرز بأسعار مدعمة. وفي الكثير من الولايات الهندية يوجد هناك برامج مماثلة. ففي ولاية أوديسا على سبيل المثال، يحق للفقراء الحصول على 55 رطلاً من الأرز شهريًا مقابل روبية واحدة لكل رطل، أي مقابل أقل من 20% من سعر السوق.
- اكتشف الكاتبان أن الكثير من الفقراء حين يرتفع دخلهم أو يحصلون على غذاء مدعم، فهم إما أن يقوموا بإنفاق المال الإضافي على السلع الفاخرة مثل المهرجانات وحفلات الزفاف أو أنهم يستهلكون طعامًا أقل صحية، ولكن له مذاق أفضل.
- يشير الكتاب إلى أن معظم الناس حتى الفقراء جدًا لا يمكن النظر إليهم باعتبارهم ضحايا لفخ سوء التغذية، وذلك لأنه يمكنهم بسهولة تناول الطعام بالقدر الذي يجعلهم منتجين جسديًا، ولكنهم لا يفعلون ذلك. والقصة التالية التي رواها الكتاب أفضل من يوضح هذا.
- "سألنا أوشا مباربك، وهو رجل التقيناه في إحدى القرى النائية بالمغرب، ماذا سيفعل لو أصبح لديه المزيد من المال؟ قال إنه سيشتري المزيد من الطعام. ثم سألناه، ماذا لو أصبح لديه مال أكثر ذلك؟ قال إنه سيشتري أطعمة ذات مذاق أفضل. وبعد أن شعرنا للحظة بالأسى لأجله ولأسرته، لاحظنا تلفزيونا ومكيفًا للهواء ومشغل أقراص (DVD) في الغرفة التي كنا نجلس بها، وسألناه لماذا اشترى كل هذه الأشياء إذا كان يشعر أن أسرته ليس لديها ما يكفي من الطعام. فضحك وقال "أوه، ولكن التلفزيون أكثر أهمية من الطعام!"
- الكثير من الفقراء لا يتضورون جوعًا، ولكنهم يختارون إنفاق أموالهم على أولويات أخرى. ولذلك يتعين على خبراء التنمية وصناع السياسات تغيير الطريقة التي يفكرون بها حول الجوع، كما يتعين على الحكومات التوقف عن الاستسهال ووقف الأموال المتدفقة إلى برامج فاشلة والتركيز بدلا من ذلك على إيجاد طرق جديدة لتحسين حياة الفقراء تحسينًا حقيقيًا.
كيف يفكرون؟
- فيما يتعلق بالصحة، يقول "جيفري ساكس" إن المشكلة هي أن الفقراء ليس لديهم المال الذي يمكنهم من زيارة الطبيب، كما أنهم يفتقرون إلى المرافق الطبية القريبة من مقر إقامتهم، مما يسبب مشاكل صحية صغيرة، تتفاقم مع الوقت وتصبح كبيرة.
- لكنّ الكاتبين هنا على الرغم من اعترافهما بأن المال وإمكانية الوصول إليه تحديان رئيسييان، إلا أن القصة غير مكتملة.
- "جزء غير قليل من التقنيات الصحية والعلاجات رخيص جدًا بحيث يمكن للجميع حتى الفقراء جدًا تحمل تكلفته. فالرضاعة الطبيعية على سبيل المثال لا تكلف أي شيء على الإطلاق، ورغم ذلك فإن أقل من 40% من الرضع في العالم يحصلون على رضاعة طبيعية لمدة 6 أشهر فقط".
- زجاجة الكلور ثمنها 0.18 دولار وتدوم لشهر تقريبًا، واستخدامها يمكن أن يقلل الإسهال لدى الأطفال بنسبة تصل إلى 48% تقريبًا، ورغم ذلك فإن 10% من السكان هم من يستخدمون الكلور لمعالجة مياههم.
- أشارت نتائج دراسة أجريت في إندونيسيا إلى أن حصول الرجال على المزيد من الحديد – العنصر الغذائي الرئيسي – يقيهم فقر الدم ويجعلهم قادرين على العمل بجد، وهو ما ينعكس إيجابًا على دخلهم. حيث وجد الباحثون أن تكلفة ما يحتاج إليه الفرد سنويًا من صلصة السمك المحتوية على الحديد تبلغ 6 دولارات، وتنعكس في شكل زيادة بالدخل السنوي للأفراد الذين يعملون لحسابهم الخاص قدرها 40 دولاراً. وهذا في الحقيقة يبدو استثمارًا ممتازًا.
- السؤال الآن: إذا كانت المكاسب واضحة جدًا، لماذا لا يأكل الفقراء بشكل أفضل؟ فتناول طعام صحي في أغلب الأحيان ليس شيئًا مكلفًا. الإجابة على قدر بساطتها إلا أنها مخيفة وكاشفة. هم ببساطة لا يعتقدون أن هذا شيء مهم.
- الأمهات الحوامل في المناطق الفقيرة بالكثير من البلدان النامية يمكن لهن الحصول بسهولة على الملح المعالج باليود المفيد لأطفالهم، والذي تبلغ تكلفة الجرعة الواحدة منه (كل عامين) 51 سنتًا، ولكن الكثير منهن لا يفعل.
- في كينيا، عندما طلبت منظمة غير حكومية من الآباء أن يدفعوا بضعة سنتات من أجل معالجة أطفالهم من الديدان، رفض معظمهم تقريبًا، لأنهم لا يدركون أهمية ذلك، ومن دون قصد حرموا أطفالهم من أرباح إضافية كانوا سيحصلون عليها في المستقبل إذا تمت معالجتهم من هذه الديدان بفضل التحسن المتوقع لإنتاجيتهم.
- أخيرًا، من الزاوية التي ننظر إليها كخبراء وصناع قرار، كثيراً ما نرى عالم الفقراء أرض الفرص الضائعة، ونتساءل لماذا لا يستثمر هؤلاء فيما يجعل حياتهم أفضل بشكل فعلي. ولكن الفقراء من جانبهم غالبًا ما يكونون أكثر تشككا حول الفرص المفترضة وإمكانية حدوث تغيير جذري في حياتهم.
- هم ببساطة يتصرفون كما لو أنهم يعتقدون أن أي تغيير كبير في حياتهم سيتطلب تضحية كبيرة وسيستغرق وقتًا طويلًا. وهذا يفسر لماذا يركزون فقط على اللحظة التي يعيشونها، ويحاولون الاستمتاع بكل يوم وكأنه اليوم الأخير.
- وكما قال القروي المغربي ضاحكًا حين تم سؤاله عن سبب عدم إنفاق دخله الإضافي على الطعام الذي أشار إلى حاجة أسرته إلى المزيد منه "أوه، ولكن التلفزيون أكثر أهمية من الطعام!".
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}