نبض أرقام
09:43 م
توقيت مكة المكرمة

2024/11/23
2024/11/22

الأفعى والصياد .. المواجهة بين "مهاتير محمد" والمستثمر الذي كاد أن يقضي على الاقتصاد الماليزي

2018/10/27 أرقام - خاص

بعد شهرين من اندلاع الأزمة المالية الآسيوية، وتحديداً في العشرين من سبتمبر/أيلول عام 1997، وقف رئيس الوزراء الماليزي "مهاتير محمد" أمام تجمع يضم 3 آلاف من كبار المصرفيين والنخب الاقتصادية الحاضرة لمؤتمر البنك الدولي المنعقد آنذاك في هونج كونج ليلقي على مسامعهم أجرأ خطبه على الإطلاق.

 

 

وقبل أن نوضح تفاصيل القصة وعلاقة المضاربين و"جورج سوروس" تحديداً بالأزمة المالية الآسيوية وكيف أنهم دفعوا الجميع ناحية الحافة، من المهم جداً أن نستعرض بشكل سريع كلمة "مهاتير" التي كانت لها أصداء دولية كبيرة لأنها توضح تفاصيل مهمة جداً:

 

معتوه يحاول أن يقضي على كل شيء

 

قال مهاتير: "عندما تمت دعوتي للتحدث في هذا المؤتمر قبل ثلاثة أشهر كانت الأمور تمضي بسلاسة وعلى نحو جيد لدينا في آسيا ولا سيما في شرقها. كنا نعيش في سلام، وكان لدينا يقين بأن دولنا سوف تنمو اقتصادياً وتصبح بشكل تدريجي من بين القوى الاقتصادية العالمية".

 

"لقد نسينا ما حدث لليابان وكوريا الجنوبية. فعندما بدا هذان البلدان على وشك اللحاق بالعالم المتقدم، بدأت أمور غريبة تحدث لهما. فقد ارتفع الين الياباني فجأة لتنخفض القدرة التنافسية للسلع اليابانية، في حين تم استهداف كوريا الجنوبية وهي دولة صناعية حديثة باعتبارها دولة يجب أن يتم إيقاف مسارها."

 

"لقد نسينا حتى درس المكسيك التي ركع اقتصادها على قدميه عندما سحب الأجانب أموالهم فجأة، لتجد نفسها مضطرة لاقتراض 20 مليار دولار من أجل إنقاذ اقتصادها الممزق. وهناك من جنى أموالاً جيدة من وراء هذا القرض".

 

"نحن ضحكنا وسخرنا في ماليزيا على الإشاعات القائلة بأن بلدنا يمشي على خطى المكسيك وسيلقى نفس المصير. وتساءلنا كيف يمكن أن يحدث ذلك واقتصادنا سليم ومعافى تماماً، ولم يكن لدينا عملياً أي ديون أجنبية وكان نمونا مرتفعاً وتضخمنا كان منخفضاً. لكننا للأسف لم ندرك مدى قربنا من أزمة اقتصادية هناك من قام بهندستها".

 

 

"لكننا نعرف الآن سبب هذه الإشاعات. نحن نعلم أن الاقتصاد المكسيكي تم التلاعب به ودفعه نحو الانهيار، وأن اقتصادات البلدان النامية الأخرى يمكن أن تتعرض فجأة لذات المصير لتجد نفسها مضطرة للانصياع لمديري الصناديق الكبار الذين أصبحوا هم من يقررون أي الدول يجب أن تزدهر وتنجح وأيها لا يجب."

 

"لقد تم تحذيرنا بأن هناك جهات ذات نفوذ سوف تنزعج إذا أحدثنا أي ضوضاء أو تصرفنا على نحو لا يروق لهم، وأن هؤلاء إن تضايقوا فإنهم قادرون على تدميرنا تماماً. أي أن علينا أن نقبل أنهم موجودون وباقون وأنه لا يوجد شيء يمكننا فعله حيالهم. هم من سيحددون إذا ما كنا سنزدهر أو لا."

 

"نصف قرن قضته دول شرق آسيا تعمل فيه ليل نهار لتحسين أحوال شعوبها وبناء اقتصاداتها بعرقها وجهدها، ثم يأتي الآن معتوه مثل جورج سوروس ومعه الكثير من المال يحاول أن يقضي على كل ذلك."

 

في هذا المؤتمر رفض "مهاتير" الاجتماع مع "سوروس" الذي كان حاضراً أيضاً، ليصرح المستثمر الأمريكي في اليوم التالي أمام نفس التجمع قائلاً "أريد أن أعرب عن تعاطفي مع الماليزيين الفقراء الذين تضرروا بسبب انهيار عملتهم وتدهور سوق الأوراق المالية، وليس مع الدكتور مهاتير لأنه مسؤول".

 

كيف تسلل المضاربون إلى المنطقة؟

 

بداية من أواخر الثمانينيات وحتى اندلاع الأزمة المالية الآسيوية كانت ماليزيا موضع حسد من قبل العديد من الدول النامية والناشئة لما حققته من نمو وازدهار اقتصادي. وسميت ماليزيا وجيرانها بـ"المعجزة الآسيوية" بسبب ما حققته من نمو هائل واستقرار اقتصادي.

 

ولكن قطار هذه الدول توقف بشكل مفاجئ في يوليو/تموز 1997 عندما انهارت عملاتها وهبطت معها أسواقها المالية، وهو ما تزامن مع خروج المستثمرين الأجانب وتحويل المستثمرين المحليين أموالهم إلى الخارج.

 

ماليزيا التي كان ينظر إليها من جانب الكثير من الدول النامية باعتبارها النموذج أضحت تشاهد انهيار اقتصادها أمام أعينها.

 

"جورج سوروس" الملياردير الأمريكي الذي تمكن في عام 1992 من كسر بنك إنجلترا وإجباره على فك ربط الإسترليني بالمارك الألماني في عملية جنى فيها أكثر من مليار دولار، كان حاضراً، حيث بدأ في فبراير/شباط 1997 أي قبل ما يقرب من 5 أشهر من اندلاع الأزمة بالهجوم على البات التايلاندي والرينجيت الماليزي والبيزو الفلبيني والروبية الإندونيسية.

 

تركز الهجوم في البداية على البات التايلاندي ولكن سرعان ما انتقل إلى عملات كل من الفلبين وإندونيسيا وكوريا الجنوبية وهونج كونج وماليزيا. وتم هندسة ذلك الهجوم بشكل جيد لدرجة أن السرعة والحدة التي هبطت بها عملات تلك الدول أذهلت الكثير من المراقبين.

 

خلال الأشهر الثلاثة الممتدة بين يوليو/تموز وأكتوبر/تشرين الأول من عام 1997، خسر البات التايلاندي 40% من قيمته، بينما تراجعت الروبية الإندونيسية بنسبة 40%، في حين تراجع كل من البيزو الفلبيني والرينجيت الماليزي بنسبة 27%. أما الوون الكوري الجنوبي فقد خسر 35% من قيمته تقريباً.

 

 

الأمر في البداية كان مجرد هجوم من قبل المضاربين على العملات، ولكن سرعان ما تطور ليتسبب في انهيار أسواق الأسهم وإشعال شرارة أزمة مصرفية إقليمية. كما تسبب في خلق حالة من عدم الاستقرار السياسي في عدد من البلدان المتضررة.

 

حاولت هذه البلدان وبنوكها المركزية الدفاع عن عملاتها بمختلف الطرق والأشكال ضد هجمات المضاربين الذين لم يتراجعوا ولو للحظة، ولكن سرعان ما استسلمت – باستثناء ماليزيا – ولم تجد أمامها مفرا سوى اللجوء إلى تعويم عملاتها.

 

قام "سوروس" من خلال صندوقه "كوانتم فاند" بالمراهنة ضد البات التايلاندي بحوالي مليار دولار، وذلك من خلال بيع العملة التايلاندية المربوطة بالدولار الأمريكي في ذلك الوقت على المكشوف، مراهناً عن أن البنك المركزي سيضطر في النهاية إلى تعويم البات لتلامس قيمته الأرض.

 

في محاولة لمقاومة هجمات المضاربين الرامية إلى خفض قيمة العملة قام المركزي التايلاندي بإنفاق جزء كبير من حيازاته الدولارية على شراء البات في سوق الصرف الأجنبي، كما قام برفع أسعار الفائدة وحظر تداول الأجانب على البات خلال الأشهر القليلة الأولى.

 

انخفضت احتياطيات البنك من 37.2 مليار دولار في ديسمبر/كانون الأول 1996 إلى 30.9 مليار دولار في يونيو/حزيران 1997، كان من ضمنها 23.4 مليار دولار تخص التزامات قصيرة الأجل. كما ارتفعت الديون الخارجية للبلاد إلى 100 مليار دولار.

 

وفي حين أن هذه الإجراءات تمكنت فعلاً من دعم البات، وهو ما كبد "سوروس" وغيره من المضاربين خسائر معتبرة، إلا أن هذا الدعم سرعان ما انهار، حيث عاد المضاربون للهجوم على العملة بعد من تأكدوا من أن المركزي التايلاندي استنفد كل قوته ولم يعد يمتلك أي شيء يمكن من خلاله الدفاع به عن العملة.

 

بحلول أغسطس/آب 1997، استنفد المركزي التايلاندي كل الأموال والأدوات التي يمكنه من خلالها صد ضربات المضاربين، ليضطر البنك في النهاية إلى تعويم البات.

 

"سوروس" يدعي أنه لم يبدأ تلك الأزمة وأن أخطاء المركزي التايلاندي هي السبب في تلك الكارثة. وعن هذه الواقعة يقول: "حين قمنا ببيع البات التايلاندي على المكشوف في يناير/كانون الثاني عام 1997، أرسل صندوق كوانتم فاند الذي تديره شركاته الاستثمارية إشارة إلى السوق بأن البات قد يكون مبالغاً في تقييمه. ولو استجابت السلطات هناك لما استنزفت احتياطيها الدولاري ولكان التعديل حدث في وقت أقرب وكان أقل إيلاماً. لكنها سمحت بتراجع هذا الاحتياطي، وحين كسر البنك المركزي كان الأمر كارثة."

 

ماليزيا ومحاصرة المضاربين .. سياسات غير تقليدية

 

"نور محمد يعقوب"..  هذا هو اسم الرجل الذي صمم بدقة مجموعة من السياسات غير التقليدية التي انتهجتها ماليزيا لإدارة الأزمة. كان "يعقوب" يشغل منصب مدير مكتب تداول العملات الأجنبية في البنك المركزي الماليزي. وتمت إقالته بعد تسببه في خسارة البنك الأموال الكثيرة عندما راهن على أن بنك إنجلترا لن يسمح بتعويم الإسترليني خلال الأزمة التي تعرض لها في أغسطس/آب 1992، على خلفية هجوم شنه مجموعة من المضاربين بقيادة "سوروس".

 

مع بداية الأزمة، قام "مهاتير محمد" باستدعاء "نور يعقوب" من التقاعد، واجتمع معه في مكتبه وطلب منه أن يشرح له الأزمة. أعجب مهاتير بالشرح والتفسير الواضح للأزمة من جانب يعقوب، وطلب منه أن يبدأ على الفور في العمل على تصميم حل للأزمة.

 

يشير الكثير من الخبراء إلى أن السياسات التي صممها "يعقوب" كانت غير عادية من حيث درجة الدقة ومستوى التعقيد.

 

أشارت دراسة أعدتها باحثة من جامعة هارفارد تحت عنوان "رأس المال وضوابطه: دروس من ماليزيا" إلى أن البيان الصحفي الصادر عن المركزي الماليزي في الأول من سبتمبر أيلول 1997 يعطي إحساساً بأن السلطات الماليزية قد أخضعت كل بند من بنود ميزان المدفوعات لتحليل وفحص دقيقين، من أجل التوصل إلى أفضل الطرق لمنع التدفقات النقدية قصيرة الأجل من الخروج والقضاء على أنشطة المضاربة على الرينجيت.

 

في عملية أشبه بالعمليات الجراحية الدقيقة تمكنت ماليزيا من توجيه الضوابط الصارمة المفروضة على التدفقات النقدية ناحية رؤوس الأموال قصيرة الأجل، دون أن تمس رؤوس الأموال طويلة الأجل – أو الاستثمار الأجنبي المباشر – التي كان الاقتصاد يعتمد عليها.

 

كانت السياسة غير التقليدية وربما الأكثر شذوذاً هي تلك التي فرضتها ماليزيا على التدفقات النقدية الخارجة.

 

حيث طلبت ماليزيا من غير المقيمين الانتظار لمدة عام كامل قبل أن يقوموا بتحويل أرباحهم في سوق الأسهم الماليزي. أي أن الأجانب الذين باعوا حيازاتهم في سوق الأسهم الماليزي لم يتمكنوا من الحصول على أموالهم قبل عام.

 

في فبراير/شباط 1999، استبدل المركزي الماليزي هذا النظام من خلال مقياس الضرائب المتصاعدة على مكاسب رأس المال الخارجة، والتي تراوحت قيمتها من 10 إلى 30%. ثم جاء البنك في سبتمبر من نفس العام وعدل المقياس ليتضمن ضريبة ثابتة قدرها 10%، وذلك قبل أن يلغي هذا النظام في فبراير 2001.

 

 

أما السياسة الأكثر دهاءً فقد كانت تلك الخاصة بالقضاء على سوق تداول الرينجيت بالخارج، والذي كان ينظر إليه على أنه مصدر لأموال المضاربة والسبب في الضغوط الصعودية الواقعة على أسعار الفائدة المحلية.

 

لبلوغ تلك الغاية، طلبت الحكومة الماليزية إعادة جميع الرينجيت المتداول في الخارج إلى الوطن في غضون شهر واحد، وأكدت على أنه بعد انقضاء ذلك الشهر سيتم اعتبار الموجود من الرينجيت في ماليزيا دون غيرها كعملة قانونية، أي أن تلك الأموال التي ستبقى خارج ماليزيا ستصبح بلا قيمة.

 

علاوة على ذلك، تم منع الماليزيين أنفسهم من الاستثمار في الخارج دون الحصول على موافقة مسبقة من البنك المركزي، كما تم حظر إقراض الأجانب من جانب الماليزيين. وبتلك الإجراءات البسيطة، نجحت ماليزيا في القضاء على السوق الخارجي للرينجيت.

 

عن هذه السياسة يقول "نور يعقوب" : "من الأسهل علينا منع من لديه رينجيت من إقراض المضاربين، وليس منع المضاربين من الاقتراض".

 

من بين التدابير التي اتخذتها ماليزيا أيضاً في سعيها لمحاصرة أنشطة المضاربة التي يقودها "سوروس" قيامها بتثبيت سعر الصرف عند 3.8 رينجيت لكل دولار أمريكي، وقامت بإغلاق "السجلّ المركزي للطلبيات المحدّدة" (CLOB) – وهو طريقة تداول تستخدمها معظم البورصات على مستوى العالم – والذي كان ينظر إليه على أنه يمثل ثغرة يتمكن من خلالها الأجانب من إخراج عائدات مبيعات أوراقهم المالية.

 

مستوى التعقيد والتطور الذي اتسمت به السياسات نجح في تجنيب ماليزيا – التي رفضت اللجوء كجيرانها إلى صندوق النقد الدولي –  الأسوأ. ومع الوقت تحسنت قيمة الرينجيت الذي نجا من فخ التعويم، وهو ما انعكس على الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، والذي نما بنسبة 5.8 في عام 1999 وبنسبة 8.5% في عام 2000، عقب انكماشه بنسبة 7.4% في عام 1998.

 

"اذهب إلى مكان آخر"

 

في التاسع والعشرين من سبتمبر/أيلول، أي بعد أيام قليلة من عودته من هونج كونج، أجرت صحيفة "فورتشن" الأمريكية مقابلة مع "مهاتير محمد" حول اتهاماته لـ"سوروس" وجهت إليه المجلة خلالها الأسئلة التالية:

 

فورتشن: هناك تصريحات معادية للسامية في التقارير التي تنشرها الصحف الماليزية عن السيد "سوروس". ما الذي تنوي فعله حيال ذلك؟

 

مهاتير: لا، لسنا معادين للسامية، لأن العرب كما تعرفون هم أيضاً من الشعوب السامية. لطالما عاملنا اليهود الأمريكيين دون أي تمييز على الإطلاق. ولكن عندما يقوم شخص يهودي بمثل ما قام به سوروس فإن التأثير هو ذاته عندما يقوم شخص مسلم بعمل إرهابي. على الفور يتم ربط المسلمين بالإرهاب، رغم أن عامة المسلمين لا يتصرفون كإرهابيين."

 

 

فورتشن: هل أنت قلق من أن نزاعك مع السيد سوروس سوف يتسبب في إحجام المستثمرين الأجانب عن المجيء إلى ماليزيا؟

 

مهاتير: ليس لدينا خيار آخر. لقد كبد سوروس ومن معه اقتصادنا مليارات الدولارات من الخسائر، وإذا كنا سنجلس مكاننا لا نفعل شيئاً خوفاً من أن  يولي المستثمرون الأجانب وجوههم عنا، فسوف ندفع الثمن غالياً لاحقاً."

 

فورتشن: إذا كان السيد سوروس موجوداً هنا أمامك، ماذا ستقول له؟

 

مهاتير: سأقول له اذهب إلى مكان آخر.

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.