تقريبًا، لا توجد صناعة شهدت تغيرات دراماتيكية في قيادتها العالمية على مر التاريخ مثل صناعة بناء السفن.
في بداية القرن التاسع عشر كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الرائدة في بناء السفن، والتي كانت تصنع في ذلك الوقت من الأخشاب.
وحينما بدأت السفن الحديدية في الظهور عام 1850، سيطرت بريطانيا العظمى على الصناعة (استحوذت على 80% من السوق العالمي في عام 1882) وحافظت على الصدارة حتى عام 1945. ثم تسلمت ألمانيا وبعض الدول الأوروبية الراية بعد الحرب العالمية الثانية.
في الستينيات، أصبحت اليابان اللاعب رقم واحد عالميًا في صناعة السفن، وبعد فترة وجيزة وتحديدًا بداية من عام 1973 بدأت دولة آسيوية لم يكن لها قبل هذه اللحظة أي ذكر حين يأتي الحديث عن الكبار في هذه الصناعة لتزاحم اليابانيين على الصدارة العالمية: كوريا الجنوبية.
من اللاشيء
- قبل عام 1970، كانت صناعة بناء السفن غير موجودة تقريبًا في كوريا الجنوبية. ففي خلال الفترة الممتدة بين عامي 1945 و1970، كان نشاط بناء السفن يقتصر فقط على الشركة الحكومية " كوريا لبناء السفن والهندسة" (KSEC). ولكن مع مطلع السبعينيات، وضعت الحكومة الكورية القطاع أمام ناظريها، وبدأت في التخطيط لكي تصبح البلاد أحد رواد هذا المجال.
- من أجل سد الفجوة الصناعية والتكنولوجية مع الغرب، اتبعت كوريا الجنوبية النموذج الاقتصادي والاجتماعي للدولة التنموية. وبدأت السياسة الاقتصادية للبلاد تتحول بشكل تدريجي من التجارة إلى الصناعة ثم بعد ذلك إلى التكنولوجيا.
- أعدت الحكومة الكورية الجنوبية ما تسمى بالخطط الخمسية، والتي تم خلالها تحديد "الصناعات الاستراتيجية الواعدة" التي تستحق الدعم المالي والتقني من الدولة. وبفضل سيطرتها الكبيرة على القطاع المالي في ذلك الوقت، تمكنت الحكومة من توجيه الأموال الاستثمارية إلى هذه الصناعات.
- ثم مع بدء تحول السياسة الاقتصادية للبلاد من الصناعة إلى التكنولوجيا في بداية الثمانينيات، رفعت كوريا إنفاقها على أنشطة البحث والتطوير بشكل كبير، وهو ما مكنها من تقليص حجم الفجوة الموجودة بينها وبين اليابان. (الدولتان تفتقران إلى الموارد الطبيعية، وبالتالي حرصتا على التركيز على التعليم وتنمية الموارد البشرية).
- دعمت الحكومة المركزية عملية إنشاء قاعدة إمدادات قوية يمكن للصناعة الوليدة الاعتماد عليها. ففي حين أن أحواض السفن الكورية كانت تعتمد اعتمادا كبيرا على المكونات الرئيسية المستوردة خلال السبعينيات حتى منتصف الثمانينيات، تمكنت الصناعة من تأمين ما يتراوح بين 70 و80% من احتياجاتها من السوق المحلي في التسعينيات.
القتال على الحصص السوقية
- على عكس بريطانيا وأوروبا القارية واليابان، التي استندت في توسعها على احتياجات الأساطيل المحلية، كانت الخطط التوسعية لكوريا الجنوبية في هذه الصناعة تعتمد بشكل كبير على سوق التصدير، وهو ما تسبب في اصطدامها بلاعبين عالميين كبار في المجال.
- على مر التاريخ، كلما انتقلت الريادة في صناعة السفن من بلد إلى آخر، تظهر على السطح الصراعات التجارية والسياسات الحمائية. وبسبب مستويات التكاليف المختلفة بين البلدان، كانت هناك دائما نزاعات بين الوافدين الجدد وبين أولئك الذين يحافظون على مكانتهم في صناعة السفن منذ عقود.
- قبل خمسمائة سنة كان الصراع بين الهولنديين والبنادقة، وبعد ذلك بين الأمريكيين والبريطانيين، ثم بين اليابانيين والأوروبيين. أما المعركة الأخيرة فكانت بين الأوروبيين والكوريين. خلال التسعينيات توسعت قدرة بناء السفن في كوريا الجنوبية، ولكن السوق كان آخذا في الانكماش.
- من أجل استغلال هذه القدرات، اضطرت شركات بناء السفن الكورية إلى تقديم تنازلات هائلة في الأسعار، لدرجة دفعت منافسيها الأوروبيين إلى اتهامها بحرق الأسعار. رغم إفلاسها خلال الأزمة الآسيوية، استمرت شركات كورية مثل "هلا" و"ديدونج" في إنتاج السفن وتوسيع حصتها السوقية.
- أدركت شركات صناعة السفن الأوروبية أنه ليس من مصلحتها الاستمرار في منافسة الشركات الكورية بنفس الأسلوب، ولذلك قامت بتغيير نموذج أعمالها، وبدأت تنتقل نحو صناعة اليخوت والقوارب الفاخرة، وهي أسواق ذات قيمة مضافة أعلى وتتطلب معرفة هندسية متطورة.
"هيونداي".. السمكة الكبيرة
- أكبر شركة في مجال صناعة السفن في العالم هي "هيونداي" الكورية. بدأت الشركة التي كانت تعمل حتى ذلك الحين في صناعة السيارات فقط في تشييد أحواض لبناء السفن في أوائل السبعينيات، وذلك رغم افتقارها إلى الخبرة ووجود منافسة سوقية شرسة في ذلك الوقت.
- تحولت الشركة إلى " تشايبول" (مصطلح كوري يعني تكتلا أو ائتلافا تجاريا) ومن البداية اتبعت استراتيجية التكامل الرأسي الأمامي، مدفوعة بشعار "سفننا ومحركاتنا وتصاميمنا الخاصة". ببساطة، ركزت على بناء قدرات متكاملة.
- هناك 3 أسباب تقف وراء النجاح المذهل الذي حققته "هيونداي" في هذا المجال. الأول هو الدور الداعم للحكومة التي وفرت للشركة الائتمان الخارجي الذي تحتاجه وقامت بتطوير البنية التحتية وقدمت ضمانات مالية واسعة من أجل مساعدة الشركة على الفوز بأول عقد لها.
- الثاني، هو استفادة الشركة من المساعدة التقنية الأجنبية، حيث حصلت على تصاميم أحواض بناء السفن والسفن نفسها من شركات أسكتلندية، وعلى الدراية التكنولوجية من شركة كاواساكي اليابانية لبناء السفن. أما الثالث فهو اتباعها لاستراتيجية التكامل الرأسي الأمامي.
- اعتمدت الشركة في البداية على المحركات اليابانية باهظة الثمن، إلى أن قامت في عام 1978 بإنشاء شركة "هيونداي للمحركات والآلات الثقيلة" لكي تقوم بصناعة محركاتها بنفسها. واستفادت بشكل كبير من رأس المال البشري المتاح في الأقسام ذات الصلة داخل الشركة.
- الشركات الكورية بعد أن كانت تعتمد على التكنولوجيا الأجنبية في بداياتها، أصبحت بعد ذلك أكثر نجاحا في استيعاب المعارف المكتسبة للتكنولوجيات الأجنبية، وكانت خطوتها التالية هي بناء مراكز بحثية والاستثمار بكثافة في أنشطة البحث والتطوير.
- على سبيل المثال، تمتلك "هيونداي" مركزا قويا للبحث والتطوير، وهو معهد هيونداي للبحوث البحرية، بينما تمتلك "دايو" معهدا للسفن والمحيطات. أما "سامسونج" فقد أسست في عام 1985 مركز أبحاث يزودها بكافة أشكال التكنولوجيا التي يحتاجها هيكل السفينة وأنظمة الملاحة. وفي عام 1999 أنشأت مركزا لبحوث تكنولوجيا الاتصالات السلكية واللاسلكية.
- تتعاون الشركات الثلاث بشكل كبير مع الجامعات الكورية المتخصصة في هندسة السفن، مثل جامعة سيول الوطنية وجامعة بوسان الوطنية وجامعة إنها، والجامعات ومعاهد البحوث الأجنبية.
- ساهم ذلك في امتلاك كوريا لإمدادات قوية من خريجي هندسة السفن من جامعاتها، وهذا على النقيض من الوضع في اليابان التي قامت جامعاتها بإغلاق العديد من أقسام هندسة السفن لديها بسبب ضعف الإقبال عليها، وذلك رغم امتلاك البلاد لصناعة سفن قوية.
الداخل في مواجهة الخارج
- هناك نقطة ملفتة جدًا حول صناعة السفن الكورية، وهي أن كبرى الشركات المحلية العاملة في هذا المجال كثيرًا ما تتعاون وتصطف إلى جانب بعضها ضد المنافسين الخارجيين، والأمر يصل لدرجة أنهم يتشاركون مع بعضهم خبراتهم التكنولوجية التي اكتسبوها بعد استثمار وقت وأطنان من الأموال.
- أصبحت كوريا الجنوبية رائدة في صناعة السفن العالمية في غضون فترة لا تزيد على 30 عاما، وتمكنت من بناء هذه الصناعة من الصفر. في أوائل السبعينيات كانت حصة البلاد من سوق بناء السفن العالمي لا تتجاوز 2%، ولكن بحلول الألفية الثالثة تمكنت الدولة الآسيوية من الاستحواذ على ما يزيد على ثلث السوق العالمي أو 38% منه.
- أخيرا، التحديات الكبيرة التي تتعرض لها صناعة السفن الكورية خلال السنوات الأخيرة لا يمكنها أن تشكك في النجاح الذي حققته الحكومة والقيادة السياسية للبلد الذي لا يمتلك سوى ثروة بشرية استثمر فيها وراهن عليها في خلق صناعة غيرت مصائر مئات الآلاف من الموطنين، وأزاحت دولا عن صدارة المجال بعد أن ظلت تحتفظ بها لعقود.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}