"نحن العالم" .. زينت هذه العبارة صورة تجمع بين الرئيس الأمريكي "رونالد ريجان" ورئيس الوزراء الياباني "ياسوهيرو ناكاسونه" كانت معلقة في الثمانينيات على جدران الكثير من المحال التجارية الموجودة في منطقة جينزا اليابانية التي تعد واحدة من أشهر وأرقى أحياء التسوق في العالم.
الرجلان كانا زعيمين لدولتين شكلتا – في منتصف الثمانينيات – أكثر من 40% من الاقتصاد العالمي. ولكن نحن هنا لن نتحدث عن الولايات المتحدة، وإنما عن ضحية قنابلها النووية في الحرب العالمية الثانية، اليابان، وبالتحديد عن "عقدها الضائع". السنوات العشر العجاف التي عاشها اليابانيون في أواخر القرن الماضي.
من تحت الصفر
كما نعرف جميعاً، في عام 1945 دُمرت اليابان عن بكرة أبيها. حيث تعرضت كل مدنها الكبيرة (باستثناء كيوتو) لأضرار بالغة بسبب القصف الأمريكي، وهذا طبعاً خلاف القصف النووي الذي تعرضت له مدينتا هيروشيما وناجازاكي.
الأمريكيون لم يقصفوا اليابان بعشوائية، بل ركزوا على استهداف القدرات الصناعية للبلاد وبنيتها التحتية بالكامل بلا رحمة، وخصوصاً الطرق ووسائل المواصلات. كان هناك نقص مزمن في الغذاء، وكانت البلاد تحت رحمة الحلفاء المحتلين بقيادة الجنرال "دوجلاس ماك آرثر".
انتهى احتلال الحلفاء لليابان في عام 1952، وتم التوصل إلى اتفاق بين طوكيو وواشنطن ينص على تمركز قوات أمريكية على الأراضي اليابانية بشكل دائم، وذلك قبل أن تقوم اليابان بتأسيس ما يسمى قوات الدفاع الذاتي في عام 1954.
على الرغم من أن تمركز القوات الأمريكية على الأراضي اليابانية كان ولا يزال مثار استياء الكثير من اليابانيين، إلا أن الوجود الأمريكي ساهم في تلبية الاحتياجات الأمنية لليابان ومكنها من التركيز على تطوير اقتصادها دون أن يصرف انتباهها عن ذلك أي صراع عسكري محتمل مع جيرانها.
40 سنة فقط! هذا هو طول الفترة الزمنية الفاصلة بين اليابان المدمرة واليابان صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، والتي كانت تتمتع بازدهار اقتصادي لا مثيل له.
المال السائب .. السيطرة على الاقتصاد الأمريكي!
يشير الكثير من المؤرخين الاقتصاديين إلى أن بداية ما يسمى بـ"اقتصاد الفقاعة" في اليابان تزامن مع توقيع اتفاقية بلازا في سبتمبر/أيلول 1985 بين الولايات المتحدة واليابان وبريطانيا وفرنسا وألمانيا الغربية، التي تدفع نحو خفض قيمة الدولار الأمريكي أمام الين الياباني والمارك الألماني من خلال التدخل في أسواق صرف العملات.
هذا طبعاً جعل الصادرات الأمريكية أرخص من غيرها وبالتالي أكثر قدرة على المنافسة، كما جعل الأصول الأمريكية أرخص بالنسبة لليابانيين، وكان له أيضاً تأثير سلبي على النمو الاقتصادي الياباني الذي تقوده الصادرات.
بالفعل، حققت الاتفاقية أهدافها الرئيسية. ففي خلال الفترة الممتدة بين عامي 1985 و1987، انخفضت قيمة الدولار أمام الين بنسبة 51%، ولكن في نفس الوقت لم يكن الطريق ممهداً أمام الصادرات الأمريكية إلى اليابان، والتي عانت بسبب الحواجز التجارية الموجودة في السوق اليابانية.
مع ارتفاع قيمة الين، قام المركزي الياباني بخفض أسعار الفائدة بغرض تشجيع الاستهلاك المحلي والاستثمار، لتبدأ أسعار الأصول المحلية في الارتفاع.
من ناحية أخرى، تزامن الانخفاض الحاد الذي شهدته قيمة الدولار أمام الين مع وصول قطاع التصنيع في اليابان إلى ذروة قوته، وهذا ساهم في شعور اليابانيين الذي كانوا يمتلكون كميات هائلة من المدخرات الشخصية فجأة بالثراء والازدهار، ليبدأوا في الإنفاق على السلع الاستهلاكية بشراهة، وخصوصاً أثناء سفرهم إلى الخارج.
البنوك اليابانية التي كانت تحتفظ بكميات هائلة من أموال المودعين بدأت في إقراض الأفراد والشركات بتسهيلات غير مسبوقة. وتم استخدام معظم هذه القروض في شراء العقارات المحلية والتي شهدت قيمتها – على الورق – زيادات مطردة.
خُلقت حلقة مفرغة على خلفية استخدام الأراضي كضمان للمزيد من القروض، والتي استخدمت بدورها إما في شراء المزيد من الممتلكات أو في المضاربة في سوق الأوراق المالية. وهكذا، استمرت قيم الأراضي والعقارات على الورق في الارتفاع بشكل متسارع من ناحية، وقامت البنوك بمنح القروض على أساس هذه الأراضي المبالغ في تقييمها من ناحية أخرى.
في الوقت نفسه، شرعت الشركات اليابانية في شراء الكثير من العقارات في الولايات المتحدة وأماكن أخرى حول العالم. ولعل أشهر هذه الصفقات هي صفقة شراء شركة "ميتسوبيشي" للعقارات لمركز روكفلر في نيويورك مقابل 846 مليون دولار في أواخر عام 1989.
أثار الاهتمام الياباني الكبير بسوق العقارات الأمريكي قلق الكثير من الأمريكيين، والذين اعتقد بعضهم أن هذه الصفقات كانت جزءاً من استراتيجية يابانية طويلة الأجل تهدف للسيطرة على الاقتصاد الأمريكي.
فشل إدارة الأزمة
خلال الثمانينيات كان الاقتصاد الياباني موضع حسد من قبل العالم. فقد نما بمعدل سنوي متوسط قدره 3.89%، وذلك مقارنة مع 3.07% في الولايات المتحدة. وبينما كان يظن الجميع أن شهر العسل لن ينتهي قريباً، لم تسأل البنوك اليابانية المقترضين الكثير من الأسئلة حول كيفية سداد القروض كما لم تفكر أيضاً في ما سيحدث لو بدأت قيم الأراضي المستخدمة كضمان في الانخفاض.
لا المركزي الياباني ولا وزارة المالية كانا يعرفان كيفية ضبط الأمور في القطاع المصرفي والسوق العقاري ووضعها في نصابها. وكانت أسعار الأراضي في طوكيو تتصدر عناوين الصحف العالمية.
الأمر وصل لدرجة أن الأرض المبني عليها القصر الإمبراطوري في اليابان قدرت قيمتها في عام 1989 بأكثر مما تساويه قيمة كل العقارات الموجودة في ولاية كاليفورنيا الأمريكية. وفي نهاية نفس العام، وصل مؤشر "نيكاي 225" إلى ما يقرب من 39 ألف نقطة، بعد أن تضاعفت قيمته أربع مرات خلال 5 سنوات فقط.
في أواخر عام 1989، فاقت وزارة المالية اليابانية أخيراً واتخذت إجراءات حاسمة أدت إلى رفع أسعار الفائدة بشكل حاد. وأعقب ذلك بوقت قصير صدور أمر للبنوك بتقليص حجم إقراضها العقاري. وعلى إثر تلك القرارات بدأ مؤشر "نيكاي" في الهبوط بشكل حاد، وبحلول نهاية عام 1990 خسر المؤشر أكثر من تريليوني دولار من قيمته السوقية.
في نهاية المطاف، انخفضت قيمة العقارات في اليابان بنسبة 87% مقارنة مع أعلى مستوى لها. وأدى الهبوط الهائل الذي شهدته أسعار الأسهم والعقارات إلى خسارة البلاد لثروات قيمتها تعادل الناتج المحلي الإجمالي لليابان في ثلاث سنوات.
"هذه أكبر خسارة للثروة في تاريخ البشرية عانى منها أي بلد في زمن السلم" هكذا وصف "ريتشارد كو" كبير الاقتصاديين في معهد أبحاث نومورا الياباني الوضع في ذلك الوقت. غرقت اليابان في أزمة ديون بعد تعثر الكثير من القروض العقارية، لتبدأ شرارة أزمة اقتصادية استمرت لنحو 10 سنوات.
سبب طول فترة الأزمة بعد انفجار الفقاعة يرجع بشكل رئيسي إلى فشل بنك اليابان ووزارة المالية في اتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة منذ اللحظات الأولى، وهذا ربما بسبب رفضهم الاعتراف بخطورة الوضع.
في سعيها لإعادة إنعاش النشاط الاقتصادي قامت الحكومة اليابانية بضخ تريليونات من الين في الطرق السريعة والجسور وغيرها من مشاريع البنية التحتية الكبيرة، ولكن هذا تسبب في تحول فائض في الميزانية قدره 2.4% في عام 1991 إلى عجز نسبته 10% بحلول عام 1998. في الوقت نفسه وصلت نسبة الدين القومي إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 100%.
استغرق الأمر حتى منتصف التسعينيات، أي بعد أكثر من 5 سنوات من انفجار الفقاعة، قبل أن تبدأ البنوك اليابانية في شطب ديونها المعدومة. كانوا للأسف يعيشون في حالة إنكار للوضع، ويتوقعون أن أسواق الأسهم والعقارات ستتمكن بطريقة ما من الانتعاش مرة أخرى. وهذا طبعاً لم يحدث.
خلال الفترة ما بين عامي 1995 و2007، انخفض الناتج المحلي الإجمالي لليابان من حيث القيمة الاسمية من 5.33 تريليون دولار إلى 4.36 تريليون دولار، كما انخفضت الأجور الحقيقية بنسبة تقترب من 5%، وعلى المستوى الرسمي دخلت البلاد في حالة ركود لا تزال تعاني من آثارها إلى اليوم.
في العام 1991 كان الناتج المحلي الحقيقي للفرد في اليابان أعلى بنسبة 14% مقارنة مع المعدل لدى أستراليا، ولكن في عام 2011، انخفض ناتج الفرد الياباني إلى 14% دون مستواه لدى أستراليا.
كان التأثير الاقتصادي للفقاعة على حياة الأسر اليابانية صامتًا غير مرئي بشكل مفاجئ. ويرجع ذلك إلى أن الأسر اليابانية لديها ثقافة التقشف والادخار، وهو ما مكنهم من ترتيب أمورهم خلال فترة ما بعد انفجار الفقاعة دون أن تشهد مستويات معيشتهم أي تدهور كبير.
خلال العقد الضائع، كان اليابانيون يستهلكون وينفقون الأموال بجنون على السيارات الفارهة، والماركات العالمية مثل حقائب "لوي فيتون" الفرنسية و"أرماني" الإيطالية، كما كانوا يطوفون في جميع أنحاء العالم بأعداد قياسية، ويقيمون في أفخم الفنادق في أوروبا والولايات المتحدة.
بعد عام 2001، بدأ الاقتصاد الياباني في التعافي، ولكن مستويات الاستهلاك لم تعد أبداً إلى ما كانت عليه خلال الثمانينيات. والسر في ذلك هو أن شرائح كبيرة من المجتمع الياباني شعرت بالحرج الشديد من سلوكها خلال سنوات الفقاعة، مؤمنة أن ما حدث لم يكن إلا بسبب أن اليابان أدارت ظهرها لقيمها الأخلاقية والاجتماعية التقليدية وتبنت بدلاً منها القيم "الغربية".
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}