لماذا يعجز الاقتصاديون والسياسيون عن التواصل في كثير من الأحيان.. ربما لأن الاقتصاديين دائمًا ما يعطون الواقع أبعاده الحقيقية، معقدة مليئة بالتفاصيل وبالاحتمالات، بينما يسعى السياسيون إلى "واقع أبسط" واضح "ويسهل تسويقه"، لذا فكثيرًا ما كان الرئيس الأمريكي الأسبق "هاري ترومان" يشكو حقيقة أنه ظل طيلة عمره يبحث عن اقتصادي واحد يخبره بالوضع دون إضافة كلمة "ولكن"، ولم يجده قط.
وأدى هذا لتحول السياسيين مع الوقت إلى "سوء استغلال" الاقتصاديين، حيث دائمًا ما يستخدمون مبررات اقتصادية لتسويق سياساتهم التي تكون بالأساس لخدمة مصالح البعض في غالبية الأحيان، فالاقتصاديون والسياسيون يعملون في إطارين زمنيين مختلفين، ففي الوقت الذي تراعي المجموعة الأولى اعتبارات الكفاءة ولذلك يكون معظم العمل طويل المدى، يهتم السياسيون بالمدى المنظور مما يرونه من حتمية مراعاة مصالح جماعات بعينها.
أمثلة إيجابية محدودة
هذا ما يؤكده "آلان بليندر" أستاذ الاقتصاد في العديد من الجامعات الأمريكية، والمستشار الاقتصادي في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق "بيل كلينتون" في كتابه "نصيحة ومعارضة: لماذا تعاني أمريكا عندما تصطدم السياسة بالاقتصاد؟".
وبالعودة إلى الماضي في الولايات المتحدة، يضرب "بليندر" مثلًا بالتحالف الذي تم بين الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان ومجلس النواب الأمريكي (الديمقراطي) القوي في ثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت حادثة من "النوادر" التي انتصرت فيها "الكفاءة" على حساب "التوازنات" باتفاق الطرفين على إقرار سياسات ضريبية متوازنة وواضحة ساهمت في جعل الأخيرة واضحة للمواطنين بل وفي تحقيق النمو الاقتصادي.
ففي هذه المرحلة تم إقرار تخفيض الضرائب بصورة عامة لدفع النمو المتراجع، وكان الخفض الأكبر في الشريحة الأعلى (من 50% إلى 28% ضريبة على الدخل)، وكان هذا الخفض مثيرًا للجدل ولم يحظ بإجماع شعبي لكنه أفاد الاقتصاد بصورة عامة في النهاية، فأصبح هؤلاء المعارضون مؤيدين في نهاية الأمر مع حصد الثمار الإيجابية.
في غياب الكفاءة.. هكذا تنجح واشنطن
ويضرب "بليندر" العديد من الأمثلة بالحالات التي كادت الحكومة الأمريكية تتوقف عن العمل فيها بسبب عجز الحزب المسيطر على مجلسي الشيوخ والنواب عن التوصل إلى اتفاق لتمويل الموازنة، وأسوأها مؤخرًا في الفترة الثانية للرئيس السابق باراك أوباما، حيث أصبحت "الأيدلوجية فوق المصلحة" في هذه الحالات، لتصبح الشعارات السياسية العائق الرئيس أمام إقرار سياسات اقتصادية رشيدة.
ووفقا لما يرصده "بليندر" ففي كل الحالات التي شهد الاقتصاد فيها ممارسة السياسات الاقتصادية الأمثل كان السبب الرئيسي هو منح "التكنوقراط"، أو أهل الاقتصاد في هذه الحالة، مساحة كبيرة ليس في مجرد تنفيذ السياسات كما هو معتاد، بل في وضعها بما يجعلها أكثر توازنًا وتلبية لصالح المستقبل، مع مراعاتها للتوازنات بطبيعة الحال.
أما فيما عدا ذلك فيكون الرئيس الأمريكي "مرغمًا" على تسديد الفواتير الانتخابية للقوى الاقتصادية التي دفعت به إلى سدة الحكم، بما يعني تفاقم غياب عدالة التوزيع لصالح مجموعات بعينها لها "مدخل للتأثير" على ساكن البيت الأبيض يفوق تأثير "المواطنين العاديين" أو أصحاب "الصوت الواحد" كما يصفهم "بليندر" في إشارة للعملية الانتخابية.
ويجيب "بليندر" على تساؤل هام: إذا كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة لا تتخذ بالضرورة قرارات اقتصادية رشيدة، فكيف تحقق الولايات نموًا اقتصاديًا وريادة عالمية؟.. والإجابة وفقًا له لها أبعاد عدة، أولها أن هذا السلوك يحدث في دول أخرى أيضًا بطريقة أو بأخرى بما لا يجعل الحالة الأمريكية متفردة، كما أن المزايا الأمريكية العسكرية والجغرافية والسياسية تعطيها اليد الطولى اقتصاديًا في الكثير من الأحيان بعيدًا عن فكرة الكفاءة الاقتصادية وحدها.
لا مكان للاقتصاديين
ويلفت "بليندر" إلى تجربته الشخصية في إطار إدارة "كلينتون"، بالتأكيد على استماع الأخير لآراء الاقتصاديين بصورة مستمرة، بما أدى في النهاية إلى تحقيق الولايات المتحدة لمعدلات نمو استثنائية منذ الحرب العالمية الثانية خلال فترتي رئاسته، بل وشهدت تلك الفترة وفورات اقتصادية كبيرة للشركات وتراجعا في معدلات الدين العام.
ويشير "بليندر" إلى المرحلة الحالية في ظل حكم الرئيس "دونالد ترامب" إذ يعتبر الأخير مختلفًا عن غيره، فهو لا يعود إلى الاقتصاديين من أجل تبرير قراراته كما اعتاد الرؤساء السابقون، بل ولا يسألهم المشورة فيما يبدو في معظم قراراته، ليبدو متجاهلًا لهم بصورة تامة (وليس حتى كمستغل كغيره)، بما يجعل مستقبل الولايات المتحدة الاقتصادي على المحك، لا سيما في ظل ما يصفه بـ"القرارات غير المدروسة" بخفض الضرائب، وغيرها.
وتقول "فاينانشيال تايمز" عن كتاب "بليندر" :"يمكنك قول ما تشاء بشأنه لكن توقيته يبدو لافتًا للغاية، لأنه يأتي بينما الولايات المتحدة تدخل مواجهات اقتصادية تبدو للكثير من الاقتصاديين "غير مبررة" بينما يصر "أهل الحكم" على حتميتها، لتبدو المواجهة بين اتجاهات أهل الاقتصاد من جانب والسياسة من جانب آخر على أشدها".
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}