نبض أرقام
04:12 ص
توقيت مكة المكرمة

2024/11/22
2024/11/21

ماذا لو قررت الدول الحاملة للسندات الأمريكية بيع حيازاتها؟ .. هل سيتدمر الاقتصاد الأمريكي فعلًا؟

2017/03/17 أرقام - خاص

أظهرت البيانات الصادرة عن وزارة الخزانة الأمريكية في مساء الثامن عشر من فبرير/شباط 2018، ارتفاع حيازة السعودية من سندات الخزانة الأمريكية بمقدار 44.6 مليار دولار، لتصل إلى 147.4 مليار دولار بنهاية عام 2017.
 

وفي نفس الوقت، بلغت قيمة حيازة الصين 1.184 تريليون دولار، تلتها كل من اليابان وآيرلندا مع 1.061 تريليون دولار و326.5 مليار دولار على الترتيب.
 

وبشكل عام بلغ إجمالي حيازات الدول الأجنبية من الديون الأمريكية حوالي 6.310 تريليون دولار.
 

البيانات السابقة غالبًا ما ترتبط باعتقاد شائع لدى كثيرين في الدول التي تملك حيازات معتبرة من السندات الأمريكية مفاده أن تلك الدول بامتلاكها لجزء من تلك الديون أصبحت لديها أدوات توفر لها نفوذا سياسيا واقتصاديا على الولايات المتحدة لأنها إذا قررت تصفية حيازتها ستزعزع استقرار الاقتصاد الأمريكي المثقل بالديون وتدفع به نحو الهاوية.
 

 

الدول المالكة للسندات الأمريكية التي بإمكانها -  إذا أرادت – الإقدام على هذه الخطوة، كثيرة، ولكننا في هذا التقرير سنفترض أسوأ سيناريو ممكن: لنفترض أن الصين – أكبر مالك أجنبي لسندات الخزانة الأمريكية – غضبت من واشنطن بسبب دعمها لتايوان مثلًا، وقررت التخلص من حيازتها، وضرب الاقتصاد الأمريكي في أكثر المناطق إيلامًا.
 

خطوة مثل هذه قد تسبب في الواقع في ردود فعل مخيفة. فقيام الصين ببيع الدين الأمريكي من المفترض أن يتسبب في إضعاف قيمة الدولار، والإضرار بثقة المستثمرين بالاقتصاد الأمريكي، وتجعل من الصعب على واشنطن تمويل عجز الموازنة الضخم. ولكن ما مدى واقعية هذا السيناريو؟
 

للإجابة على هذا السؤال، نحتاج إلى الرجوع خطوة إلى الخلف، لنعرف لماذا أقدمت الصين وغيرها من الدول من الأساس على شراء السندات الأمريكية ومن أين حصلت على دولاراتها؟ وذلك من خلال استعراض بعض أساسيات الاقتصاد الكلي.
 

أحلام السياسة وصخرة الاقتصاد
 

- تعتبر الصين أكبر مركز للتصنيع في العالم، واقتصادها قائم بشكل رئيسي على التصدير. ويحصل المصدرون الصينيون على الدولار الأمريكي مقابل بضائعهم المبيعة للولايات المتحدة، ولكنهم يحتاجون إلى اليوان الصيني لدفع أجور عمالهم والاحتفاظ بأموالهم محليًا.

 

- لذلك، يقوم هؤلاء ببيع الدولار الذي يحصلون عليه من الصادرات للحصول على اليوان، ولكن هذا سيؤدي إلى زيادة المعروض من العملة الأمريكية من جهة، ورفع الطلب على اليوان من جهة أخرى. هذا يعني أن اليوان سترتفع قيمته، وهو ما سيضر بتنافسية البضائع الصينية التي ستصبح أغلى.

 

- هنا يتدخل المركزي الصيني للحيلولة دون ارتفاع قيمة اليوان، من خلال شراء الدولار الأمريكي الزائد عن احتياجات المصدرين، ومبادلته باليوان. هذا التدخل يهدف إلى الحفاظ على ندرة الدولار لتظل قيمته أعلى من العملة الصينية. وبهذه الطريقة تبني الصين احتياطياتها الضخمة من النقد الأجنبي.


- اعتبارًا من نوفمبر/تشرين الثاني 2017، بلغ حجم حيازة المركزي الصيني من الدولار الأمريكي 3.1 تريليون دولار، ويشكل اليورو ثاني أكبر شريحة من احتياطيات النقد الأجنبي الصينية.

 

- هذا المخزون الضخم من الدولار الأمريكي، تحتاج الصين لاستثمار جزء منه لكي تكسب على الأقل المعدل الخالي من المخاطر لتتجنب التأثير التضخم. وكغيرها من الدول، وجدت الصين أن سندات الخزانة الأمريكية هي أكثر الاستثمارات المتاحة أمانًا، للحفاظ على قيمة تريليوناتها.

 

- على الرغم من أن هناك الكثير من الخيارات الاستثمارية الشبيهة المتاحة، مثل سندات منطقة اليورو التي تعطي عوائد أفضل من نظيرتها الأمريكية، إلا أن الصين تدرك جيدًا أن استقرار الاستثمار وسلامته لهما الأولوية على أي شيء آخر. فعلى الرغم من تماسكها النسبي إلا أن منطقة اليورو لا تزال غير مستقرة، فلا أحد يستطيع أن يجزم إذا ما كان الاتحاد الأوروبي بشكله الحالي سيظل موجودًا على المدى المتوسط والطويل أو لا.

 

- فئات الأصول الأخرى مثل العقارات والأسهم، وسندات الدول الأخرى، تعتبر أكثر خطورة بكثير من الديون الأمريكية. واحتياطيات البلاد من النقد الأجنبي تتمتع بأهمية إستراتيجية تحول دون المقامرة بها في أصول مالية عالية المخاطر من أجل الحصول على عوائد أعلى.

 

- أحد الأسباب الأخرى التي تدفع الصين إلى شراء السندات الأمريكية، هو الحجم الهائل للعجز التجاري بين البلدين لصالح بكين، والذي بلغ 375.2 مليار دولار في عام 2017، وسندات الخزانة الأمريكية هي أفضل خيار متاح أمام الصين للحفاظ على قيمة مبلغ بهذا الحجم، كما يساهم هذا في تعزيز الجدارة الائتمانية للصين.

 

- باختصار، تعتبر السندات الأمريكية الملاذ الأكثر أمانًا لاحتياطيات الصين من النقد الأجنبي، وهذا من ناحية أخرى يعني أن الصين تقرض الولايات المتحدة، لكي تتمكن الأخيرة من شراء السلع التي تنتجها الأولى.


- بالتالي، ما دام الاقتصاد الصيني يعتمد على التصدير، وامتلاك فائض تجاري ضخم مع الولايات المتحدة، فسوف تستمر احتياطيات الصين من الدولار في التراكم، وستوصل بكين الحفاظ على قيمة تلك الاحتياطيات عبر استثمارها في سندات الخزانة الأمريكية.

 

- الوضع الحالي مربح لكلا الطرفين. فالصين تشتري الديون الأمريكية لتحصل على سوق ضخمة لمنتجاتها، والولايات المتحدة تستفيد في المقابل من الأسعار الاقتصادية للمنتجات الصينية. وبعيدًا عن التنافس السياسي المعروف، يعرف البلدان أنهما (مرغمان أو عن طيب خاطر) يعتمدان على بعضهما البعض.

 

طبيعة عمل سوق السندات.. كيف تختلف عن محال البقالة؟
 

- إذا حاولت الصين التخلص من كامل حيازاتها من سندات الخزانة الأمريكية فستصبح كمن يطلق النار على قدميه، لأن هذا من شأنه التسبب في زيادة المعروض من الدولار الأمريكي، وبالتالي انخفاض قيمته، وارتفاع قيمة اليوان في المقابل، وبالتبعية ارتفاع تكلفة المنتجات الصينية. ولذلك بكين غير مستعدة للقيام بذلك لأنها تدرك مدى كارثيتها بالنسبة لها.

 

- إذا توقفت الصين (أو أي دولة لديها فائض تجاري مع الولايات المتحدة) عن شراء سندات الخزانة الأمريكية، أو حتى بدأت في التخلص من حيازاتها من الدولار الأمريكي، فسيصبح فائضها التجاري عجزًا تجاريًا، وهذا هو آخر شيء يرغب به أي اقتصاد موجه نحو التصدير.

 

- لو افترضنا أن الصين قررت تغليب السياسة على الاقتصاد، والتخلص رغم كل شيء من حيازاتها من السندات الأمريكية،  الأمر ليس بالخطوة الكارثية التي قد يتصورها البعض بالنسبة للاقتصاد الأمريكي، ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى طبيعة عمل سوق السندات.

 

- هكذا يعمل سوق السندات الدولية: على سبيل المثال، تشتري الصين سندات أمريكية لأجل استحقاق 10 سنوات بخصم سعري قدره 2%، أي تدفع 98 دولارًا مقابل كل 100 دولار من القيمة الاسمية. عندما يحين موعد الاستحقاق يحق للصين الحصول على الـ100 دولار، ولكن ما يحدث عادة هو أن الدول المستثمرة بهذه السندات تشتري نفس نوع السندات مرة أخرى، في عملية تعرف باسم "Rollover".

 

- لكن، إذا قررت الصين أنها لم تعد ترغب في حيازة السندات الأمريكية، وأرادت التخلص منها، فلا يوجد أمامها سوى خيارين لا ثالث لهما.

 

- أولًا يمكنها أن تقرر بيع كامل حيازتها بأسعار السوق لمن يرغب في شرائها، ولكن هذا خيار انتحاري وفكرة مجنونة، كونها ستخسر أموالا كثيرة بهذه الطريقة، لأنها لن تنجح في ذلك إلا إذا قدمت خصومات سعرية كبيرة، وهذا يسمى حرق أسعار.


- الطريقة الثانية والخيار الأكثر واقعية هو طريقة الـ"Roll-off" (عكس "Rollover"). حيازات الصين من السندات الأمريكية تشمل سندات بآجال استحقاق مختلفة (عام وعامان وخمسة أعوام و10 أعوام)، ووفق هذه الطريقة، كلما حل موعد استحقاق أي من هذه السندات تقوم الصين بتحصيل القيمة الاسمية ولا تقوم بضخها مرة أخرى في ذات السندات.

 

- إذا تابعت الصين هذا النهج ستستمر قيمة حيازتها في الانخفاض إلى أن تصل إلى الصفر. وهذه الطريقة تفيد الطرفين، لأنها تحافظ للصين على قيمة أموالها، وفي نفس الوقت تعطي الولايات المتحدة المرونة والوقت الكافيين لملء هذا الفراغ. وبالمناسبة هذه هي ذات الطريقة التي يستخدمها الفيدرالي مؤخرًا في تقليص حجم حيازاته من السندات الأمريكية البالغة قيمتها نحو 4.5 تريليون دولار.

 

- بأي شكل ووفق أي سيناريو، لن تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة فجأة لسداد سندات أي دولة مرة واحدة. كل ما في الأمر، هو أن تكلفة إعادة تمويلها لديونها سترتفع، لأن الطلب على سنداتها سينخفض بخروج الصين، وهذا سيمثل مشكلة على المدى الطويل بالنسبة للأمريكيين لأنه لن يكون من السهل العثور على سوق يمتص أكثر من تريليون دولار دون أن يرتفع العائد إلى مستوى غير مرغوب.

 

- المركزي الأمريكي كشف قبل عدة أشهر عن خطته لتقليص حيازاته من السندات الأمريكية التي تتجاوز قيمتها 4 أضعاف حيازة الصين. هل يعني هذا أن الفيدرالي يرغب في الدخول بالاقتصاد في الحائط؟ بالطبع لا. ما سيحدث هو أن الفيدرالي سيتخارج تدريجيًا، ليسمح لمستثمرين آخرين موجودين بالفعل بامتلاك هذه الحيازات، حيث إن الطلب على السندات الأمريكية دائمًا ما فاق المعروض منها.
 

ما هو موقع السعودية من السندات الأمريكية؟

- هناك نقطة أخرى هامة، وهي حجم وطبيعة تكوين سوق السندات الأمريكي. فأغلبية الدين الأمريكي أو نحو 69% منه مملوكة من قبل الأفراد والمؤسسات المحلية الأمريكية. على سبيل المثال، يمتلك مجلس الاحتياطي الفيدرالي وحده 13% من إجمالي السندات الأمريكية.

 

- بشكل عام، تشكل كل دولة أجنبية بمفردها نسبة صغيرة جدًا من حاملي الديون الأمريكية، فعلى سبيل المثال، إجمالي ما تمتلكه الصين من السندات الأمريكية لا يمثل سوى حوالي 5% من إجمالي الدين الأمريكي، و18.7% من ديونها الأجنبية.

 

- هذا بالنسبة للصين. إذا نظرنا للسعودية التي تأتي في المرتبة الـ11 في قائمة أكبر الدول الأجنبية المالكة للسندات الأمريكية مع 147.7 مليار دولار، وهذا المبلغ بالطبع أقل كثيراً بالمقارنة مع حيازة الصين التي تزيد على التريليون دولار.

 

- هذا يقودنا إلى نقطة هامة، وهي عمق واتساع سوق السندات الأمريكي. فعلى سبيل المثال، قامت البنوك المركزية الأجنبية بتخفيض حيازاتها من السندات الأمريكية بنحو 225 مليار دولار في عام 2015، ولم يشعر أحد بشيء، وذلك لأن هذا المبلغ ضئيل بالمقارنة بحجم سوق السندات الأمريكية التي بلغ متوسط التداول اليومي عليها في مارس/آذار 2016 حوالي 502 مليار دولار.

 

- بالتالي، مبلغ مثل هذا يستطيع أي مدير صندوق تحوط إيجاد طريقة لبيعه خلال أقل من عام دون وقوع أي اضطراب يذكر.


- سر الوضع المريح الذي تتمتع به الولايات المتحدة فيما يخص هذه الجزئية، هو: الدولار. الدولار هو العملة الاحتياطية الأهم في العالم، والوقود الرئيسي للتجارة العالمية. كل شيء تقريبًا يتم تسعيره بالورقة الخضراء، وبالتالي إذا قررت الصين أو غيرها التخلي عن حيازاتها من السندات الأمريكية وبالتبعية الدولار، سيكون هناك دائمًا مشترون على استعداد لاستبدال المقاعد.

 

- عندما يتأزم الاقتصاد العالمي – كما حدث قبل سنوات – يلجأ الجميع للاحتماء بالسندات الأمريكية باعتبارها الأكثر أمانًا إلى أن تمر العاصفة. وهذا هو السبب في أنه حتى في ظل الاضطراب الشديد الذي شهدته الولايات المتحدة خلال عامي 2008 و2009، حافظ الدولار على مكانته باعتباره أحد أفضل الملاذات الآمنة.

 

- أخيرًا، لا يستطيع أحد أن ينكر أن إقدام أي دولة على بيع كامل حيازاتها من السندات الأمريكية سيكون له تأثير على الولايات المتحدة، ولكنه بأي حال لن يكون ذلك التأثير المدمر الذي يروج له البعض، وفي الحقيقة إن الكثير من المبالغات المرتبطة بهذه النقطة تميل إلى كونها منطقا شعبويا أو لنقل إنه عاطفي له علاقة بالسياسة وتوازناتها أكثر من علاقته بالاقتصاد وواقعيته.

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.