لماذا لا نعالج مشكلة الفقراء بمنحهم مزيدًا من الأموال لسد احتياجاتهم؟ الأمر بسيط، كل ما على البلدان فعله هو طباعة المزيد من النقود باستخدام أوراق البنكنوت، ومع إصدار الكثير من النقد سيحصل الأشخاص الأقل دخلًا على فرصة للإنفاق، وفي الوقت نفسه سيحصل النشاط الاقتصادي على قوة دافعة جديدة، كما يمكن تغطية التزامات الحكومات من الديون عبر هذه الأموال الإضافية.
لكن لو كانت الأمور بهذه البساطة واليسر ما كان هناك فقير ولا دولة في أوضاع اقتصادية متأزمة، فعند الحديث عن السياسات والإجراءات النقدية وخاصة طباعة النقود، فالأمر في غاية الحساسية ويحتاج لخطوات مدروسة ومتأنية حتى لا تنفجر الأوضاع ويقع ما لا يُحمد عقباه.
الحديث عن طباعة المزيد من النقود للتغلب على الضوائق المالية، لم يقتصر على البلدان الفقيرة فحسب، ورغم خطورة الفكرة تم تداولها في مناطق أخرى متقدمة، مثل الولايات المتحدة، إذ يقول الكاتب "بوب وودوارد" في كتابه "الخوف: ترامب في البيت الأبيض" إن الرئيس الأمريكي طلب من مدير المجلس الاقتصادي الوطني "غاري كوهن" الاعتماد على الطباعة لمعالجة أكوام الديون الفيدرالية التي لا تستطيع الحكومة التغلب عليها ببساطة.
الثمن الغالي لطباعة النقود
- في الأساس تكون مهمة طباعة النقود من أعمال البنوك المركزية المستقلة عن السلطة السياسية والتنفيذية في البلاد، وتعمل هذه البنوك على إدارة المعروض النقدي في الاقتصاد لتعزيز النمو غير التضخمي، فإذا لم يكن هناك تحسن في النشاط الاقتصادي يتناسب مع مقدار المال المطبوع سيصبح التضخم أسوأ، أو كما يقول البعض "سيصبح هناك الكثير من المال يطارد القليل من السلع".
- بحسب موقع "إيكونوميكس هيلب" فإن طباعة الأموال لا تؤدي إلى زيادة في الناتج الاقتصادي بأي شكل من الأشكال وإنما تقود إلى تفاقم معدلات التضخم، وارتفاع الأسعار، لسبب بسيط وهو زيادة المعروض النقدي مع ثبات المعروض السلعي.
- ولفهم أعمق لهذا السبب، دعونا ننظر على المثال التالي، لو أن هناك اقتصادا ينتج مليون سلعة بقيمة 10 ملايين دولار (10 دولارات للسلعة الواحدة) هذا سيعني أن المعروض النقدي في البلاد يساوي 10 ملايين دولار أيضًا.
- إذا تضاعف المعروض النقدي في الاقتصاد عبر الطباعة المفرطة للأموال، فسيظل المعروض السلعي هو مليون سلعة دون تغير، لكن الناس سيصبح لديهم وفرة من المال وسيزيد طلبهم على هذه السلع، وبالتالي سترفع الشركات الأسعار.
- بالتالي، إذا تضاعف المعروض النقدي إلى 20 مليونا من 10 ملايين دولار مع بقاء عدد السلع المنتجة كما هو دون تغير، فإن الأسعار ستتضاعف أيضًا، لتبلغ تكلفة السلعة الواحدة 20 دولارًا، ما يعني زيادة قدرها 100% في التضخم.
- في هذا الحال يمكن القول ببساطة إن الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي مجرد سراب، صحيح أنه أصبح هناك المزيد من المال، ولكن مع ارتفاع تكلفة كل شيء دون نمو طبيعي في حجم السلع التي ينتجها الاقتصاد تصبح الأمور أسوأ.
- من جهة أخرى، لو زاد المعروض النقدي بنفس المعدل الذي نما به المعروض السلعي لتفادى الاقتصاد مغبة السقوط في فخ التضخم، ففي المثال السابق إذا ارتفع عدد السلع إلى 1.5 مليون فيمكن حينها زيادة المعروض النقدي إلى 15 مليون دولار دون أي تحريك للتضخم.
- الخلاصة أنه لا يوجد بلد غني أو فقير، يريد طباعة أموال أكثر مما لديه، لأن ذلك يقود إلى مزيد من التضخم وليس إلى نمو اقتصادي حقيقي.
معضلة التضخم
- يقع التضخم لأربعة عوامل، هي ارتفاع المعروض النقدي، وانخفاض المعروض السلعي، وتراجع الطلب على النقد، وتزايد الطلب على السلع، وفي المثال السابق تبين كيف للعامل الأول والرابع التسبب في زيادة الأسعار.
- لكن لم لا يوفر الموردون المزيد من السلع للموازنة بين هذين العاملين؟ هذا يرجع للضغوط التي ستتعرض لها مستويات الأجور وأسعار المدخلات، وهي بنود سترتفع بطبيعة الحال مع زيادة المعروض النقدي، بحسب موقع "ثوت كو" للمحتوى التعليمي.
- الأجور هي بالأساس أسعار يدفعها أصحاب العمل مقابل مجهود العامل في إنجاز المهام، وسيكون من المستحيل أن تظل دون تغير، والعمل الإضافي يعني تكاليف إضافية، علاوة على أن مواصلة الدوام لمدة 12 ساعة ستؤثر في إنتاجية الموظف الذي اعتاد العمل 8 ساعات فقط يوميًا.
- العديد من الشركات ستحتاج لتوظيف عمالة إضافية، وبطبيعة الحال الطلب على العمالة سيؤدي إلى رفع الأجور في إطار تسابق الشركات لاستقطاب العمال إليها، كما ستعمل جهات التوظيف على حث العاملين الحاليين على عدم التقاعد.
- مع تزايد الضغوط في سوق العمل وزيادة الأجور، سيعني ذلك ارتفاع في تكاليف المنتج أيضًا، وكل هذه التداعيات ترجح عدم ميل المنتجين إلى زيادة الإنتاج لتفادي كل هذه الاضطرابات المزعزعة.
- في نهاية المطاف، تعزز هذه الأسباب الإيمان بأن الزيادة الكبيرة في المعروض النقدي قد تبدو في ظاهرها فكرة جيدة، لكنها لن تكون حلًا للثراء الجماعي والتغلب على اضطرابات الاقتصاد، فبما أن نفس العدد من الناس يسعون للاستحواذ على نفس الكمية من المنتجات، لا يمكن أن يكونوا (في المتوسط) أكثر ثراءً مما كانوا عليه لمجرد امتلاكهم أرقامًا أكبر من المال.
- من مساوئ التضخم أنه يخفض قيمة المدخرات، بمعنى أنه إذا كانت الأسرة تدخر 10 آلاف دولار فمع ارتفاع الأسعار تفقد هذه الأموال جزءا من قدرتها الشرائية، وكان هذا المثال جليًا في ألمانيا خلال عشرينيات القرن الماضي، حينما كان مبلغ مليون مارك عام 1921 يساوي الكثير قبل أن يصبح بلا قيمة تقريبًا خلال عامين بضغط من التضخم المفرط.
- إذا ارتفع التضخم إلى مستويات كبيرة، فيصبح من الصعب عقد المعاملات، نظرًا للتقلب السريع في الأسعار، ويتعين على الشركات زيادة إنفاقها على قوائم الأسعار المتغيرة، وفي المثال الألماني كان يحصل المواطنون على رواتبهم مرتين في اليوم، وإذا لم يتسن لهم شراء الخبز على الفور ربما لن يكون بمقدورهم توفير ثمنه.
- هذه التقلبات الحادة تزعزع استقرار الاقتصاد، كما أن التضخم المرتفع يخلق حالة من عدم اليقين، ويثني الشركات عن الاستثمار، ويضعف قيمة العملة المحلية مقابل نظيرتها الأجنبية، وقد يقود طبعًا إلى انخفاض النمو في البلاد.
طباعة المال وسداد الديون
- تقترض الحكومات عن طريق بيع السندات (التي تعد شكلًا من أشكال الادخار) للقطاع الخاص، ويقبل الناس على هذه المنتجات باعتبارها استثمارًا آمنًا، وذلك طبعًا مع افتراض أن التضخم سيظل منخفضًا.
- إذا طبعت الحكومات مزيدًا من الأموال لسداد ديونها، فإن التضخم سيرتفع، وهذه الزيادة ستؤدي إلى تآكل قيمة السندات، وفي هذه الحالة لن يرغب أحد في الاحتفاظ بالسندات، وستجد الحكومات صعوبة في بيع المزيد منها لتمويل الدين الوطني وسيكون عليها دفع فائدة أعلى لجذب المستثمرين.
- إذا طبعت الحكومة الكثير من المال ودفعت التضخم إلى مستويات جامحة، فلن يثق المستثمرون بها، وسيكون من الصعب على الدولة اقتراض أي أموال على الإطلاق، لذلك فإن طباعة النقود يمكنها خلق مشاكل أكثر مما تعالج.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}