في الثمانينيات والتسعينيات اعتاد عدد من السياسيين وأصحاب الرأي في الهند مهاجمة الحكومة بسبب ما وصفوها بأنها استثمارات مبالغ فيها في قطاع التعليم العالي مقارنة مع ما كانت تنفقه بلدان أخرى ذات مستويات مماثلة من التنمية، معتبرين أن هذا يعد شكلاً من أشكال إهدار المال العام.
وفي ذلك الوقت حظي أصحاب تلك الآراء بتأييد كبير من شرائح مختلفة وبدا كما لو أنهم على حق فعلاً، لأن الوضع في الهند حينها كان كالتالي: مهندسون يحصلون على مستويات عالية من التعليم على نفقة الدولة ثم يعملون لحساب الشركات متعددة الجنسيات أو ينجحون في الحصول على منح دراسية بالخارج ويسافرون ثم لا يعود أغلبهم إلى الوطن.
ولكن هذه السياسة التي اعتبرها كثيرون خاطئة في ذلك الوقت كان لها الفضل الكبير في وضع أساس الاقتصاد الهندي الحديث الذي يمتلك حالياً بنية تحتية تكنولوجية عالية التطور بالإضافة إلى ثروة هائلة من الموارد البشرية المؤهلة والمتمتعة بمستويات عالية من التعليم.
البدء من حيث انتهى الآخرون
خلال السبعينيات والثمانينيات تمكن اليابانيون من تحقيق تقدم كبير في مجال التصنيع، وهو ما ساهم في صعودهم كقوة اقتصادية عالمية. حينها تفاجأت الشركات الغربية بالإنجازات التي حققها قطاع التصنيع الياباني ومهاراته. لكن اليابانيين تمكنوا من ذلك من خلال دراسة أفضل ممارسات الشركات الغربية وتعديل أوجه القصور فيها ومن ثم تطبيقها.
وقصة الهند مع التكنولوجيا مشابهة إلى حد كبير لقصة اليابان مع التصنيع. فالهند حرصت على دراسة نهج الشركات الغربية العاملة بالقطاع التكنولوجي والتعرف على نقاط قوتها وضعفها قبل أن تستخدم تلك المعلومات في بناء نموذج يناسب ظروفها الاقتصادية والاجتماعية.
تعمل الهند التي يزيد تعداد سكانها على 1.3 مليار نسمة منذ زمن طويل على تنفيذ استراتيجية طموحة للتنمية.
ورغم أنها تعاني من مشاكل كثيرة مثل الفقر والاكتظاظ السكاني وسوء الرعاية الصحية إلا أن هذا لم يمنعها من المضي قدماً في خططها الطموحة.
ففي خضم هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي غير المثالي، برز بصيص أمل للاقتصاد الهندي في العقدين الأخيرين. هذا الأمل كان عبارة عن صناعة جديدة، صناعة يشير الكثير من الخبراء إلى أنها ستحول الهند إلى قوة عظمى عالمية. هذه الصناعة هي تكنولوجيا المعلومات.
بفضل هذه الصناعة نرى الآن الكثير من ناطحات السحاب في سماء عدد من المدن الهندية مثل حيدر آباد وبنجالور، حيث إن تكنولوجيا المعلومات توسعت بشكل كبير وأصبحت تمثل واحدة من أهم قطاعات الاقتصاد الهندي.
في الفترة ما بين عامي 1990 و1991 لم تتجاوز قيمة إنتاج قطاع تكنولوجيا المعلومات بالهند حاجز 50 مليون دولار، ولكن بحلول عام 2008، اقتربت من 60 مليار دولار، قبل أن تتضاعف وتصل في العام المالي 2014 – 2015 إلى ما يقرب من 120 مليار دولار.
ما قيمة السير الذاتية؟
في عام 2002 ادعت الهند أن جامعاتها ومعاهدها العلمية تخرج حوالي 350 ألف مهندس سنوياً، غير أن هذا الرقم كان يشمل الحاصلين على دبلومات هندسية والذين لم يكونوا مهندسين حقيقيين. وبالتالي لم يكن لدى الهند في الواقع سوى 102 ألف خريج هندسة حقيقي في عام 2002.
ارتفع هذا العدد إلى 222 ألفاً في عام 2006، قبل أن يتضاعف في عام 2011. وعلى الرغم من أن الهند تمتلك مجموعة متميزة جداً من المعاهد العلمية إلا أن تقديرات ماكينزي تشير إلى أن 25% فقط من خريجي الهندسة بالهند هم من يمتلكون المهارات اللازمة للعمل بالشركات متعددة الجنسيات.
هذا يعني أن عدد خريجي الهندسة الهنود الذين يتمتعون بمهارات جيدة محدود، ولكن على الرغم من ذلك نجد أن أكبر 5 شركات تعمل بقطاع التكنولوجيا الهندي قامت في عام 2007 وحده بتعيين 120 ألف مهندس. هذه الشركات بالتأكيد لن توظف أشخاصا دون المستوى أو عديمي المهارة وفي نفس الوقت عدد خريجي الهندسة الجيدين ليس كبيراً، فمن أين جاء هؤلاء الذين وظفتهم تلك الشركات؟
الإجابة كشفتها دراسة أجراها باحثون من جامعتي هارفارد ودوك نشرتها "هارفارد بينزس ريفيو" في عام 2008، والتي أشارت إلى أن شركات التكنولوجيا الهندية استفادت بشكل كبير من ممارسات شركات التكنولوجيا الغربية العاملة بالسوق الهندي مثل "آي بي إم" و"أكسنتشر" والتي قامت بتطويرها ووضعها في إطار أنظمة تدريب مبتكرة.
اكتشف الباحثون أن الشركات الهندية لا تنظر إلى السير الذاتية للمتقدمين أثناء عملية التوظيف والتي يعتقدون أنها لا تعكس المهارات الحقيقية للموظفين المحتملين بقدر ما تعكس قدرتهم على كتابة سير ذاتية جيدة. وبدلاً من ذلك صممت الشركات الهندية برامج يمر خلالها المتقدمون بمجموعة من الاختبارات النفسية والمقابلات الصارمة لتحديد القدرات العامة للشخص وليس المهارات التخصصية.
وعلى هذا الأساس تجنبت تلك الشركات الاعتماد فقط على خريجي الكليات المرموقة، وفتحت الباب أمام خريجي كليات يمكن تصنيفها على أنها من الدرجة الثانية أو الثالثة، بل وأمام خريجي مجالات بعيدة عن الهندسة مثل الفنون والعلوم.
على عكس الشركات الغربية التي تفضل توظيف ذوي المهارات التخصصية القوية، ركزت الشركات الهندية على أصحاب المهارات العامة الجيدة قبل أن تقوم بتدريبهم على وظائفهم من الصفر. أي أن الشركات أصبحت بشكل فعلي هي الجامعات.
أحد أشهر مراكز التدريب في الهند هو مركز " إنفوسيس جلوبال إديوكشن" الواقع في مدينة مايسور الهندية، ويقوم هذا المركز بتدريب ما مجموعه 13.5 ألف شخص في كل دورة. يقضي خريجو الهندسة بهذا المركز حوالي 3 أشهر، في حين يحتاج خريجو التخصصات الأخرى إلى أربعة أشهر إضافية من التدريب. وبعد نهاية تلك الفترة يصبحون مستعدين لسوق العمل.
فن الاستراتيجية
لكن ما يميز التجربة الهندية عن غيرها هو أن التدريب عملية مستمرة ولا يقتصر على المهارات التقنية وإنما يمتد ليشمل المهارات الإدارية ومهارات التواصل واللغات الأجنبية. وعادة ما يقضي الموظفون من أسبوع إلى 4 أسابيع بشكل سنوي في البرامج التدريبية، كما ترتبط مرتباتهم وتطورهم الوظيفي بمهاراتهم المكتسبة أثناء التدريب.
هناك أيضاً ممارسة شائعة داخل شركات التكنولوجيا الهندية وهي البرامج الإرشادية التي يوفرها كبار المديرين لصغار الموظفين. هذا شيء يشبه إلى حد كبير برامج "إعداد القادة". حيث يجب على كل مدير بالشركة أن يقضي من أسبوع إلى أسبوعين كل عام في تدريس فصول داخلية للموظفين، ولا يمكن أن يتم إعفاء أي شخص من هذه المهمة ولا حتى الرئيس التنفيذي نفسه.
بفضل هذا النهج أصبح بإمكان الشركات الهندية التي كانت تتقاتل في الماضي على المهندسين الهنود العائدين من الخارج أن تحصل على مواهب أفضل من السوق المحلي. وهذا أيضاً هو السبب وراء الصعوبات التي يواجهها الكثير من المهندسين الهنود العائدين من الخارج خلال السنوات الأخيرة أثناء سعيهم للحصول على وظائف جيدة.
مكّن هذا التطور المستمر للمهارات الهند من الانتقال إلى مستويات أعلى من الابتكار والتطوير في مختلف المجالات. ففي مجال الطيران، تساعد الشركات الهندية في تصميم كل شيء بداية من المحركات وصولاً إلى أنظمة الترفيه على متن الطائرة. وفي مجال الأدوية، حققت الشركات الهندية إنجازات ملفتة وتقوم حالياً بأبحاث سريرية لصالح أكبر الشركات العالمية. وفي صناعة السيارات يساعد المهندسون الهنود في تصميم هياكل ولوحات القيادة والمحركات في الكثير من مصانع السيارات في ديترويت.
باختصار، تسلط التجربة الهندية الضوء على ما يمكن أن تحققه أي دولة إذا قامت بالاستثمار في الارتقاء بمهارات القوى العاملة.
أخيراً، حاول أن تفكر في التالي: إذا كان باستطاعة برامج تدريب القوى العاملة أن تأخذ خريجي نظام تعليمي ضعيف مثل النظام الهندي وتحولهم إلى مهندسين وعلماء يتمتعون بصيت عالمي ويرأس بعضهم عددا من أكبر الشركات الموجودة على ظهر الكوكب، فما حجم التأثير الذي يمكن أن تحدثه مثل تلك البرامج مع أناس تلقوا تعليماً أفضل؟
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}