نبض أرقام
07:45 م
توقيت مكة المكرمة

2024/11/23
2024/11/22

كيف هزمت البرازيل التضخم المفرط وعالجت جنون الأسعار؟.. الإنصات لأهل الخبرة

2018/12/16 أرقام - خاص

في عام 1994، أطلقت البرازيل عملتها الجديدة "الريال"، لوضع حد لعقود من التضخم الجامح الذي أفسد اقتصاد البلاد وأفقر العباد، فطوال أكثر من نصف قرن بدأت منذ عام 1942 لم يشهد البلد اللاتيني أي معدل تضخم سنوي مكون من رقم واحد، أي أنه لم ينخفض دون 10%، والأكثر أنه تجاوز الأربعة أرقام (1000% فأكثر) طول الثمانينيات والتسعينيات.

 

وخلال أوائل التسعينيات، شهد الاقتصاد البرازيلي فوضى عارمة، وانكمشاً على مدار 3 سنوات، وفي عام 1993 بلغ التضخم السنوي 2477%، وتشير بعض التقديرات إلى وصول معدل التضخم التراكمي خلال الفترة بين عامي 1964 و1994 إلى كوادريليون في المئة (واحد وعن يمينه خمسة عشر صفراً).
 


في هذه الأثناء اضطر أصحاب المتاجر  لتعديل الأسعار كل يوم مرتين، مرة صباحاً، وأخرى بعد الظهيرة، ما كان يقود المتسوقين إلى التدافع لشراء السلع بسعر أول اليوم أو حتى سعر الأمس، وترجع جذور المشكلة إلى فترة منتصف القرن العشرين، عندما عمدت الحكومة إلى طباعة المال بكثرة لتمويل بناء عاصمة جديد في برازيليا.

 

إسناد الأمر لأهله
 

- تقول الإذاعة الوطنية الأمريكية في موقعها عبر الإنترنت: إنه بحلول عام 1992، تم تعيين وزيرٍ للمالية في البرازيل لم يكن يفقه شيئاً في الاقتصاد لكنه قرر الاستعانة بأهل الخبرة لتحسس خطواته قبل المُضي قُدماً، لذا وقع اختياره على أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأسقفية الكاثوليكية في ريو دي جانيرو "إدمار باشا".
 

- في اتصاله مع "باشا"، قال الوزير "حسناً، لقد تم تعييني للتو وزيراً للمالية، وكما تعلم؛ لا أعلم شيئاً بخصوص الاقتصاد، لذا أرجو أن تحضر غداً إلى برازيليا"، ورغم أن الخبير الاقتصادي المحنك وأصدقاءه كانوا في انتظار هذه المكالمة لعقود، لكنه شعر بالارتباك.
 

- فجأة وجد "باشا" نفسه بين جمع من المسؤولين الحكوميين، الذين أخبروه "حسناً، لقد حانت لحظتك، افعلها على طريقتك"، وتمت دعوته للقاء رئيس البلاد، ورغم حساسية الاجتماع، تحرر "باشا" من الرسميات ليطالب الرئيس بكتابة تذكار لأبنائه.
 

 

- لم يتردد الرئيس البرازيلي آنذاك "ايتامار فرانكو" في تلبية طلب الخبير الاقتصادي وكتب إلى أبناء "إدمار باشا" قائلاً: أرجوكم أن تخبروا والدكم أن يعمل سريعاً على تحقيق مصلحة البلاد.
 

- طالب "باشا" وثلاثة اقتصاديين آخرين الحكومة بإبطاء وتيرة طباعة الأموال، لكنهم أيضاً أكدوا على ضرورة بث الثقة في الناس وإشعارهم بأن الأموال التي بين أيديهم ستحافظ على قيمتها، وبناءً عليه توصلوا إلى ضرورة ابتكار عملة جديدة مستقلة ويمكن الاعتماد عليها.
 

- لكن العملة الجديدة لم تكن العلاج المطلق، فقد كان على البلاد أولاً ضبط موازنتها، بعد عقود من الإنفاق المفرط، في جهد ألقي على عاتق "هنريك كاردوسو" وزير المالية ومهندس خطة الإنقاذ، بحسب "الإيكونوميست".

 

خداع نفسي
 

- من المعروف أن أزمة التضخم الجامح في البرازيل انحسرت مع طرح عملة "الريال" الجديدة، والتي أعقبها انخفاضٌ في الرسوم الجمركية، ما تسبب في إغراق السوق المحلية بالسلع المستوردة، وكان ذلك كفيلاً بالضغط على المنتجين المحليين لمنع أسعارهم من الارتفاع، لكن هذه الخطوة ليست بالسهولة التي يتخيلها البعض، فلم تبدأ المطابع على الفور في إنتاج أكوام من العملة الجديدة، بل احتاج الأمر لمراوغة نفسية.
 

- العملة المقترحة في ذلك الوقت لم تكن حقيقية؛ لا ورقية أو معدنية، بل مزيفة، ويقول "باشا": لقد أطلقنا عليها وحدة القيمة الحقيقية، كانت افتراضية وغير موجودة في الواقع، حيث سيواصل الناس استخدام العملة القديمة "الكروزيرو"، لكن رواتبهم والضرائب والأسعار ستُقيم بناءً على الوحدة الجديدة، كل ما تغير فقط هو ما يعادله الكروزيرو من وحدات.
 

- على سبيل المثال، إذا كان الحليب يكلف المواطن في يوم معين وحدة قيمة حقيقية واحدة، والتي تعادل بدورها 10 كروزيرو، فإن سعره سيظل وحدة واحدة بعد شهر، لكن هذه الوحدة ستعادل 20 كروزيرو، والمغزى من ذلك هو جعل الناس يربطون الأسعار بالوحدة الجديدة ويتوقفون عن توقع ارتفاع  الأسعار دائماً.
 

 

- وفقاً للموقع التعليمي "إم بي إيه سكول"، فإن فكرة وحدة القيمة الحقيقية كانت عبارة عن مؤشر، تعادل فيه الوحدة دولاراً أمريكياً واحداً، ومع هذا الربط ظلت الأسعار مستقرة (رغم تغيرها قياسياً بالعملة القديمة).
 

- استخدم الناس، الوحدة الجديدة لبضعة أشهر في التسعير والتقييم، وبدأوا يستشعرون استقرار الأسعار، وما إن ساد هذا الإحساس، قرر "باشا" ورفاقه تحويل العملة الافتراضية إلى أخرى حقيقية، والتي أطلقوا عليها اسم "Real" وتعني "حقيقي".
 

- يعلق "باشا" على هذه الحيلة قائلاً: سيتلقى الجميع من الآن فصاعداً أجورهم ويدفعون ثمن جميع السلع بالعملة الجديدة الحقيقية التي يتقبلون قيمتها ويثقون فيها.
 

 

- واجهت العملة البرازيلية تحديات صعبة خلال الفترة بين عامي 1999 و2003، لكن سلطات البلاد بالتعاون مع "باشا" ورفاقه الذين تصدروا المشهد الاقتصادي، تمكنوا من درء المخاطر واستعادة المصداقية عبر سياسات تكبح التضخم، بحسب "بي بي سي".
 

- اشتهرت خطة الإنقاذ هذه باسم "خطة الريال" أو "ذا ريال بلان"، لكنها لم ترتكز على إطلاق عملة جديدة ووحدة مختلفة للقيمة وحسب، بل شملت أيضاً إنشاء صندوق طوارئ اجتماعي (عملية احتاجت لتعديل دستوري)، وإجراء عملية إصلاح نقدي شاملة، وصياغة سياسة صرف جديدة ونهجاً توسعياً تجاه التجارة الدولية.
 

- الخلاصة، أن البرازيل أصبحت تمتلك نظاماً نقدياً مبتكراً وُلد من رحم واحدة من أسوأ حالات التضخم المفرط في العالم، وسجلت البلاد نمواً جيداً منذ أوائل الألفية الثالثة، وهي الآن ثامن أكبر اقتصاد في العالم.

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.