في تحفته الشهيرة "تاريخ الحرب البيلوبونيزية" قدم لنا المؤرخ الإغريقي "ثوسيديديس" – الذي يعتبره الكثيرون أحد أعظم المؤرخين في التاريخ – سردا تاريخيا للحرب البيلوبونيزية التي وقعت خلال القرن الخامس قبل الميلاد بين إسبرطة من جهة وبين مدينة أثينا من جهة أخرى.
خلال تلك الحرب التي استمرت لنحو 27 عامًا ضربت أثينا حصاراً على جزيرة ميلوس التي التزمت بالحياد طوال الحرب، وقامت بتجويع شعبها حتى الاستسلام، قبل أن يقوموا بذبح رجالها.
الشاهد في هذه الحرب هو الخطاب الذي ألقاه مبعوثو أثينا على أهل الجزيرة خلال المفاوضات، والذي قالوا فيه: "عن أنفسنا لن نتعبكم بادعاءات خادعة- سواء حول حقنا بإمبراطوريتنا لكوننا قمنا بطرد الفرس، أو أننا نقوم بمهاجمتكم لأخطاء وقعتم فيها تجاهنا- ولن نلقي عليكم خطابا طويلاً لن تقوموا بتصديقه على أي حال".
ويكمل الخطاب: "ولكننا نرجو أن تضعوا أعينكم على ما هو ممكن، آخذين بعين الاعتبار موازين القوى بيننا كفريقين. إذ إنكم تعرفون كما نعرف أن الحق كما يقول الواقع، هو بين المتساويين في القوة، فبينما ينتزع الأقوياء ما في وسعهم، يذعن الضعفاء لما يملى عليهم."
هذه الواقعة ساقها وزير المالية اليوناني السابق "يانيس فاروفاكيس" (دامت ولايته لمدة 5 أشهر خلال عام 2015) في مقدمة كتابه "والضعفاء يذعنون كما يملى عليهم" الصادر في عام 2016، ويرى أنها وصف مناسب لما يجري في منطقة اليورو.
كيف بنت اليونان مديوناتها الضخمة
- ما دام استمرت الدول في مباشرة التجارة، سيشهد ميزانها التجاري حالات من عدم التوازن طوال الوقت. فمن المعتاد أن تقوم بعض الدول بتصدير بضائع وخدمات أكثر مما تستورده، ومن الطبيعي أيضًا أن تقوم البلدان التي تعاني من عجز تجاري من تقديم أسعار فائدة أعلى من تلك التي تعرضها الدول التي تمتلك فوائض تجارية.
- تتدفق أنشطة الإقراض المصرفي والاستثمارات عادة نحو البلدان ذات سعر الفائدة المرتفع نسبيًا في عملية يطلق عليها "إعادة تدوير الفائض". ولتوضيح كيف تجري هذه العملية في منطقة اليورو، انظر مثلاً إلى شركات مثل "مرسيدس" و"بي إم دبليو" و"فولكس فاجن".
- هذه الشركات تقوم بإيداع مليارات اليورو التي تحصل عليها من مبيعات سياراتها في البنوك الألمانية، والتي تقوم بدورها لاحقًا في ضخ تلك الأموال في فرص إقراض جذابة. هذه البنوك دائمًا ما فضلت ضخ تلك الأموال في الدول المحاذية: أيرلندا ودول جنوب أوروبا.
- تزامناً مع الظروف الاقتصادية العالمية، ظهرت طفرة في أيرلندا وإسبانيا واليونان، واستعانت هذه الدول بالمليارات الألمانية لتمويل مشاريع بناء الطرق السريعة والسكن والمترو. وفي اليونان بلغ الإنفاق على مشاريع البنية التحتية ذروته خلال دورة الألعاب الأوليمية لعام 2004.
- سارت الأمور على ما يرام بالنسبة لجميع الأطراف إلى أن انهارت بنوك آيسلندا غير العضو بالاتحاد الأوروبي في عام 2008، قبل أن تقوم الحكومة الآيسلندية بتخفيض قيمة العملة المحلية ليسترد اقتصاد البلاد عافيته بسرعة كبيرة.
- في المقابل كانت الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي المعتمدة لليورو لديها خيارات محدودة للتعامل مع الصدمات. فقد وضعت معاهدة "ماستريخت" عملة مشتركة غير قابلة للتخفيض لدول الاتحاد وهي اليورو، وبالتالي لم تعد دول مثل إسبانيا واليونان تمتلك عملات محلية تستطيع تخفيضها.
المعضلة .. ودور الألمان
- الكثيرون يغفلون الدور الذي لعبته البنوك الأوربية في التسبب في ازدهار الديون في الدول المتأزمة. ففي عام 2009، كانت البنوك الألمانية وحدها تمتلك حوالي 704 مليارات يورو من ديون اليونان وأيرلندا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا. وكانت البنوك الألمانية والفرنسية معرضة لخطر الانهيار في حال أفلست اليونان، ولذلك قدمت كل من فرنسا وألمانيا قرضًا لليونان في عام 2010 غير أنه لم يكن كافيًا لحل الأزمة.
- في عام 2012، قدمت باريس ولندن قرضاً آخر لأثينا من خلال شراء سنداتها التي انخفضت قيمتها السوقية لاحقًا بأكثر من 80%. واشترط المقرضون تخصيص الحكومة اليونانية 91% من القرض لسداد كامل ديون البنوك الفرنسية والألمانية.
- صاحب هذا القرض أيضاً مطالبات لليونان بتنفيذ إجراءات تقشف صارمة، دفعت الحكومة اليونانية إلى التخلي عن الوعود التي قطعتها لشعبها في مجالات المعاشات والرعاية الطبية والاجتماعية.
- ثم انهار قرض عام 2012 وانهارت معه الحكومة اليونانية التي وافقت عليه، وقامت لجنة المراقبة الثلاثية (المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي والمفوضية الأووبية) بإيقاف المدفوعات مؤقتًا في انتظار الانتخابات اليونانية، وتم استئناف المدفوعات في 2015.
- معاهدة ماسترخت هي أساس المعضلة اليونانية، وذلك بسبب احتوائها على شرط "عدم الإنقاذ" الذي يمنع المركزي الأوروبي من شطب ديون أعضائه أو تقديم قروض إلى حكومات الدول الأعضاء أو إلى بنوكها المتعسرة. وبالإضافة إلى ذلك، لا يمكن للدول الأعضاء إقراض بعضها البعض.
- يشير "فاروفاكيس" إلى أن ما حدث في ولاية نيفادا الأمريكية في عام 2008 يوضح العناصر الحاسمة التي يفتقدها الاتحاد السياسي والمصرفي لمنطقة اليورو. فعندما عانت الولاية الأمريكية من انهيار سوق العقارات تدخلت الحكومة الفيدرالية وقامت بإعادة رسملة بنوك الولاية، ولم تتركها إلى مصيرها – كما حدث مع اليونان – أو تجبرها على الاقتراض نيابة عن بنوكها من وول ستريت.
- أخيرًا يوضح "فاروفاكيس" أنه لا يمكن إلقاء اللوم بالكامل على مدمني المخدرات، دون تحميل مرويجيها مسؤوليتهم. فبلدان مثل ألمانيا وفرنسا كانت أكثر من سعيدة باستثمار فوائضها التجارية في البلدان الأوروبية الأقل حظاً، وعندما وقعت الأزمة، مُنحت اليونان قروضاً تكفي فقط لسداد ديون الدول الكبرى.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}