في اليونان القديمة، كانت هناك مدينتان رئيسيتان مستقلتان، ورغم القرب النسبي بينهما وأوجه الشبه والمصاهرة والتقارب العرقي لسكانهما، كانت هناك بعض الخلافات الجوهرية أيضًا، قادتهما إلى صراع صفري سعى كل منهما فيه لمحو الآخر من سجلات التاريخ وحتى الجغرافيا، لكن ما سبب هذا الكره الشديد بين أثينا وسبارتا؟
حظيت أثينا بنظام حكم مستقل ديمقراطي (يُعتقد أنها أول من وضع نظام حكم ديمقراطي في التاريخ)، واختار السكان حكوماتهم، وازدهرت المدينة في مجالات عدة واشتهرت آنذاك بتفوقها في الفنون والعمارة والعلوم، وقادت ثورة تنمية وتحولت إلى منارة للحضارات في ذلك الوقت.
أما جارتها، سبارتا (أسبرطة)، فكان نظام الحكم فيها عسكريًا جبريًا، حيث تحكمت قلة في شؤون المدينة، وفي بعض الحالات كان يتم إجبار الملوك على التنازل عن العرش عنوة، لكن اشتهرت المدينة بقدراتها الحربية حيث ركزت طويلًا على بناء جيش قوي وكبير، وذاع صيتها لبأس مقاتليها الشديد.
وأسهمت أثينا بشكل كبير في تطوير الثقافة والعلوم والفنون الغربية، وأخرجت عددًا كبيرًا من الفلاسفة والمؤرخين والعلماء وهو ما افتقدته سبارتا، ومع هذا الازدهار الذي حظيت به الأولى بدأت المدينة تتوسع جغرافيًا وعسكريًا وسياسيًا، وهو ما أثار مخاوف جارتها اليونانية التي لم تُعرف سوى بامتلاكها جنودًا يُخشى نزالهم.
ونظرا لتعاظم مخاوف سبارتا من تعاظم قوة أثينا البحرية والعسكرية -حتى أنها تفوقت على الفرس في عدة معارك- اندلعت الحرب بين المدينتين، الشهيرة باسم الحرب البيلوبونيزية، وبعد التوسعات الاستعمارية والصلات التجارية التي وطدتها، مع العلم أن هناك مؤرخين يقولون إن هذه التوسعات جاءت على حساب بعض حلفاء سبارتا، لكن على أي حال انتهت هذه المخاوف مع سقوط أثينا، في صراع كان بمثابة حجر الدومينو الأول الذي أفضى إلى تداعي الحضارة اليونانية القديمة.
نعلم تماما أن الصراعات وتطورها عامل له حضوره وتأثيره في حياة البشر وكذلك الدول منذ فجر التاريخ، والحروب البيلونيزية ليست سوى أحد الأمثلة على القلق أو الغيرة من أسبقية وأفضلية دولة، وما يتبع ذلك تداعيات، وإن اختلف شكل ذلك الصراع سواء بالنسبة للدول أو حتى الشركات في يومنا الحالي.
الصراع يتجدد بشكل مختلف
- بعد أكثر من 2400 سنة، عاد صراع "أثينا - سبارتا" للواجهة في عصرنا الحديث مع تغير طبيعة العلاقات التي تجمع بين الولايات المتحدة والصين، ورغم تشابك المصالح وتداخلها، كونهما يشكلان أكبر وثاني أكبر اقتصادين في العالم على الترتيب، ويراهما البعض خصمين متناحرين في المستقبل، بل إن البعض ذهب إلى اعتبار النزاع التجاري الأخير معركة أولى في حرب باردة جديدة.
- كانت العلاقة قوية بين الجانبين خلال فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها، فمواجهة الولايات المتحدة لليابان ساعدت في إنهاء هذا الصراع الأممي، ومعه انسحب اليابانيون من مواقع المواجهة مع الصين التي عانت كثيرًا جراء هذه الحرب.
- لكن الأمور تبدلت بعد ذلك مع اعتلاء الشيوعيين بقيادة "ماو تسي تونغ" للسلطة في الصين، وكانت هناك مواجهات عسكرية بين الجانبين في حربي كوريا وفيتنام، بيد أن التوتر بين الجانبين هدأ كثيرًا خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي، ومع ذلك فإن الصراع بين البلدين قد لا ينتهي لكنه سيأخذ أشكالًا مختلفة.
- لعل أبرز هذه الأشكال، الصراع التجاري والتصدي للانتشار التكنولوجي، فمنذ تولي الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" مقاليد الأمور في الولايات المتحدة، كرر تهديداته بالحرب التجارية للضغط على الصين صاحبة الثقل الكبير في الميزان التجاري بين الجانبين.
- "ترامب" أوفى بتعهداته وفرض رسومًا جمركية بشكل تدريجي على سلع صينية بلغت قيمتها في نهاية المطاف نحو 250 مليار دولار، فيما استهدفت الصين منتجات أمريكية قيمتها 110 مليارات دولار، ورغم تبادل التهديدات بين الجانبين، تمكن رئيسا البلدين من التوصل لهدنة يتم بمقتضاها وقف أي تصعيد في هذا الشأن لمدة 3 أشهر لإجراء محادثات.
ملامح الخوف الأمريكي
- بعيدًا عن الصراع التجاري الذي تستهدف من خلاله أمريكا تحقيق أكبر مكسب مادي عبر بيع المزيد من السلع وخفض المشتريات، وتطمح فيه الصين إلى مواصلة التوسع في تصدير منتجاتها، عكفت الولايات المتحدة على التصدي للتوسع التكنولوجي للصين لا سيما في مجال الاتصالات، تارة بدعوى وجود مخاوف متعلقة بالأمن القومي، وأخرى بدعوى انتهاك قوانينها.
- في مايو/ أيار 2018، أكدت وزارة الدفاع الأمريكية أنها لن تسمح ببيع جوالات شركتي "هواوي" و"زد تي إي" الصينيتين "قرب" قواعدها العسكرية، وقال المتحدث باسم البنتاجون آنذاك إن هذه الأجهزة تشكل خطرًا على الوزارة وموظفيها، إذ يرى مسؤولون أمريكيون أن بكين قد تستغلها في عمليات تجسس أو تعطيل للاتصالات.
- "زد تي إي" من أكبر منتجي معدات الاتصال في الصين، وتبيع منتجاتها في الولايات المتحدة منذ فترة بعيدة وتعمل عبر وسطاء، وتعد رابع أكبر مورد للجوال في أمريكا، لكن واشنطن حظرت عليها استيراد مكونات من موردين أمريكيين مع غرامة قدرها 1.3 مليار دولار بدعوى تصديرها منتجات إلى إيران وكوريا الشمالية.
- أما "هواوي"، ورغم حصتها المتواضعة من سوق الجوال الأمريكي، فقد استطاعت سريعًا ترسيخ قواعدها العالمية، وأصبحت ثاني أكبر منتج في العالم، متفوقة على "آبل"، كما أنها مثل "زد تي إي" تمتلك سمعة عالمية في مجال معدات الاتصال وشبكات الإنترنت، وعملت مع كبرى شركات الاتصالات العالمية، ووفقًا لبعض الإحصاءات دخلت في شراكة مع 80% منها.
- في تقرير لـ"فاينانشيال تايمز" خلال يوليو/ تموز الماضي، قالت الصحيفة إن قلق الولايات المتحدة من براعة التكنولوجيا الصينية ينعكس في مناقشات السياسيين حول إعادة النظر في مواقفهم تجاه الاستثمار الأجنبي.
- نقلت الصحيفة أيضًا عن "بيتر نافارو" مساعد الرئيس الأمريكي لشؤون الصناعة والتجارة قوله: لقد استهدفت الصين صناعات أمريكا المستقبلية، والرئيس "ترامب" يفهم أكثر من غيره، أنه إذا نجحت الصين في الفوز بهذه الصناعات الناشئة، فلن يكون للولايات المتحدة مستقبل اقتصادي.
- إن سعي الصين لتولي زمام الأمور في صناعة التكنولوجيا العالمية لا هوادة فيه، حيث تطمح في قيادة أعمال أشباه الموصلات والبحث والتطوير والطاقة النظيفة، وتعمل على تسريع الاستثمار العلمي في الوقت الذي تتراجع فيه الولايات المتحدة، بحسب تقرير لموقع "كومبيوتر وورلد".
- وبحسب التقرير، رجح خبير حوسبة في وكالة الأمن القومي ووزارة الطاقة الأمريكية، نجاح الصين في تصدر سباق الحوسبة الفائقة بحلول عام 2020 ما لم تتحرك الولايات المتحدة، وقال: ذلك لا يُعرض الأمن القومي الأمريكي للخطر فحسب، بل أيضًا ريادة البلاد في مجال التصنيع، ما يعني أن الصين ستصبح قادرة على تقويض بعض الأعمال الرابحة في اقتصادنا.
"هواوي" تهدد أمن أمريكا وحلفائها
- تأسست "هواوي" في الأساس لإنهاء اعتماد الحكومة الصينية والقوات المسلحة للبلاد على شركات الاتصالات الأجنبية، وهو ما أكسبها قربًا من الدولة (مؤسسها كان مهندسًا سابقًا في جيش التحرير الشعبي)، ناهيك طبعًا عن الدعم الحكومي السخي لها، بجانب توسعها السريع وإمكانياتها الهائلة، ما يثير مخاوف الحكومات الغربية.
- الصراع الصيني الأمريكي المتجسد في محاولات الولايات المتحدة وحلفائها التصدي للتوسع التكنولوجي الصيني في مجال الاتصالات، بات أكثر وضوحًا خلال الأسابيع الماضية عبر سلسلة من التصريحات المتبادلة، والتي يرتقي بعضها إلى حد التهكم.
- في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بعدما حظرت الولايات المتحدة وأستراليا توريد منتجات الشركة الصينية، تناولت صحف أمريكية تقارير تشير إلى تجسس كل من الصين وروسيا على مكالمات الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" عبر جواله "الآيفون"، وهو ما ردت عليه مسؤولة في الخارجية الصينية قائلة: إذا كانوا قلقين من التجسس على جوالات "آيفون" فعليهم استخدام أجهزة "هواوي".
- وكانت "هواوي" قد أعلنت مؤخرًا تطوير رقاقة إلكترونية للجوالات تعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي، وأعقب ذلك تأكيدها العمل على تطوير نظام تشغيل للجوالات بهدف إنهاء هيمنة نظامي "آندرويد" و"آي أو إس" المملوكين لشركتين أمريكيتين، بعدما أشارت تقارير صحفية إلى أن هذه الخطوة ستأتي ردًا على تعنت واشنطن في وصول الشركة الصينية إلى السوق الأمريكي.
- على خطى البنتاجون، دعت وكالة استخباراتية أسترالية إلى حظر نشر تقنية الجيل الخامس للاتصالات الخلوية من "هواوي" في البلاد متعللة بمخاوف حيال الأمن القومي، وهو تصريح كرره رئيس وكالة الخدمة السرية في المملكة المتحدة، فيما منعت حكومة نيوزيلندا أكبر مشغل اتصالات لديها من استقدام هذه التقنيات لنفس الأسباب.
- من جانبها أكدت الشركة عزمها استكمال مشروع للإنترنت في بابوا غينيا الجديدة رغم الاعتراضات الأمريكية والأسترالية واليابانية، وفي لهجة تحد قالت إن الولايات المتحدة قد لا تربح سباق تكنولوجيا الجيل الخامس إذا لم تسمح لها بالعودة إلى السوق الأمريكي.
- في أحدث تصعيد ضد الشركة الصينية، اعتقلت السلطات الكندية نائبة رئيس مجلس الإدارة والمديرة المالية "وانزهو مينج" وهي أيضًا ابنة مؤسس "هواوي"، على خلفية تحقيق تجريه وزارة العدل الأمريكية حول بيع الشركة معدات إلى إيران.
-هذا جزء مما يطفو على السطح في الصراع الأمريكي/الصيني على عدة أصعدة وليس سباق التكنولوجيا أو حتى الاقتصاد وحده، وما الحرب التجارية التي تعيش هدنة مؤقتة قد تبدو هشة مع التطورات الجارية إلا مثال على حالة الشد والجذب التي يترقب العالم نهايتها ودروس الماضي البعيد حاضرة بنتائجها وإعادة التاريخ إنتاج أحداثه لا تمحى من الذاكرة.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}