"قد نفشل بطبيعة الحال، ولكننا سنبذل قصارى جهدنا كي تنجح خطتنا الخاصة، حتى لو اتحدت ضدنا جميع القوى الغنية ذات السلطة. سننجح إن شاء الله". هذا ما قاله رئيس الوزراء الماليزي السابق "مهاتير محمد" في أكتوبر/تشرين الأول 1998 بعد شهر واحد فقط من بدء بلاده تنفيذ خطتها الاقتصادية الخاصة عقب رفضها لخطة صندوق النقد الدولي.
من بين جميع البلدان التي تأثرت بالأزمة المالية الآسيوية (1997)، كانت ماليزيا هي الدولة الوحيدة التي رفضت اعتماد برنامج صندوق النقد الدولي. وبالنظر للوراء بعد سنوات، اتضح للجميع أن ماليزيا كانت أكثر من موفقة حين اتخذت هذه الخطوة، ورسمت مسارها الخاص.
ماليزيا تحشد رجالها لشق طريقها
- في عام 1997، انخفضت قيمة الرينجيت الماليزي بنسبة 35%، وتراجعت احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي، وتحطم سوق الأسهم وخسر نصف قيمته، ولكن بدلًا من التوجه إلى صندوق النقد الدولي، (كما فعلت بلدان مثل إندونيسيا وتايلاند وكوريا الجنوبية) شكلت الحكومة الماليزية هيئة وطنية يرأسها رئيس الوزراء هدفها إخراج البلاد من الأزمة.
- في العشرين من ديسمبر/كانون الأول عام 1997، أي بعد أشهر قليلة من اندلاع الأزمة المالية الآسيوية، شكلت الحكومة الماليزية " مجلس العمل الاقتصادي الوطني" (NEAC) بناء على توصية من رئيس معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية الماليزي "نور الدين سوبايى" لوضع خطة عمل استراتيجية لمواجهة الهجوم المالي والاقتصادي الذي تتعرض له البلاد من المضاربين.
- تألف المجلس من كبار المسؤولين الحكوميين بما فيهم رئيس الوزراء "مهاتير محمد" ونائبه، ورؤساء عدد من الوكالات الحكومية الأخرى، وممثلين عن النقابات والشركات والمنظمات المدنية المعنية، بالإضافة إلى عدد من كبار المصرفيين.
- اجتمع أعضاء المجلس الـ26 لمدة ثلاث ساعات يوميا، خمسة أيام في الأسبوع طوال عامي 1998 و1999، ولم يغب "مهاتير محمد" عن أي من هذه الاجتماعات، حضرها جميعًا! بمرور الوقت، تحمل هذا المجلس المسؤولية أكثر من مجلس الوزراء تجاه بعض القضايا الاقتصادية.
- دعا "مهاتير" أيضًا الرئيس السابق لقسم النقد الأجنبي بالبنك المركزي "نور محمد يعقوب" الذي يتمتع بخبرة كبيرة في نشاط وطبيعة أسواق المضاربة. وعقد الرجلان اجتماعات لا تعد ولا تحصى في محاولة للتوصل إلى خطة تحمي ماليزيا من المضاربين، وتلتزم في نفس الوقت بطابع الأسواق المالية الدولية.
- جذب النموذج الصيني الذي كانت تقوم فيه الدولة بالسيطرة على العملة المحلية والسماح للاستثمار الأجنبي بالدخول إلى قطاعات محددة اهتمام أعضاء المجلس. وبعد دراسة متأنية ومناقشات مع رجال أعمال ماليزيين عملوا في الصين، قرر المجلس أن النموذج الصيني هو الأنسب لماليزيا، إذا تم تطبيق بعض التعديلات الطفيفة عليه.
الإمساك بزمام الأمور
- في الأول من سبتمبر/أيلول عام 1998، كشفت ماليزيا عن خطتها الخاصة لمواجهة الأزمة، وتضمنت: فرض ضوابط العملة على حساب رأس المال (وليس على حساب رأس المال الجاري)، وإلغاء التداول على الرينجيت خارج ماليزيا، وتجميد تخارج الأجانب من محافظهم المالية بالسوق الماليزي (قيمتها حوالي 18 مليار دولار) لمدة 12 شهرًا، وربط الرينجيت بالدولار الأمريكي، في محاولة لمنع المضاربة على الرينجيت.
- سياسة ماليزيا الحاسمة وغير التقليدية في إدارة الأزمة، والمتمثلة في ربط الدولار بالرينجيت، أعطت الحكومة مزيدا من السيطرة على سياستها الاقتصادية وحجمت المضاربات على العملة. وفي نفس الوقت نجحت ماليزيا في تجنب خطر أن تصبح قيمة الرينجت مبالغ فيها مع مرور الوقت، كما حدث في الأرجنتين في التسعينيات.
- ثم أجرت ماليزيا عملية إعادة هيكلة، لنظامها المالي. وشملت عملية تحقيق الاستقرار المالي، إنشاء مؤسسات لشراء القروض المتعثرة وإعادة رسملة المؤسسات المالية، ودمج بعضها، وتطوير سوق السندات المحلية.
- في تصريحات لـ"بلومبرج"، قال "سونج سنج وون" الخبير الاقتصادي ببنك "سي آي إم بي" السنغافوري : "لقد قرأ مهاتير المشهد بشكل صحيح في ذلك الوقت. فهو رجل يفهم جيدًا علم النفس، ولذلك لم يخف، لأنه يدرك جيدًا أنه إذا فقد الناس الثقة به وبالبنك المركزي وبالرينجيت، ستنتهي البلاد."
- بعد الإعلان عن هذه الإجراءات تعرض "مهاتير" لانتقادات كثيرة من أنصار مفهوم السوق الحرة، ولكنه رد عليهم في خطاب له بالعام 1999 قائلًا: "نحن في ماليزيا نؤيد نظام السوق الحرة، ولكنه ليس دينًا ندين به، بل هو مجرد نظام اقتصادي وضعه بشر يخطئ ويصيب. نحن نحاول الالتزام به، ولكننا في نفس الوقت لا نرى أي سبب قد يدفعنا لقبول أي شيء يرتبط بهذا النظام حتى لو كنا لا نجني أي فائدة منه".
- في ذات الإطار، صرح "مهاتير" على هامش مؤتمر عقده معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية الماليزي في 25 يناير/كانو الثاني 1999 قائلًا: "إن ماليزيا بفرضها ضوابط على رأس المال، أصبحت أول دولة تضع حقوق الإنسان ورفاهية شعبها قبل مصالحها المالية."
هل تمكنت ماليزيا من فعلها؟
- في حين أن كل البنوك المركزية الآسيوية تقريبًا، قامت برفع أسعار الفائدة تنفيذًا لسياسات صندوق النقد الدولي من أجل الدفاع عن عملاتها بعد أن ألغت ربطها بالدولار، سار المركزي الماليزي في الاتجاه المعاكس وخفض أسعار الفائدة من 11% في يوليو/تموز 1998، إلى 5.5% بحلول أغسطس/آب 1999.
- نجحت ماليزيا في إدارة اقتصادها بنجاح بعيدًا عن صندوق النقد الدولي. وقد حالت سياستها المالية التوسعية دون انغماس الاقتصاد في مزيد من الركود، وتسببت هذه السياسة في تحفيز الاقتصاد مما ساهم في تعزيز الثقة ببنية الاقتصاد الماليزي.
- في خطاب أرسله إلى مؤتمر لصندوق النقد الدولي عقد بهونج كونج في سبتمبر/أيلول 1997 كتب "مهاتير": "نحن نرفض الشائعات التي تشير إلى أن ماليزيا ستسير في طريق المكسيك... ولكننا نعرف الآن سبب هذه الشائعات."
- "نحن نعرف أنه تم التلاعب بالاقتصاد المكسيكي ودفعه نحو التحطم، وأن اقتصادات البلدان النامية الأخرى يمكن أن يتم التلاعب بها أيضًا فجأة لتجبر على الانحناء لمديري الصناديق العظيمين الذين يعتقدون أن بمقدورهم تقرير أي البلدان يجب أن تزدهر، وأيها لا يجب أن تحقق ذلك."
- نجحت خطة "مهاتير" نجاحاً مذهلًا. فبعد أن انكمش اقتصاد البلاد بنسبة 7.5% في عام 1998، انتعش الاقتصاد مرة أخرى في عام 1999 وحقق نمواً بنسبة 5.4%. ولكن النقطة الأهم، هي أنه على عكس تايلاند وإندونيسيا، نجا الماليزيون من إجراءات التقشف المؤلمة التي فرضتها سياسات صندوق النقد على تلك الدول، والتي أفقرت الملايين ودفعت آلاف الشركات إلى الإفلاس.
- لمقارنة الوضع الاقتصادي الماليزي بعد الأزمة مباشرة مع البلدان الآسيوية الأخرى، يمكننا استخدام معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي كمؤشر تقريبي. حيث يبين الجدول التالي التغيرات التي طرأت على معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في البلدان التي أصابتها الأزمة الآسيوية بداية من عام 1995 وحتى 1999.
السنة |
ماليزيا (%) |
إندونيسيا %) |
كوريا (%) |
تايلاند (%) |
1995 |
9.8 |
8.2 |
8.9 |
8.9 |
1996 |
10.0 |
8.0 |
6.8 |
5.9 |
1997 |
7.5 |
4.5 |
5.0 |
(-1.8) |
1998 |
(-7.5) |
(-13.2) |
(-6.7) |
(-10.4) |
1999 |
5.4 |
0.2 |
10.7 |
4.2 |
- يظهر هذا الجدول أن ماليزيا حققت في عام 1999 ثاني أفضل معدل انتعاش اقتصادي بعد كوريا الجنوبية. ويبين أيضًا أن معدل النمو السلبي في ماليزيا خلال عام 1998، كان أقل بكثير من إندونيسيا وتايلاند، وقريبا إلى حد ما من كوريا الجنوبية.
- وصف بنك الاستثمار الأمريكي "ميريل لينش" الانتعاش المالي في ماليزيا بأنه "أحد أكثر الإنجازات الاقتصادية إثارة للإعجاب". أما "داني رودريك" أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة "هارفارد" فقد أشار إلى أنه بالمقارنة مع برامج صندوق النقد الدولي، نجد أن السياسات الماليزية وفرت انتعاشًا أسرع، وشهدت انخفاضات أقل في العمالة ومعدل الأجور الحقيقية، وانتعاش أسرع لسوق الأسهم.
- أما صندوق النقد الدولي فقد اعترف بأن "ماليزيا نجحت في التقدم على البلدان الآسيوية الأخرى المتأزمة فيما يتعلق بصياغة اللوائح الاحترازية وحل مشكلة القروض المتعثرة، واستعادة كفاية رأس المال، وتوطيد أركان قطاعها المصرفي مرة أخرى".
لن تكون على حساب الفقراء
- هذا ربما هو من أبرز مميزات الخطة الماليزية. فعلى عكس ما حدث في البلدان التي تبنت خطة صندوق النقد الدولي والتي تحمل فيها الفقراء تكاليف اجتماعية كبيرة، حرصت الحكومة الماليزية على ألا يتحمل الفقراء تكاليف إجراءاتها الاقتصادية مهما كانت.
- في تصريحات له بالعام 2002، قال "مهاتير": لقد تم انتقادنا بشدة من قبل الدول الغربية، ولكننا لم ننحن لهم أبدًا في أي مجال. لأننا على عكسهم مسؤولون تجاه بلادنا وشعبنا، وبالنسبة لهم، ليست مشكلتهم إذا ما كان شعبنا يعاني، ولكننا مسؤولون منتخبون من قبل الشعب، ومن مسؤوليتنا الحفاظ على أمنه ورفاهيته."
أشارت دراسة أعدها باحثون بجامعة "نيو ساوث ويلز" الأسترالية إلى أن السياسات الماليزية كانت أكثر نجاحاً من تلك الخاصة بصندوق النقد الدولي، لأنها لم تؤثر تأثيرًا كبيرًا على الفقراء، موضحة أن نهج حكومة "مهاتير" كان أكثر إنصافًا. فلم يتم معاقبة الفقراء وإجبارهم على سداد أموال لم يستفد منها سوى الأغنياء.
- كما أكدت الدراسة على أن رفض ماليزيا اعتماد سياسات صندوق النقد الدولي أتاح لها فرصة تقرير مصيرها الاقتصادي، والعمل على حماية مصالحها، والأهم من ذلك، هو إبقاء سلطة صناعة القرار الاقتصادي للبلاد في أيدي أولئك الذين انتخبهم الشعب، وليس في أيدي المؤسسات الدولية.
- في مقابلة أجرتها معه "بلومبرج" قبل عدة أشهر، وتحديدًا في الخامس من يوليو/تموز 2017، قال "مهاتير" أثناء استرجاعه لذكرياته حول تلك الفترة: "عندما نقترض المال منهم، فإن الشرط الذي غالبًا ما يفرضونه، هو أن يكون لهم يد في إدارة اقتصاد البلاد، ومواردها المالية."
- في نهاية ذات المقابلة قال رئيس الوزراء الرابع لماليزيا البالغ من العمر 92 عامًا والذي انُتخب لخمس فترات متتالية تمكنت خلالها ماليزيا من التحول من بلد يعتمد على حقول ومزارع المطاط إلى عملاق اقتصادي: "لا يهمني كثيرًا إذا ما تذكرني الناس أو لا. إذا تذكروني فهذا جيد، وإن لم يفعلوا، لا توجد مشكلة، فأنا ميت على أي حال."
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}