رغم كل ما تمتلكه من ثروة بشرية وموارد طبيعية، إلا أنه تم تصنيفها من قبل البنك الدولي في عام 2015 كثاني أفقر دولة في أوروبا بعد مولدافيا، مع دخل إجمالي للفرد يبلغ 7450 دولارا (على أساس تعادل القوة الشرائية). وهذا أقل من نصيب الفرد من الدخل القومي في بلدان مثل العراق ومنغوليا وألبانيا بالإضافة إلى 109 دول أخرى: نتحدث هنا عن أوكرانيا.
كما يعكس هذا الرقم، انخفاضا قدره 23% في دخل الفرد الأوكراني خلال الـ25 عامًا الممتدة بين عامي 1990 و2015، والتي تراجعت خلالها البلاد من المركز الـ55 إلى المركز الـ112 في ترتيب البنك الدولي لأغنى دول العالم.
ولكن اللافت للانتباه، هو أنه خلال نفس الفترة، حققت جميع البلدان المجاورة لأوكرانيا (باستثناء مولدافيا) معدلات تنمية اقتصادية جيدة. وهذا في الواقع يقودنا إلى أحد أشهر الأسئلة المثارة في الأوساط السياسية والأكاديمية حول العالم ما بعد السوفيتي، وهو: كيف نجحت بعض حكومات أوروبا الشرقية في إثراء سكانها، في حين فشلت أخرى، أو تسببت في إفقار مواطنيها؟
على سبيل المثال، في عام 2015، كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في بولندا يساوي 3.5 مرة ضعف نظيره الخاص بالفرد الأوكراني، أما إذا قارناه بنصيب الفرد في دولة مثل إستونيا مثلًا سنجد أن الفارق يصل إلى 6 أضعاف.
كيف أصبحت أوكرانيا على هذه الحال؟ هناك الكثير من الإجابات الصحيحة لهذا السؤال، ولكننا قررنا التركيز على الجزء العملي في الموضوع، وهو نوعية القرارات الاقتصادية، عبر استعراض 4 قرارات فاشلة ومدمرة اتخذها المسؤولون الحكوميون في أوكرانيا على مدار السنوات السبعة والعشرين الماضية، من خلال الاستعانة بدراسة أجرتها " فوكس يوكرين" شارك خلالها العديد من الأكاديميين والمسؤولين الحكوميين السابقين.
بنك مركزي غير مستقل .. فوضى! (1)
- منذ حصولها على استقلالها من الاتحاد السوفيتي في عام 1990، ولمدة 23 عامًا، لم يكن لدى أوكرانيا بنك مركزي مستقل، حيث تورط البنك في العملية السياسية أكثر من اللازم، وهو ما ساهم في ارتفاع معدل التضخم في البلاد في بداية التسعينيات، وتجاوزه لنظيره في الكثير من بلدان أوروبا الشرقية الأخرى.
- حتى العام 2015، كان البنك يساعد مجلس الوزراء على إخفاء العجز الحقيقي بالميزانية، وهو التصرف الذي ساهم في حدوث اختلالات في ميزانيات الحكومة، الأمر الذي أدى لاحقًا إلى انخفاض قيمة العملة المحلية "الهريفنا".
- تشير الدراسات إلى أنه كلما زادت استقلالية البنوك المركزية (أي قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة سياسيا) زادت فاعليتها في مكافحة التضخم. وهذا هو السبب في أن أكثر الدول التي نجحت في تحقيق قفزات اقتصادية جيدة تمتلك بنوكا مركزية تتمتع بدرجة معقولة من الاستقلالية. لكن هذا لم يكن هو الحال في أوكرانيا.
- في 20 مارس/آذار 1991، صدر التشريع المنظم لطبيعة عمل البنك المركزي. وأشارت المادة رقم 14 بالقانون المثير للجدل إلى أن البنك المركزي يقوم بتنظيم وتنفيذ السياسة النقدية للحكومة، كما يجوز له توفير الائتمان لوزارة المالية وفق الشروط العامة.
- هكذا تم إخضاع البنك المركزي للبلاد بالقانون لكل من وزارة المالية والبرلمان، وأصبح هذا الإخضاع أحد الأسباب الرئيسية للتضخم المفرط الذي عانت منه البلاد في بداية التسعينيات، والذي كان له تأثير مدمر ليس فقط على اقتصاد "البلد الذي ولد من جديد للتو"، ولكن أيضًا على الرفاهية والأمان النفسي للكثير من الأوكرانيين.
- خرج التضخم عن نطاق السيطرة كون البنك المركزي غير المستقل قام بطباعة الكثير من الأموال لتغطية الزيادات التي شهدها الحد الأدنى للأجور في ذلك الوقت، وازداد الوضع الاقتصادي سوءًا بعد أن تم إرغام البنك على توفير دعم مالي للحكومة بلغت نسبته 10.8% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في عام 1993.
- كان التدهور الذي شهده عجز الميزانية يعود بشكل رئيسي إلى تدخل الرئيس والحكومة في الأسواق بدوافع سياسية. وفي عام 1991، بلغ العجز 14% من الناتج المحلي، وعلى الرغم من أن التوقعات كانت تشر إلى أن النسبة ستنخفض في العام التالي إلى 2% فقط، بلغ العجز في عام 1992 نحو 29% من الناتج المحلي. والمركزي على الجهة الأخرى كان ملزمًا بتغطية هذا العجز بأي شكل.
- تعرضت تقريبًا كل البلدان التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي إلى هزات اقتصادية عقب حصولها على استقلالها، إلا أن تلك التي قامت بتأسيس بنوك مركزية مستقلة نجحت في استعادة الاستقرار الاقتصادي بسرعة. على سبيل المثال، في عام 1989 أصدرت بولندا قانونا بإنشاء بنك مركزي مستقل مهمته الرئيسية هي تعزيز قيمة العملة البولندية، وهذا هو نفس ما فعلته تشيكوسلوفاكيا في عام 1990.
الخصخصة وفق نظام القسائم .. الرقص على السلالم (2)
- أحد أهم الأسباب التي ساهمت في بناء السمعة السيئة التي تتمتع بها الخصخصة لدى كثيرين هو ما حدث بالتجربة الأوكرانية. باختصار، شُوهت فكرة التحول إلى القطاع الخاص في أوكرانيا بسبب القرارات المتسرعة غير المدروسة من جانب الحكومة، والتصميم السيئ لبرنامج الخصخصة من قبل البرلمان.
- وفق نظام القسائم، يتم توزيع عدد من القسائم أو الكوبونات على المواطنين، والتي تعطيهم الحق في استخدامها للحصول على أسهم بالشركات العامة المستهدف خصخصتها مجاناً أو بأسعار منخفضة. وربما الميزة الوحيدة لهذا الأسلوب هو أنه يساعد الحكومة على إنجاز عملية الخصخصة بسرعة أكبر.
- لكن المستثمرين لم يتمكنوا أبدًا من أن يصبحوا مالكين حقيقين لأصول الدولة بسبب أن حصص أغلبية السكان تتركز بلا جدوى في الصناديق الاستئمانية. ونتيجة لذلك، لم يستطع الوصول إلى هذه الأصول سوى رجال الأعمال الذين تربطهم صلات وثيقة بالسلطات.
- تمت خصخصة نحو 12 ألف شركة حكومية بين عامي 1992 و1994، واتسم نشاط الخصخصة بالفوضى، حيث جرى شراء الكثير من الشركات من قبل عاملين بداخلها من (الموظفين والمديرين) حصلوا على شروط مميزة عن الجميع. وما دفع هؤلاء للقيام بذلك هو رغبتهم في الحفاظ على سيطرتهم على ما اعتبروها مؤسساتهم الخاصة.
- وفقًا لدراسة صادرة عن البنك الدولي في عام 1997، تمت خصخصة نحو 80% من المؤسسات والشركات الحكومية الأوكرانية خلال تلك الفترة، وأجريت أنشطة الخصخصة بطريقة غير تنافسية، مما أدى إلى وقوع أغلب تلك الأصول في أيدي مستثمرين غير جادين.
- معظم الأصول التي تمت خصخصتها لم تقع في أيدي السكان أو المستثمرين النهائيين، بل في أيدي الوسطاء الماليين وعدد من السياسيين وبعض دوائرهم المقربة.
- لم يستغرق الأمر كثيرًا قبل أن ينهار نموذج الخصخصة الأوكراني، الذي أدى في واقع الأمر إلى تشوه نظام الملكية، وأضر بشكل كبير بثقة الناس في الحكومة والسياسيين والسوق والإصلاحات الأخرى.
- باختصار، تم تشويه الاقتصاد. فالشركات العامة لا هي بقيت في أيدي الحكومة ولا هي ذهبت إلى مستثمرين حقيقيين بالقطاع الخاص وبالتالي لم يكن للخصخصة أي تأثير يذكر على جودة الإدارة في الشركات الحكومية، وذلك لسبب بسيط جدًا وهو أن 85% من القسائم المصدرة تمت السيطرة عليها من قبل المديرين والموظفين العاملين بالفعل في تلك الشركات، والذين يفضلهم القانون على غيرهم وفق هذا البرنامج المشوه.
استنساخ سيئ لتجربة المناطق الاقتصادية.. باب خلفي للفساد(3)
- هذا تقريبًا أحد أكثر الأخطاء تدميرًا للاقتصاد الأوكراني. لقد كان المشهد التجاري بالبلاد غير متناسق منذ لحظة استقلالها. حيث تلقى عدد من الشركات والقطاعات الاقتصادية المختارة إعفاءات ضريبية ومميزات غير مبررة كلفت البلاد عشرات المليارات، في حين كافحت الشركات الأخرى للنجاة بنفسها وبموظفيها من وطأة الضرائب الباهظة.
- كانت المناطق الاقتصادية الخاصة أحد أبرز أشكال عدم المساواة في البلاد، والتي أصبحت بمثابة آلية للهروب من الضرائب في التجربة الأوكرانية. ومن المفارقات أن هذه المناطق التي من المفترض أنها أنشئت لجذب المستثمرين الأجانب، كانت في الوقع طاردة لهم.
- عندما تم إنشاء أول منطقة اقتصادية خاصة كان الكثيرون يأملون أن تكون علاجًا شافيًا للاقتصاد، وكانت الحكومة تعول عليها في اجتذاب الاستثمارات الأجنبية وخلق تنمية في أقاليم معينة، وزيادة صادرات السلع والخدمات واجتذاب تكنولوجيات جديدة، والمساهمة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية للبلد بأسره.
- لكن، وفقا للإحصاءات التي قدمها الباحثان الأوكرانيان "فاليري جيتس" و"فولوديمير سيمينوزينكو" في عام 2006، لم تتمكن هذه المناطق من جذب سوى 12.2٪ فقط من الاستثمارات المخطط لها، حيث إن الهدف كان جذب 17.7 مليار دولار، إلا أن المحصلة كانت 2.1 مليار دولار فقط.
- تم توفير 35.5٪ فقط من الوظائف المتوقعة، (137.7 ألف وظيفة من أصل 387.4 ألف). ولكن ربما النقطة الأهم هي أن الاستثمارات الأجنبية في تلك المرحلة مثّلت 25٪ فقط من إجمالي الاستثمارات بالمنطقة، والباقي كانت شركات محلية دافعها الرئيسي التهرب من الضرائب.
- على أرض الواقع، كانت هذه المناطق تستخدم بشكل رئيسي في التهرب من الضرائب وتهريب السلع. حيث أوضح صندوق النقد الدولي في دراسة صادرة عام 2003 أن الحوافز الضريبية التي استهدفت تطوير الإنتاج الصناعي في أوكرانيا وجذب الاستثمارات الأجنبية لم تكن ناجحة.
- كما أشار الصندوق إلى وجود كمية كبيرة من السلع التي لا تتعلق بالمشاريع الاستثمارية (مثل اللحوم ومنتجات أخرى) يتم استيرادها إلى أوكرانيا عبر المناطق الاقتصادية الخاصة.
- وفقًا لتحقيقات أجراها البنك الدولي، تسببت المناطق الاقتصادية الخاصة في أوكرانيا في تقليص حجم الاستثمارات خارج تلك المناطق، وساهمت في انتشار الفساد بين الحكوميين القائمين على إدارة هذه المناطق، والذين كانوا يملكون سلطة اختيار المشاريع والشركات المسموح لها بالدخول إلى تلك المناطق.
تعريفات الغاز.. تفويت الفرص والمقامرة بمستقبل البلاد (4)
- طوال 24 عامًا، ظلت أوكرانيا تطبق تعريفات للغاز والتدفئة غير مبررة اقتصاديًا، وكان لها في الواقع آثار اقتصادية مدمرة، حيث ساهمت في اعتماد البلاد على روسيا في توفير احتياجاتها من الطاقة، وخلق ركود بالإنتاج المحلي، وفقدان الاقتصاد لعشرات المليارات في صورة إعانات خفية منحت لشركة "نافتوجاز". وكل ذلك تسبب في تقويض النظام المالي للبلاد.
- منذ الاستقلال وحتى عام 1998 (حين أسست "نافتوجاز") كان سوق الغاز الأوكراني لا مركزيا، وكان على الشركات الراغبة في استيراد الغاز الحصول على ترخيص فقط من الحكومة. وفي الفترة ما بين عامي 1996 و1997، لم تمنح سوى 8 شركات تراخيص لهذا الغرض. ولكن بداية من 1998، بدأت "نافتوجاز" تعزز سيطرتها على السوق تدريجيًا إلى أن أصبحت المستورد الوحيد والمحتكر الرئيسي لسوق الغاز الأوكراني في عام 2003.
- بسبب التضخم الذي شهدته البلاد في أوائل التسعينيات، والانخفاض الذي شهدته قيمة العملة المحلية، لم تتمكن "نافتوجاز" في عام 1998 من تحصيل سوى 34% فقط من إجمالي المدفوعات المستحقة على الأفراد والشركات، الذين لم يستطع الكثير منهم تسديد قيمة فواتيرهم.
- وفقًا للاتفاقيات المبرمة مع روسيا وتركمستان، استوردت أوكرانيا الغاز بسعر يبلغ 50 دولارًا لكل ألف متر مكعب. وكان السكان يحصلون على الألف متر مقابل 19 دولارا، في حين كانت المؤسسات العامة تحصل عليه مقابل 28 دولارا، ولم يدفع الـ50 دولارا كاملة سوى المصانع. وهكذا بلغ متوسط ما تحصله الحكومة من جميع الفئات المستهلكة حوالي 40 دولارًا عن كل ألف متر مكعب في عام 2000.
- أدى هذا الفارق البالغ 10 دولارات، إلى جانب السداد غير المنتظم والخسائر التكنولوجية إلى حدوث عجز مخفي في قطاع الغاز، يمثل ما يتراوح ما بين 0.5 و2.5% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد كل عام.
- بسبب حسابات سياسية، فشلت الحكومة من الاستفادة من فرصة ذهبية لإصلاح الوضع وعلاج هذا العجز. ففي الفترة ما بين عامي 2005 و2007، لم تتمتع الحكومة بالدعم المجتمعي فحسب، بل تحسنت أيضًا رفاهية المواطنين، وكان الوضع مواتيا جدًا لرفع تعريفة الغاز إلى مستوى تكلفتها الفعلية، حيث لم يكن من الصعب على السكان أن يدفعوا أكثر قليلًا. لكن الحكومة لم تفعل شيئا.
- رأت الحكومة أن هذا الفارق لا يستحق المخاطرة بشعبيتها، وارتكنت في قرارها هذا إلى استقرار أسعار الغاز في ذلك الوقت. لكن لا شيء يدوم!
- في عام 2006، وفيما يعرف بحرب الغاز الأولى ساءت علاقة أوكرانيا مع روسيا التي كانت بمثابة المصدر المحتكر للغاز إلى البلاد، وقامت "غازبروم" الروسية بحجب الغاز عن أوكرانيا، كما طالبتها بعدم اعتراض الكميات التي تم ضخها بالأنابيب المارة عبر أراضيها إلى أوروبا. كان الغاز يمر من أمام أعين الأوكرانيين وعلى أراضيهم ولا يستطيعون الاقتراب منه.
- بعد حرب الغاز الأولى، رفعت روسيا أسعار الغاز إلى 95 دولارا في عام 2006، ثم إلى 130 دولارا في 2007، قبل أن تصل إلى 180 دولارا في 2008. وبعد حرب الغاز الثانية (2009)، كان يتم تعديل الأسعار كل ربع سنوي إلى أن وصلت إلى 400 دولار للألف متر مكعب في 2012-2013.
- ارتفع عجز "نافتوجاز" إلى 2.5% من الناتج المحلي، واقتربت الشركة أكثر من مرة من حافة الإفلاس، واستمر وضعها في التدهور إلى أن وصل العجز المالي للشركة إلى ما يمثل 5.7% من الناتج المحلي في عام 2014 (90 مليار هريفنا)، وهو ما تجاوز العجز الكلي في الميزانية الأوكرانية البالغ 4.6% من الناتج المحلي.
- التعريفة في حد ذاتها لم تكن هي المشكلة الرئيسية، وإنما المشكلة كانت تدهور قيمة العملة المحلية.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}