في بداية الطفرة الأولى للاكتتابات العامة التي شهدتها الولايات المتحدة في عام 1825، قيل إن رجلاً مات دهساً تحت أقدام المضاربين الذين كانوا يتدافعون في ساحة البورصة من أجل الوصول إلى المقدمة لكي يتمكنوا من شراء أسهم في الاكتتاب العام الخاص ببنك ساوثوورك. ولكن بحلول عام 1829 فقد السهم الذي مات الرجل قبل أن يحصل عليه 25% من قيمته." هذا ما ذكره "بنيامين جراهام" في كتابه "المستثمر الذكي".
تؤثر المشاعر والعواطف على أغلب المشاركين في سوق الأسهم وإن كان ذلك بدرجات مختلفة، وهذا ربما هو السبب في أن أعداد كبيرة منهم تتحمس (بشكل غير منطقي) لأي شيء جديد، وخاصة إذا كان يتم التسويق له باعتباره "فرصة العمر" التي لا يجب أن يفوتها أحد. وهذا ينطبق على الاكتتابات العامة الأولية.
وللأسف، نجد أن الكثير من الهواة والمحترفين على حد سواء يفقدون منطقهم ويطاردون بشكل أعمى أي اكتتاب عام أولي مهما كان، لمجرد رغبتهم في امتلاك الجديد، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الأسهم المكتتب عليها لتتجاوز قيمتها العادلة بكثير.
ما لا تنظر إليه ولا تراه
أولاً وقبل أي شيء هناك حقيقة هامة نحتاج جميعاً إلى إدراكها وهي أن هناك عدم تكافؤ في المعلومات بين المستثمرين الأفراد وبين بائعي هذه الأسهم (البنوك الاستثمارية) لصالح الأخير. فالشركة المطروحة للاكتتاب هي في الأصل شركة خاصة لا يعلم الجمهور بشكل عام الكثير عن أدائها المالي والتشغيلي، وبالتالي لا يمكنه الحكم عليها إلا من خلال ما تقدمه من معلومات في نشرة الاكتتاب.
النقطة الثانية والتي توضح بشكل أكبر التفوق المعلوماتي لجانب على آخر هي التوقيت. أي شركة لن تقوم بطرح أسهمها للاكتتاب العام إلا في التوقيت الذي تعتقد أنه سيكون باستطاعتها فيه الحصول على أفضل سعر للسهم. وكجزء من ذلك السعي تحرص الكثير من الشركات على أن تبدو بياناتها المالية في أفضل صورة في العام أو العامين السابقين على موعد الاكتتاب.
وهذا يفسر سبب أن معظم الاكتتابات العامة الأولية لا تظهر إلا والسوق يأخذ اتجاها تصاعديا. ببساطة، الشركات ترغب في الاستفادة من التفاؤل المسيطر على المستثمرين (ومن جشع بعضهم أيضاً) في سعيها لجمع أكبر قدر من الأموال بأقل تكلفة ممكنة.
الفكرة المسيطرة على عقول كل من يندفع نحو المشاركة في الاكتتابات العامة الأولية، هي رغبته في ركوب القطار من المحطة الأولى أو اقتناص السهم عن أدنى سعر ممكن. ولكن ما لا تدركه الغالبية هو أنه ربما هناك الكثير من الأطراف التي تستثمر بالفعل في الشركة من قبل طرحها للاكتتاب العام.
أنت من قبل أن تسمع حتى باسم الشركة، ربما كانت هناك ثلاث أو أربع جولات تمويل جمعت فيها الشركة أموالاً من استثمارات خاصة بعيداً عن البورصة. وعادة ما يرتفع سعر سهم الشركة مع كل جولة. والأكثر من ذلك، هو أن ما سبق قد يكون هو الغرض الرئيسي من وراء طرح الشركة للاكتتاب العام.
ببساطة، قد ترغب الجهات المستثمرة في الشركة (مستثمرون كبار أو شركات أسهم خاصة أو شركات رأس المال المغامر) في التخارج من الشركة المطروحة للاكتتاب العام، ويبحثون عن من يحل محلهم. وهذا هو السبب في أن معظم الاكتتابات العامة غالباً ما تكون باهظة الثمن.
من المهم أيضاً أن تفهم من الذي يبيع لك. البنوك الاستثمارية أو متعهدو الاكتتابات هم في حقيقة الأمر مندوبو مبيعات مهمتهم ترويج وتغطية الاكتتابات والحصول على أفضل سعر. وبما أن الاكتتابات العامة الأولية لا تحدث إلا مرة واحدة لكل شركة، فغالباً ما يتم الترويج لها من قبل المصرفيين الاستثماريين باعتبارها "الفرصة التي تأتي مرة واحدة في العمر".
مفردات مثل "المستقبل المشرق" و"المكاسب طويلة الأجل" تستخدمها البنوك الاستثمارية أثناء سعيها لإقناع المستثمرين بالمشاركة في الاكتتاب بطريقة تحثك على تصديقها بمجرد سماعها. حاول ألا تقع تحت تأثير هذه العبارات الساحرة، وقم بالتدقيق في البيانات والحقائق الصلبة الموجودة بين يديك، وقرر إذا ما كان هذا الاكتتاب فرصة جيدة فعلاً أم لا.
في خطاب أرسله لمساهمي شركته في عام 1993 كتب "وارن بافيت": " إن المستثمر الذكي يمكنه أن يحقق عوائد أفضل في الأسهم العادية مقارنة مع الأسهم الجديدة المطروحة في اكتتاب عام أولي.. سوق الاكتتابات العامة الأولية يسيطر عليه المساهمون والشركات التي يمكنها عادة تحديد موعد الاكتتاب والتأكد من أن ظروف السوق مواتية".
وقال "بافيت" أيضاً: " من شبه المستحيل رياضياً أن تتخيل أنه من بين آلاف الأسهم المطروحة للبيع في يوم معين، أن الأكثر جاذبية بينهم هو ذلك الذي يبيعه بائع (البنوك الاستثمارية) يتمتع بتفوق معلوماتي لمشتر أقل دراية بأساسيات الشركة المطروحة للاكتتاب العام (المستثمر)".
على أي أساس؟
افهم طبيعة عمل الشركة: إن الاكتتاب العام الأولي يشبه إلى حد كبير حفل الزفاف السريع. فليس لدى المستثمر سوى وقت محدود جداً للتعرف على الشركة المطروحة للاكتتاب، وهذا على خلاف ما يحدث قبل الاستثمار في الشركات المدرجة بالفعل في البورصة، حيث يمكن للمستثمر حينها أن يعقد خطوبة طويلة قبل أن يقرر الاستثمار بها.
الفكرة هي أن الاستثمار بالاكتتابات العامة يتطلب جهداً بحثياً كثيفاً في فترة زمنية قصيرة، وغالباً ما تكون المعلومات والبيانات المالية المتاحة محدودة جداً مقارنة مع تلك الخاصة بالشركة المدرجة بالبورصة. ولكن تبقى هناك معلومات وبيانات تنتظر من يحللها ويفهم دلالاتها.
تجنب عقلية القطيع: لا تشارك في اكتتاب عام فقط لأن السوق متحمس له، بل كن موضوعياً واعلم جيداً أن الاكتتابات العامة المسلط عليها الضوء بشكل كبير غالباً ما ترتبط بمشكلتين رئيسيتين: الأولى هي أن تلك الأسهم تميل إلى كونها مبالغ في تقييمها، والثانية هي جذبها للكثير من الأموال السريعة التي ستقفز من السفينة مع ظهور أول مشكلة.
هذا لا يعني أنه يجب عليك تجنب الاكتتابات العامة المسلط عليها الضوء أو التي تحظى باهتمام أعداد كبيرة من المشاركين بالسوق، ولكن الفكرة هي أنك تحتاج لأن تفهم طبيعة ما تقدم عليه لكي لا تفاجئك تحركات السوق وتقوم حينها بالارتجال وهو ما قد يكبدك خسائر فادحة.
على سبيل المثال، في بعض الأحيان يتم تغطية هذه الاكتتابات بأكثر من 100% بكثير، مما يؤدي إلى ارتفاع سعر السهم في الأيام الأولى من تداوله (هذا الارتفاع غالباً ما يحدث بسبب إقدام المستثمرين الذين لم يخصص لهم في الاكتتاب سوى جزء صغير مما كانوا يرغبون به على شراء السهم) ولكن عندما يهدأ الغبار وتلمس أقدام الجميع الأرض، يبدأ سعر السهم في التراجع.
يقول المستثمر البريطاني الشهير "بنيامين جراهام": "أنت لست على صواب أو خطأ لأنك مختلف مع الحشود. أنت على صواب لأن بياناتك واستدلالك صحيحان".
الإدارة ثم الإدارة ثم الإدارة: عند تحليل شركة مدرجة بالبورصة غالباً ما يسهل تقييم أداء الفريق الإداري، ولكن حين نأتي إلى الشركات المطروحة حديثاً للاكتتاب العام، نجد أن الأمر ينقصه بعض الوضوح، ولذلك يجب عليك كمستثمر أن تقوم بالبحث عن إجابات لأسئلة من نوعية: منذ متى والفريق الإداري الحالي يرأس الشركة؟ ماذا حقق خلال ذلك الوقت؟ إذا كان هناك عضو مجلس إدارة تم استقدامه من مكان آخر، من هو؟ وما دوره؟ وماذا حقق هناك؟
أنت تحتاج أيضاً إلى تقييم الإدارة كفريق كامل. بمعنى هل يمتلكون القدرة على حشد خبراتهم ومهاراتهم بشكل يمكنهم من قيادة الشركة إلى آفاق جديدة؟ إذا كنت واحداً من هؤلاء الذين يقرأون بعناية نشرة الاكتتاب (وهم قلة للأسف) فستكتشف بالتأكيد أن الشركة كغيرها لديها نقاط ضعف رئيسية وتهديدات قد تكون ذات أهمية كبيرة، ويجب أن تتكون مقتنعاً بأن الإدارة تدرك هذه المخاطر ولديها استراتيجية مناسبة للتعامل معها.
هذه كلها أسئلة مهمة يجب عليك الإجابة عليها قبل أن تضع ثقتك في إدارة الشركة المطروحة للاكتتاب العام. وبالمناسبة إجابة هذه الأسئلة تصبح أكثر أهمية حين يتعلق الأمر بالشركات العائلية، والتي نرى أحياناً أن أهم مؤهلات رئيسها التنفيذي مثلاً هو صلة القرابة التي تربطه بصاحب الشركة.
المستثمر الذكي هو من يدرك جيداً أنه في حقيقة الأمر لا يستثمر في الشركة بقدر ما يستثمر في قدرة إدارتها على توجيهها وقيادتها من نجاح إلى آخر، وأفضل طريقة لتوقع الأداء المستقبلي لمجلس الإدارة هي من خلال النظر في تاريخ أعضائه.
حول هذه النقطة يقول المستثمر الأمريكي وأحد أشهر مديري صناديق التحوط في العالم "بروس بيركويتز": "أنا غير مهتم بالاجتماع اليوم مع أي مجلس إدارة.... أنا مهتم أكثر بمعرفة كيف تصرف هؤلاء في الماضي."
افهم سبب الإدراج: كيف تنوي الشركة التصرف في الأموال التي ستجمعها من المستثمرين في الاكتتاب العام؟ هل ستسخدمها في التوسع العضوي، أم أنها تحتاجها لسداد ديون، أم أنه لا توجد هناك خطة من الأساس؟ هل تخطط الشركة مثلاً لإجراء عملية استحواذ من شأنها أن ترسخ أقدامها في السوق؟ كمستثمر تحتاج إلى أن تفهم جيداً دوافع الشركة للإقدام على هذه الخطوة، لأن هذا له دلالات كبيرة.
هناك سؤال قد يتبادر إلى ذهن البعض وهو: إذا كانت الشركة ترغب في الحصول على النقد أليس بوسعها الاقتراض بدلاً من طرح أسهمها للاكتتاب العام؟ نعم بإمكانها، ولكنها في تلك الحالة ستكون ملزمة بدفع الفائدة على هذا الدين، وإذا كانت تواجه مشاكل في السيولة فقد لا تتمكن من سدادها. في الوقت نفسه هناك بعض الشركات التي لا تتمتع بالملاءة المالية الكافية التي تمكنها من الاقتراض، ولهذا السبب يصبح الاكتتاب العام هو خيارها الوحيد.
أخيراً، أحياناً يكون الدافع وراء دخول بعض الشركات إلى البورصة هو حاجتها الماسة إلى المال من أجل إنقاذ نفسها ولكي تتمكن من الاستمرار. وهذه بالمناسبة هي أكثر أنواع الاكتتابات العامة خطورة. ولكن كيف سيعرف المستتثمر سبب لجوء الشركة إلى البورصة إذا لم يتحقق من الأمر ويقرأ ما هو موجود بين السطور؟.
ملحوظة هامة: لا تغرك الأسماء الكبيرة. لا تشارك في اكتتاب عام أولي لأي شركة لمجرد أن لاسمها صدى في السوق. اتخذ قرارك على أساس البيانات والمعلومات المتاحة وتوقعاتك لاتجاهات السوق. وبالتالي إذا خلص تحليلك إلى أن أساسيات الشركة ضعيفة ولا تبرر بأي شكل سعر السهم، اتخذ قرارك على هذا الأساس حتى لو وجدت نفسك مخالفاً لكل المشاركين في السوق.
هل من الأفضل الانتظار؟
في كثير من الأحيان، وخصوصاً في الاكتتابات العامة المسلط عليها الضوء أكثر من اللازم، قد يكون من الأفضل للمستثمر ألا يشارك في الاكتتاب العام أو يشتري السهم في أيام التداول الأولى، ويقوم بدلاً من ذلك بالانتظار لبضعة أسابيع أو عدة شهور، حتى يهدأ السوق ويتحرر الجميع من الهوس المسيطر عليهم.
على سبيل المثال، تم تسعير سهم "فيسبوك" في الاكتتاب العام الأولي للشركة في عام 2012 عند 38 دولاراً للسهم الواحد. ولكن بمجرد أن بدأ التداول على السهم انخفض سعره مباشرة. وبعد 6 أشهر خسر المستثمرون الذي كانوا محظوظين بأن تم تخصيص أسهم لهم في عملية الاكتتاب ما يقرب من نصف أموالهم. ولم يستعد السهم نفس المستوى إلا بعد 15 شهراً.
اللافت هم هؤلاء المستثمرون الذين دخلوا واقتنصوا السهم عند نفس النقطة (بعد 6 أشهر من الاكتتاب) بينما كان يبلغ سعره أقل من 20 دولاراً. وبما أن سهم "فيسبوك" يتحرك في لحظة كتابة هذا التقرير بالقرب من 174 دولاراً، فإن المستثمرين الذين اقتنصوا السهم في الوقت المناسب ربحوا ما يزيد على 8 أضعاف أموالهم.
نفس القصة حدثت مع "سناب شات". في الاكتتاب العام الذي عقد في بداية مارس/آذار 2017، تم تسعير السهم مقابل 17 دولاراً، ولكنه وصل في أول يوم تداول إلى 26 دولاراً تقريباً بسبب اندفاع المستثمرين عليه. اليوم يستقر السهم بالقرب من 10 دولارات.
الفكرة باختصار، لا تندفع نحو أي اكتتاب عام أولي، وتقاتل من أجل المشاركة به معتقداً أنك ستشتري "جوجل" أو "آبل" أو "مايكروسوفت" في بداياتها، وتتخيل أنهم بعد سنوات سيشيرون إليك ويتحدثون حول كم أنك كنت بعيد النظر وثاقب الرؤية، لأن هناك احتمالا كبيرا أن يحدث العكس. دقق النظر في البيانات والحقائق الصلبة وحاول الاستنباط وقدر الأمور بنصابها ولا تسلم عقلك لأحد.
نصيحة أخيرة، والتي رغم السذاجة التي تبدو عليها إلا أنها مهمة جداً: إذا لم يضايقك الأمر، اقتطع من وقتك الثمين لكي تقرأ نشرة الاكتتاب مرة واثنتين، وانتبه إلى أصغر معلومة لأنها من الممكن أن تقودك إلى استنتاج مهم يؤثر على قرارك. وإذا لم تستطع فعل ذلك، فاحفظ أموالك واستثمر في الشركات المدرجة بالفعل، والتي تستطيع تقييم أدائها.
"وارن بافيت" على سبيل المثال ليس من جمهور الاكتتابات الأولية ولا يحب المشاركة بها. ففي المؤتمر السنوي لمساهمي شركة "بيركشاير هاثاواي" لعام 2016 قال بافيت: "لا تشغلوا بالكم بشأن ما يحدث في أطروحات الاكتتابات العامة الأولية. إن الناس يربحون اليانصيب كل يوم، وهذا ليس سبباً يجب أن يؤثر على استراتيجية الاستثمار الخاصة بكم. عليكم أن تكونوا منطقيين. واتبعوا مساركم الخاص".
أخيراً، انتبه للكلمات التالية: لا تستثمر في اكتتاب عام أولي لمجرد أنه اكتتاب عام أولي، استثمر فيه فقط لأن لديك أسباباً معقولة تجعلك تعتقد أنه استثمار جيد.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}