نبض أرقام
22:29
توقيت مكة المكرمة

2024/07/22

بقية القصة .. كيف أصبحت أمريكا قوة اقتصادية عظمى؟

2018/09/22 أرقام - خاص

في التاسع والعشرين من سبتمبر/أيلول 2006 قامت بريطانيا بسداد آخر دفعة من القروض التي حصلت عليها من الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية التي اندلعت في عام 1939.

 

الدفعة التي سددتها وزارة الخزانة البريطانية والتي بلغت قيمتها 42.4 مليون جنيه إسترليني كانت الدفعة الخمسين من القروض التي احتاجتها المملكة المتحدة قبل 7 عقود لتجنب الانهيار الاقتصادي بسبب التكلفة الباهظة لحربها مع ألمانيا التي استمرت ست سنوات.

 

 

في الجزء الأول من هذه القصة تناولنا ظروف صعود الولايات المتحدة خلال العقد الثاني من القرن العشرين كقوة اقتصادية عظمى لأول مرة في تاريخها، بعد أن تمكنت بمهارة من استغلال الظرف الاقتصادي والجيوسياسي الذي يمر به العالم في ذلك الوقت.

 

ولكن في هذا الجزء سنوضح كيف عززت الولايات المتحدة من مكانتها الاقتصادية والاستراتيجية على الساحة الدولية خلال السنوات التالية وخصوصاً أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، وكيفية استغلالها لأوراق قوتها في فرض الواقع الجديد الذي وجد العالم نفسه مضطراً للتكيف معه.

 

كلاكيت ثاني مرة .. الأمريكان على الحياد

 

تماماً كما حدث في الحرب العالمية الأولى، لم تكن الولايات المتحدة طرفاً في الحرب العالمية الثانية حينما اندلعت في سبتمبر/أيلول 1939 عقب اجتياح الألمان لبولندا. حيث كانت واشنطن لا تزال ملتزمة بقانون الحياد الصادر عن الكونجرس في عام 1935 الذي نص على حظر إعطاء القروض والتسهيلات الائتمانية بغرض التسلح للدول المتحاربة.

 

لكن مع تطور الحرب أدركت أمريكا أن حيادها ربما يعرقل أهدافها السياسية والعسكرية. لذلك، في الثالث والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول عام 1941، أي قبل 6 أسابيع من الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربور، أقر مجلس الشيوخ الأمريكي "قانون الإعارة والاستئجار" الذي سمح لرئيس الولايات المتحدة ببيع أو إعارة الأسلحة إلى أي حكومة يرى أن الدفاع عنها حيوي بالنسبة للمصالح الأمريكية.

 

حتى تلك اللحظة، لم تكن الولايات المتحدة قد تورطت بعد في الحرب، ولكنها بذلك القانون اقتربت بشكل كبير من المشاركة المباشرة فيها. حيث أعطى القانون الرئيس الأمريكي "فرانكلين روزفلت" سلطة غير محدودة لتوجيه مواد مثل الذخيرة والطائرات المقاتلة والدبابات لدعم الحلفاء في حربهم ضد ألمانيا.

 

 

على الرغم من أن هذا القانون تم استصداره في الأساس بغرض مساعدة بريطانيا بشكل رئيسي إلا أنه سرعان ما توسع ليشمل دولاً أخرى مثل فرنسا والصين والاتحاد السوفيتي.

 

تحت مظلة هذا القانون، أرسلت الولايات المتحدة إلى الحلفاء المؤن والإمدادات التي تقترب قيمتها من 50 مليار دولار (وهو ما يعادل 670 مليار دولار وفق حسابات عام 2017) إلى 38 دولة حليفة، كان نصيب بريطانيا منها 31.4 مليار دولار (420 مليار دولار حالياً) والاتحاد السوفيتي 11.3 مليار دولار (150 مليار دولار حالياً) وفرنسا 3.2 مليار دولار (43 مليار دولار حالياً) والصين 1.6 مليار دولار (21.5 مليار دولار حالياً) بينما كان الباقي من نصيب دول أخرى.

 

لكن هذا لم يكن بلا ثمن. فوفق المادة السابعة من القانون، اشترطت الولايات المتحدة على بريطانيا تحديداً التخلي عن نظامها الاقتصادي الإمبراطوري وعدم إنشاء أي أنظمة اقتصادية استعمارية بعد انتهاء الحرب، وهو ما اعتبره البريطانيون شرطاً قاسياً.

 

على خلفية إدراكه لحقيقة أن هذا الشرط سيكون بمثابة النهاية الفعلية للإمبراطورية البريطانية وهو ما يعني أن بريطانيا العظمى لن تكون قادرة على التنافس اقتصادياً مع الولايات المتحدة، حاول رئيس الوزراء البريطاني "وينستون تشرشل" إقناع الأمريكيين بالعدول عن هذا الشرط ولكن دون جدوى. وفي النهاية لم يكن أمامه سوى القبول به لأنه كان يعي جيداً أنه بدون مساعدة أمريكا ربما تخسر بريطانيا نفسها وليس مستعمراتها فقط.

 

اللحظة الفارقة .. أمريكا في المستنقع رسمياً

 

بهذه الطريقة أمسكت أمريكا العصا من المنتصف، فمن ناحية لم تتورط في الحرب التي يرفض الرأي العام الأمريكي التورط في مستنقعها، ومن ناحية أخرى لم تقف مكتوفة الأيدي وساعدت حلفاءها في حربهم ضد الجبهة التي يتزعمها الألمان.

 

ولكن هذا الوضع لم يستمر كثيراً، حيث وجدت واشنطن نفسها مضطرة للدخول في الحرب بعد الهجوم المباغت الذي شنته المقاتلات اليابانية على بيرل هاربور في 7 ديسمبر 1941. فبعدها بيوم أعلنت أمريكا الحرب على اليابان وتورطت في الحرب العالمية رسمياً. في ذلك اليوم تغير مجرى التاريخ.

 

رغم أن الأمريكان دخلوا الحرب بعد اندلاعها بحوالي عامين، إلا أنهم كانوا طوال تلك الفترة يعدون أنفسهم لاحتمال تورطهم فيها. لذلك حين حدث ما حدث ودخلوا الحرب كانوا على أتم الاستعداد لها.

 

 

فمع اتساع رقعة الحرب العالمية الثانية في جميع أنحاء أوروبا وآسيا خلال العامين الأخيرين من العقد الرابع من القرن العشرين، هرعت الحكومة الأمريكية إلى وضع خطة طارئة قامت خلالها بتوسيع القاعدة الصناعية للبلاد وتوجيهها نحو الإنتاج العسكري بعيداً عن السلع المدنية. فعلى سبيل المثال، تحول نشاط شركات صناعة السيارات إلى تصنيع الطائرات المقاتلة.

 

كانت أمريكا تصنع السلاح لنفسها ولحلفائها، وهو ما ساهم في دعم وازدهار الاقتصاد الأمريكي الذي كان لا يزال يحاول التعافي من آثار الكساد العظيم.

 

لذلك، كان الكثير من الأمريكيين يخشون من أن تعود الأوضاع إلى سابق عهدها بعد نهاية الحرب العالمية على خلفية الانخفاض المتوقع للإنفاق العسكري. ولكن بفضل الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو حرصت أمريكا على تعزيز قدراتها القتالية وضخت استثمارات كبيرة في أسلحة متطورة مثل القنبلة الهيدروجينية.

 

إعادة التقسيم .. العالم الجديد

 

عقب الحرب، عانت كل من بريطانيا وفرنسا من حالة تراجع إمبريالي، وكانت الدولتان الأوروبيتان قلقتين بشأن اقتصادهما الاستعماري أكثر من قلقهما بشأن مستقبل أوروبا. ولكن البلدين كانا قد خسرا بالفعل جزءاً كبيراً من مكانتهما الدولية السابقة عقب الحرب العالمية الأولى رغم رفضهما الاعتراف بذلك.

 

وبالمناسبة، هذه الحالة من إنكار الواقع هي ما دفعت بريطانيا وفرنسا إلى الدخول في الحرب العالمية الثانية دون طلب المساعدة من الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتي وذلك بغرض إثبات أنهما لا تزالان قوتين عظمتين. ولكن ماذا حدث؟ اضطرتا في النهاية لطلب المساعدة من الأمريكان والسوفيت وأضاعتا ما تبقى من مكانتهما الدولية.

 

على الجانب الآخر، نجد أن الولايات المتحدة كانت تقرأ المشهد بشكل أفضل وأكثر واقعية، ولذلك فهي لم تصبح قوى عظمى بالصدفة. وضع "روزفلت" من البداية خطة محددة لتأمين دور مهيمن لبلاده على الساحة العالمية، حيث أدرك أن السبيل الوحيد للسيطرة على الشؤون العالمية هو من خلال الحد من الدور الذي تلعبه أوروبا على الساحة الدولية.

 

 

سعى "روزفلت" إلى تقليص الدور الجيوسياسي لأوروبا من خلال ضمان تجزئة القارة إلى دول صغيرة شوكتها ضعيفة. وهذه بالمناسبة هي إحدى المرات النادرة التي اتفق فيها "روزفلت" مع الزعيم السوفيتي "جوزيف ستالين" الذي بحسب ما نقله عنه رئيس الوزراء البريطاني "وينستون تشرشل" أراد "أن تصبح أوروبا مكونة من دول صغيرة مفككة ومنفصلة وضعيفة".

 

لكن الفكرة هي أن "روزفلت" كان على يقين من أن الحرب العالمية الثانية ستدمر القوة العسكرية والاقتصادية لأوروبا، وستقضي على فرنسا وألمانيا كقوتين عالميتين، ولن ينجو منها سوى بريطانيا والاتحاد السوفيتي وهما القوتان اللتان ستنافسان الولايات المتحدة في الساحة الدولية.

 

ألمانيا خرجت من الحرب وهي جاثية على ركبتيها حرفياً، أما فرنسا التي تنتمي للمعسكر المنتصر فكانت الولايات المتحدة مصممة على عدم السماح لها بأي شكل باستعادة موقعها العالمي السابق، وهو ما دفع "روزفلت" إلى رفض تولي الجنرال "شارل ديجول" السلطة فور انتهاء الحرب.

 

عن هذه النقطة قال وزير الخارجية البريطاني السابق "أنتوني إيدن": "لقد أراد روزفلت أن يمسك بزمام مستقبل فرنسا، حتى يتمكن من تقرير مصير ذلك البلد". إصرار روزفلت على تحجيم فرنسا حليفته بدا غريباً بالنسبة للبعض، وذلك لأنه لم يبد هذا القدر من التشدد مع إيطاليا التي كانت من خصومه بالحرب.

 

لكن على عكس فرنسا، كان روزفلت حريصاً على عدم سقوط بريطانيا، وذلك بسبب إدراكه لحقيقة أن الولايات المتحدة لن تكون قادرة بمفردها على تحجيم الطموحات التوسعية للاتحاد السوفيتي في أوروبا. فقد كان "ستالين" يرغب في السيطرة على أي أرض تصل إليها جيوشه.

 

شرطي العالم الوحيد

 

خرجت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي من الحرب بمكاسب كبيرة وذلك بفضل قوتهما العسكرية، وهو ما سمح لهما بملء الفراغ الذي تركته القوى الإمبريالية المتدهورة في أوروبا، واليابان في آسيا. وهكذا تحولنا من عالم متعدد الأقطاب إلى عالم يتكون من قطبين.

 

بعد انتهاء الحرب، اتفقت بريطانيا وفرنسا المرهقتان اقتصادياً مع الولايات المتحدة على شروط سدادهما للمليارات التي اقترضاها خلال الصراع. بينما رفض الاتحاد السوفيتي سداد أغلب المبالغ التي حصل عليها.

 

في الوقت نفسه، ساهمت خطة "مارشال" التي نفذتها الولايات المتحدة عقب الحرب بغرض مساعدة أوروبا اقتصادياً في فتح أسواق جديدة أمام السلع الأمريكية، وهو ما ساعد القطاع الصناعي الأمريكي على الحفاظ على نموه عقب تحول أغلبه مرة أخرى إلى إنتاج السلع المدنية. وهكذا أصبحت أوروبا رهينة قدرة الولايات المتحدة على خلق الزخم الاقتصادي والسياسي والعسكري.

 

لكن الخطوة الأهم التي عززت من الهيمنة الاقتصادية الأمريكية هي اتفاق "بريتون وودز" الموقع في عام 1944، والذي أسس للوضع الاستثنائي الذي يتمتع به الدولار الأمريكي حالياً في النظام النقدي العالمي، والذي نتج عنه أيضاً تأسيس أهم مؤسستين ماليتين في العالم، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

 

 

بفضل هذه المعطيات الجديدة، خرج الاقتصاد الأمريكي من الحرب أقوى من أي وقت مضى، ليحقق بعدها قفزات هائلة في النمو والاستقرار، عززت من موقعه كأكبر اقتصاد في العالم. فقد ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي من تريليوني دولار في عام 1940 إلى 3 تريليونات في عام 1950 قبل أن يتجاوز 5 تريليونات في عام 1960.

 

بعد سنوات، انهار الاتحاد السوفيتي ليحل النظام أحادي القطب مكان النظام الدولي السابق ثنائي القطب. ومنذ ذلك الحين وباستثناء بعض المناوشات من هنا وهناك لا تزال الولايات المتحدة تحافظ على مكانتها باعتبارها القوة الاقتصادية والعسكرية الأهم والأقوى في العالم.

 

لكن، هل تنجح دولة مثل الصين أن تعيدنا إلى العالم ثنائي القطب؟ من يدري؟ الزمن وحده كفيل بالإجابة على هذا السؤال.

تعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

{{Comments.indexOf(comment)+1}}
{{comment.FollowersCount}}
{{comment.CommenterComments}}
loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.

الأكثر قراءة