جاءت أطول فترة شهد الاقتصاد الأمريكي فيها انتعاشاً ونمواً بين عامي 1991 إلى 2001، إذ ظل الاقتصاد طيلة 120 شهراً في حالة من الرواج حتى انفجرت "فقاعة الإنترنت" وعاد الاقتصاد لتصبح قيم النمو الاقتصادي سالبة.
وفي الوقت الحالي يكاد الاقتصاد الأمريكي يعادل أطول دورة نمو في تاريخه على الإطلاق، بمواصلته للنمو منذ يونيو 2009 حتى ديسمبر 2018، غير أن كثيرين يشككون في استمرار هذا النمو الأمريكي، بل والعالمي بالتأكيد على أن "الدورة الاقتصادية" وصلت إلى القمة وأنها ستبدأ في التراجع.
ومع تراجع معدلات النمو الأمريكي بعد وصولها لأرقام قياسية، ومعاناة القطاع الصناعي في أوروبا، ولا سيما في ألمانيا، وتحقيق الصين لأدنى مبيعاتها في تجارة التجزئة منذ 15 عاماً يبدو أن الاقتصاد في سبيله للتباطؤ بالفعل، بما يثير التساؤلات حول مفهوم الدورات الاقتصادية، ولماذا تنتعش الاقتصادات ثم تعود لتنكمش، وكيف حدث هذا من قبل وكيف يعود الاقتصاد مجدداً الآن.
أما عن مفهوم الدورة الاقتصادية فيمكن القول بأنها تمر بعدة مراحل:
مرحلة التوسع:
تشهد كافة المؤشرات الاقتصادية فيها نمواً، من نسب التوظيف إلى مستويات العرض والطلب والمبيعات، فضلاً عن أرباح الشركات وأجور الموظفين، كما تزداد كافة أسعار عناصر كافة الإنتاج من عمالة ورأسمال ومواد أولية، فضلاً عن ارتفاع أسعار الفائدة بسبب الطلب الكبير من الشركات على الاقتراض.
مرحلة القمة:
وهي المرحلة التي وصل الكثير من الاقتصادات إليها حالياً، ويقصد بها وصول معدلات التوسع والنمو في الاقتصاد إلى مرحلة قياسية، وعلى الرغم من ذلك فإن مؤشرات الاستهلاك وثقة المستهلك والمنتج على حد سواء تبدأ في التراجع.
فالناتج الحقيقي للدولة يستمر في النمو ليصل إلى نسب قياسية، غير أن نسب النمو تتراجع كثيراً عما كان عليه الأمر سابقاً، ليوحي باتجاه سالب للاقتصاد، وليمهد الطريق أمام المرحلة الثالثة.
مرحلة الركود:
في مرحلة القمة يبدأ الطلب في التراجع، وغالباً لا يدرك المنتجون ذلك بشكل مباشر ويبقى إنتاجهم في نفس المستويات العالية، ولذلك تحدث صدمة في الأسواق باتضاح وجود زيادة ملموسة في العرض عن الطلب، بما يبدأ مرحلة الركود رسمياً.
ومع إدراك المنتجين لذلك يبدأون في تقليص إنتاجهم والتوقف عن إنتاج بعض السلع، وعلى الرغم من أن الأزمة غالباً ما تظهر في بعض الصناعات دون غيرها، إلا أنها سرعان ما تؤثر في الاقتصاد بأكمله، لتبدأ الصناعات كلها في التخلص من العمالة وتقليص المواد الخام المستخدمة، بما ينعكس تراجعاً في سعر كافة مدخلات عملية الإنتاج.
مرحلة المنخفض
ويقصد بها اتضاح آثار الركود على العجلة الاقتصادية، فالأسعار تنخفض بما يقضي على نشاطات اقتصادية، فتزداد معدلات الإفلاس، فتحجم البنوك عن الإقراض، وتتراجع الأجور وأسعار المواد الخام، ويحجم المستثمرون عن الاشتراك في سوق الأسهم لحساب الاستثمارات الأعلى أمناً كالمعادن النفسية والعقارات.
مرحلة التعافي
عندما يصل الاقتصاد إلى "قعر" الدورة الاقتصادية فإن المستهلكين عادة ما يقدمون على زيادة ما يشترون بعد التأكد من عدم انخفاض السلع أكثر من ذلك، وبالتالي يصبح الانتظار غير مجدٍ، بينما تقوم الشركات بتوظيف المزيد من العمالة لمواجهة هذا الطلب وأيضاً في ظل وصول معدلات الأجور إلى حدودها الدنيا بما يسمح بالتوسع في عدد الموظفين.
لماذا يحدث الانتعاش والانكماش؟
لا يوجد زمن محدد للدورة الاقتصادية، فمنذ بدء الإحصاء الاقتصادي في الولايات المتحدة عام 1854، مر اقتصادها بأربع وثلاثين دورة اقتصادية، بين انكماش وانتعاش، اختلفت جميعاً في فتراتها الزمنية بشكل كبير، ومر بـ12 دورة اقتصادية منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية والتي يعتبرها الاقتصاديون بمثابة "عصر الاقتصاد الحديث".
وإذا اعتبرنا نقطة الانطلاق للتاريخ الاقتصادي الحديث هي الكساد الكبير في الثلاثينيات، فقد شهد الاقتصاد حالة من التراجع الاستثنائي بسبب انهيار الأسواق المالية وتراجع كبير في الإنتاج الزراعي منذ أغسطس عام 1929 حتى مارس 1933.
واللافت هنا أن عودة الاقتصاد للانتعاش أتت نتيجة لتشارك كافة قطاعات الاقتصاد فقد أقر الكونجرس 16 تشريعاً شملت قوانين "طوارئ" للبنوك، وألزمت المصارف كلها بإقفال أبوابها وألا تفتح أياً منها إلا بعد الحصول على شهادة من الحكومة بأنها "آمنة مالياً"، ووفر هذا عنصر "الثقة" في النظام المالي.
كما اقتطع الكونجرس 15% من النفقات العسكرية وخصصها للإنفاق على الجوانب المدنية، بما وفر قرابة المليار دولار وقتها تم استخدامها لعمل حالة من الرواج في الأسواق، لعل أبرزها مشروع استزراع الغابات الذي ساهم بتوظيف ثلاثة ملايين شخص خلال 10 أعوام، بما رفع من مستوى السيولة وقلص من نسب البطالة.
وشملت القرارات حينها مجموعة من التعديلات الخاصة بإلغاء الاعتماد على نظام تقييم العملة بالذهب، وإعادة جدولة لديون مالكي المنازل، وتعديلات لقانون الزراعة.
الفائدة والانتعاش
اللافت أن كافة تلك القوانين والقرارات جاءت في زمن قصير للغاية (حوالي 3 أشهر بين أولها وآخرها)، وذلك حتى تحدث الأثر المطلوب لها، ولكي تنمو الوظائف بالتزامن مع تراجع معدلات الفائدة وزيادة مستوى السيولة في الأسواق ورفع مستويات العرض والطلب بما يحرك الاقتصاد ككتلة واحدة ولا يعالج جزئية ويترك بقية الجزئيات.
واستمر انتعاش الاقتصاد حينها أربعة أعوام (أبريل 1933-أبريل 1937) حتى اضطرت الحكومة الأمريكية لتقليص العجز في الموازنة من خلال خفض النفقات، بما أعاد الاقتصاد إلى انكماش آخر.
وبعدها بقي الاقتصاد الأمريكي يتوسع وينكمش، فالحرب العالمية الثانية أعادته للانتعاش، ونهايتها أدت لانكماش، وخطة إنقاذ أوروبا ومشروع "مارشال" أعاد إحياءه، قبل أن يتراجع بعد اضطرار الاقتصاد للتكيف مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وتغيير طبيعة الإنتاج، لينتعش مجدداً بسبب الحرب الكورية، ويتراجع بعد انتهائها.
ومن منتصف الخمسينيات إلى عام 1973 كان معدل الفائدة الأمريكي هو العامل الحاسم في دعم نمو الاقتصاد أو دفعه للتراجع، حتى جاءت أصعب فترات الاقتصاد الأمريكي بسبب الركود التضخمي الذي أصاب الاقتصاد بين نوفمبر 1973 ومارس 1975 بسبب عوامل عدة من بينها قوانين أقرها الرئيس الأسبق "نيكسون" حول التحكم في الأسعار والأجور، فضلاً عن الارتفاع المفاجئ وغير المتوقع في أسعار النفط حينها.
ولم يتخلص الاقتصاد من هذا التراجع إلا بعد خفض الفائدة إلى مستوى 4.75% نقطة، قبل أن يضطر لرفعها إلى ما يقارب 20% في الثمانينيات للسيطرة على التضخم المتفاقم، لينكمش الاقتصاد مجدداً، وليعود سعر الفائدة ليصبح العنصر الأساسي في التحكم في النمو الاقتصادي حتى بداية الألفية الثالثة.
الدورة الاقتصادية الحالية
في عام 2001 شهدت الولايات المتحدة ركوداً لبضعة أشهر بسبب انهيار سوق الأسهم وارتفاع معدلات الفائدة، قبل أن يؤدي التوسع في السوق المالية، وسوق الرهن العقاري إلى انتعاش تاريخي حتى ديسمبر 2007 حيث بدأت الأزمة المالية العالمية واستمر تأثيرها حتى منتصف 2009.
وفي كل تجارب الدورات الاقتصادية جاء الأمر بالوسيلة نفسها، انتعاش اقتصادي بسبب تدني أسعار فائدة، ثم نمو متسارع يؤدي إلى تضخم في قطاع أو أكثر لتنفجر فقاعة هذا القطاع ويعود الاقتصاد للبحث عن سبل جديدة للنمو.
أما في وقتنا الحالي فيعتبر "أردفان موباشري" أستاذ الاقتصاد في جامعة "ريتشموند"، في دراسة له، أن الاقتصاد وصل إلى المرحلة التي يصبح معها بلوغه مرحلة الركود حتمياً خلال 2019، أو الذي يليه على أقصى تقدير في ظل ما يمكن تعلمه من التجارب التاريخية السابقة، فضلاً عن وصول اقتصادات عدة للقمة في وقت واحد بما يوحي بتراجع للجميع في وقت واحد أيضاً، وينذر باقتصاد عالمي متباطئ للغاية إن لم يكن بنمو سالب.
ويضيف "موباشري" أن الأزمة الحقيقية التي تعترض الدورة الاقتصادية الحالية هي أن تراجعها سيأتي على أكثر من صعيد في نفس الوقت، بأزمة تمويل حكومية، وأزمة ديون عالمية، مع تراجع في حركة التجارة العالمية بفعل تنامي الإجراءات الحمائية بما قد ينعكس تراجعاً حاداً ومفاجئاً في الكثير من الاقتصادات.
ويُحذر من أنه إذا لم يتم إقرار قواعد أكثر صرامة في مجال البنوك والأسواق المالية فإن الدورة الاقتصادية لن تنتهي سريعاً كسابقاتها منذ الحرب العالمية الثانية، بل ستستمر إلى مدى غير معلوم، انتظاراً لحرب تنعش الاقتصاد أو تغيير جذري في معادلات الإنتاج يضيف آفاقاً جديدة للنمو والتوسع.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}